العقل العربي وأوهام ( بيكون )
هناك قاعدة جميلة آمنت بها عندما كنت شابة في مقتبل العمر تقول ( قبول المحل لشيء مشروط بخلوه من ضده) وهذه القاعدة تنطبق على التفكير عند الكثيرين من أبناء مجتمعنا لاسيما من يعدون أنفسهم من المثقفين ، إذ لا يمكن لأحدهم أن يحمل في عقله الفكر العلمي الفلسفي الموضوعي ما لم
يتخلص مما تم حشو عقله به من فكر خرافي وأوهام ما أنزل الله بها من سلطان خاصة من أؤلئك الرجال الذين هم وما يحملون من فكر من بقايا عصور التخلف والانحطاط التي مرت ولا تزال بها الأمة العربية والإسلامية .
ولا يمكن التخلص من طرق التفكير السائدة والمضادة للعلم والعقل الا عن طريق الأدوات والمناهج العقلية التي لعبت الفلسفة والفلاسفة دورا مهما في تغييرها عبر العصور وهذا ما حدث في أوربا إبان عصر النهضة ، لكن ذلك التغيير لم يحدث خلال جيل أو جيلين بل أخذ قرونا حتى تحرر العقل الأوربي من أشكال التفكير التي كانت تعيق حركة تقدمه فتم بذلك إعادة بناء العقل من جديد .
أما ما يحدث عندنا فهو العكس تماما فرغم التغير في البنية المادية (سيارات – جوالات – انترنت –لابتوب )إلا أن ذلك لم يتزامن مع تغيرات علمية وفكرية وثقافية لإعادة بناء العقل العربي على أسس علمية أو عقلانية تتناسب مع هذه التغيرات . فأصبحنا نعيش في واقع جديد، ونستخدم أحدث الوسائل التكنولوجية، لكننا لا نفكر بالطريقة والعقلية التي أنتجت هذه الأدوات أو صنعتها. وقد خلق هذا الوضع أشبه ما يكون بالازدواجية، أو حالة فصام مع الواقع، بحيث يعيش المرء في واقع ويستخدم ما هو جديد، لكن يفكر بطريقة لا صلة لها بهذا الواقع ومستجداته فينتج عن ذلك ممارسات لا تتفق مع أصول وكيفية استخدام ما هو جديد.(فقد تجد أحدهم يملك جوالا متصلا بالانترنت أو يملك لابتوب ويدخل بسهولة إلى الشبكات العالمية لكنه يحلم بأن التغيير على الأرض لا يمكن أن يتم إلا بظهور الغائب المنتظر).
في هذا الصدد يمكن تحديد عدد من الجوانب الفكرية التي تتسم بها طريقة التفكير السائدة في مجتمعاتنا وأولها احتكار الحقيقة. تنتشر ظاهرة احتكار الحقيقة بين الأفراد وشرائح اجتماعية مختلفة وهي ذات طابع طائفي أو إيديولوجي أو عرقي أو ثقافي. إذ يعتقد الكثير أن ما يؤمنون به أيًا كان مصدره، طائفيًا أو عرقيًا أو غيره هو الحقيقة، ومن يختلف معهم فهو على باطل. ويتسم هذا النمط من التفكير بالجمود وفي الوقت نفسه بالشمولية ومن نتائجه غياب أي شكل من أشكال الحوار وتسيد ظاهرة إقصاء الآخر واستخدام العنف في بعض الأحيان والترهيب في فرض الآراء والاعتقادات على الآخرين.. وقد نتج عن ذلك سيادة أنماط من التفكير لا صلة لها بطابع التفكير العقلاني والعلمي، مثل التفكير الغائي وصياغة الأحداث بطريقة التفكير الخرافية أو الأسطورية، علاوة على إفراط البعض في الغيبيات، والدعوة إلى نبذ التفكير في عالم الواقع واستبداله بعوالم أخرى. وهذا في مجمله يعكس الأسس التي تقوم عليها عملية تفسير الطبيعة والواقع والظواهر والمشكلات التي تتم فيه. فكل طرق التفكير غير العلمية وغير العقلانية تنطلق من أسس ذاتية صرفة في تفسير الظواهر والأحداث، سواء في الطبيعة أو في واقع الحياة اليومي. بمعنى آخر إن طرق التفكير السائدة في مجتمعاتنا ساهمت بشكل كبير في إعاقة أو إحداث تقدم ثقافي أو علمي حقيقي، مثلما كانت هذه الطريقة تعيق التقدم العلمي والثقافي في أوربا أثناء فترة العصور الوسطى، ولم تقم للتطور قائمة في أوربا إلا بعد أن تخلصت من طرق التفكير غير العلمية التي هيمنت عليها سابقًا. فمن الواضح إذن أن طريقة التفكير هي التي تلعب الدور الأساسي في إحداث التغييرات الثقافية والفكرية في المجتمع فأي طريقة تفكير لها ثقافتها الخاصة بها التي تميزها عن طرق التفكير الأخرى، وبما أن الخلل يكمن في التفكير فلا يمكن أن يعالج إلا بالأساليب والأدوات والمناهج الفكرية التي تتوافر في التراث الفلسفي والذي مارس من خلاله الفلاسفة التأثير الأكبر في إحداث نقلات نوعية من التفكير على مر العصور.
وفي مرحلة التحول التي عاشتها أوربا ظهر العديد من الفلاسفة الذين قاموا بنقد طرق التفكير السائدة في مجتمعاتهم كل بطريقته ورؤيته الخاصة.
وقد طرح الفيلسوف التجريبي الإنجليزي " فرانسيس بيكون " أوهامه الأربعة الشهيرة، التي نقد بها طرق التفكير غير العلمية والمفتقرة إلى المنهجية والموضوعية وهي : أوهام الجنس (أو النوع) والكهف والسوق والمسرح.
وهذه الأوهام شبيهة إلى حد كبير بما هو سائد في ثقافتنا من أوهام ومسلمات بأمور غير خاضعة للجدل والنقاش، والتي تشل في حقيقة الأمر أي نوع من أنواع التفكير النقدي الحر وتفتقر إلى الأدلة والبراهين المادية التي تدعمها .
1 - أوهام الجنس أو(النوع) : انتقد فيها كون «الحواس البشرية - التي تتخذ مقياسًا للأشياء جميعًا - معرضة للخطأ، وعقل الإنسان أشبه بمرآة غير مصقولة تضفي خصائصها الخاصة على الأشياء، وتشوه صورتها». إن ما يذهب إليه بيكون هنا هو ما تمت الإشارة إليه سابقًا حول تغليب الجوانب الذاتية في تفسير الظواهر الطبيعية والأحداث بطريقة مختلفة عمّا هي عليه في واقع الأمر كما هو شائع عندنا، وإسباغ التمنيات والرغبات والمواقف الذاتية عليها، أي أن العقل يفرض منطقه ونظامه الخاص على الأشياء والظواهر ويفسرها بمنطق ذاتي بعيد عن الموضوعية وعن منطقها الطبيعي.
2 - أوهام الكهف : هي الأوهام «الفردية التي يقع فيها كل شخص نتيجة تكوينه الخاص». إن أكثر ما يدفع المرء إلى العيش في الأوهام هو طريقة التفكير التي يفكر بها، والتي تأتي نتيجة، في معظم الأحيان، من واقع الثقافة السائدة في المجتمع. فإذا كانت هذه الثقافة تفتقر إلى التفكير الواقعي والنظر للأمور بموضوعية وتجرد، فستكون أرضًا خصبة للأفكار الوهمية، التي لا صلة لها بالواقع. ومع الأسف فإن هذه الظاهرة منتشرة بشكل كبير لا بين العامة فقط، بل حتى بين بعض شرائح المتعلمين والمثقفين السياسيين والحكام الذين يحلمون بعوالم مثالية، أو يسبغون على أنفسهم هالات من العظمة أو التقديس، ظنًَا منهم أنهم عمالقة في تخصصاتهم أو المعرفة التي يحملونها. علمًا بأن كل المعرفة التي يملكونها هي في الأغلب مستوردة من الخارج، ناهيك - بالطبع - عن الأوهام المتفشية بين العامة كالخرافة والقصص الأسطورية الخارقة للعادة، والتي تتقبلها طريقة التفكير المبنية على الوهم وأسس مفارقة للواقع.
3 - أوهام السوق : تعد أوهام السوق التي تحدث عنها بيكون من أكثر أنواع الأوهام خطورة.( فقد شبه عملية تبادل الأفكار في المجتمع بعملية التبادل التجاري بالسوق). فأي فرد يعيش في مجتمع ما سيتبادل مع الآخرين الأفكار السائدة فيه من خلال اللغة، التي تعتبر وسيلة التعبير عن الأفكار، وأداة توصيلها للآخرين، أي أن اللغة لا تنقل ألفاظًا فقط، بل أفكار يمكن أن تتشكّل العقول بناء عليها. وإذا كانت اللغة السائدة حبلى بالكثير من الأفكار غير الواقعية، فسيكون خطرها الفكري كبيرًا على طريقة تفكير العامة. فهناك الكثير من الألفاظ الشائعة الاستعمال، إما تعبر عن موضوعات وهمية أو تفتقر إلى الدقة والتحديد، ولا تخضع في الوقت نفسه للنقد أو التحليل نتيجة لطابعها غير الواقعي. ولاشك أن ما أشار إليه بيكون متأصل في ثقافتنا الدارجة، فهي ثقافة غير علمية، أي تفتقر إلى اللغة المعبرة عنها للدقة الموجودة في العلم، فاللغة العلمية تتميز بالدقة والتحديد وتعبيرها عن أمور واقعية مدركة، يقام عليها الدليل والبرهان، بينما تفتقر اللغة غير العلمية إلى ذلك، فهي حبلى بالكثير من الأفكار الذاتية وغير الواقعية، مما ينعكس سلبًا على متلقيها وعلى طريقة تفكيره. ومع الأسف فإن هذه الظاهرة منتشرة في واقع الثقافة العربية بشكل كبير. فالثقافة العربية بشكل عام ثقافة سمعية، أي تتداول فيها الأفكار شفاهة لا عن طريق القراءة أو البحث، ويرجع ذلك إلى أسباب عدة أبرزها نسبة الأمية العالية والمتفشية في الكثير من الشرائح الاجتماعية في مختلف الدول العربية، والتي يعتمد تكوين أفكارها على الشفاهية نتيجة لعدم قدرتها على القراءة والاطلاع. ولا يقتصر الأمر على هذه الشريحة، بل إن شريحة واسعة من المتعلمين تعتمد على نقل أفكارها عبر الثقافة السمعية، وهذه الشريحة تعاني من الأمية الثقافية، وتنتهي عملية القراءة والاطلاع عندها فور الحصول على الشهادة والعمل، وتتحول بعد ذلك إلى تلقي المعرفة الشفاهية دون عناء البحث والتدقيق فيما ينقل من أفكار أو أحداث.
وقد ساهمت الأدوات التكنولوجية المستخدمة في الوسائل الإعلامية في تعزيز هذا الأمر، فعلى الرغم من كثرة المحطات الفضائية، التي تبث مادة مرئية ومسموعة كثيفة، فإنها استخدمت لتعزيز الثقافة السمعية من حيث المادة، التي تعرضها، والتي تفتقر إلى الدقة العلمية، وكون معظمها موجهًا ويخدم أهدافًا سياسية.
ولا تخرج مادتها وطرق نقل أخبارها عن الطرق الدارجة في نقل الفكرة أو المعلومة في ثقافتنا السائدة، فساهمت هذه الوسائل بدورها في تعميق ما أطلق عليه بيكون أوهام السوق، لدرجة أن من يفكر بطريقة عقلانية أو منهجية، ويحرص على الدقة في طرح وتناول موضوعاته، أصبح شاذًا تلصق به مختلف النعوت.
4 - أوهام المسرح: التي يرى فيها بيكون هيمنة أفكار ونظريات القدماء على الأذهان لفترة طويلة، وتقبلها دون إثارة أي تساؤل حولها، من حيث صحتها أو جدواها في الواقع الذي لم تظهر فيه.
وهذه المسألة تعد من بين المسائل المنتشرة في ثقافتنا فهناك العديد من الأفكار والآراء التي لا تزال تهيمن على جوانب عدة من طرق التفكير السائدة في مجتمعاتنا مضى عليها قرون طويلة وتتوارثها الأجيال، وتضفي عليها هالة من القداسة، علاوة على العديد من الشخصيات، التي لا يمكن أن تخضع أفكارها لأي شكل من أشكال النقد، أو حتى المناقشة، ويتم التسليم بأفكارها بشكل تلقائي.
ولم يقف الأمر على الأفكار فقط، بل أصبح الحنين للعودة إلى الماضي وتقديسه ورفض معظم جوانب الحياة المعاصرة علامة بارزة في واقعنا الثقافي والفكري، وكأن ما يجري من تطورات في العالم لا قيمة لها، ولا تعني تلك الفئات في شيء. وقد ساهمت هذه الظاهرة في الجمود الفكري، وعدم إعمال العقل في النظر في المشكلات والظواهر التي نعيشها، وإهمال جوانب التفكير العقلاني والنقدي، كما ساهمت في الوقت نفسه في استمرار صراعات تاريخية سابقة، أصبحنا نتوارثها مع توارث أفكارها وأسلوب الخطاب والأفكار والحجج والصراعات هي هي منذ نشأتها وحتى يومنا هذا بين الفرق المختلفة، لقد صدق بيكون حينما شخّص واقعه الذي كان يمر في فترة تحولات بإطلاقه كلمة «أوهام» على أنماط التفكير السائدة آنذاك، والتي – مع الأسف - تسود في واقعنا الثقافي الحالي، وأنتجت ثقافة الأوهام المنتشرة من المحيط للخليج، التي تفسر العالم بظواهره وأحداثه بطرق لا صلة لها مع الواقع، ولا بالثقافة العلمية والتكنولوجية التي فتحت للإنسان آفاقًا لا نهاية لها، وتغير وجه العالم باضطراد.
إضافة تعليق جديد