آخر الأخبار

قصة الثورة المالوكسية-2

 

تم احتواء الإضراب ,وذلك بطرق "ودية" ,وبسلسلة من الوعود التي لم تنفذ لاحقا ولم يتم اتخاذ أية اجراءات بحق الطلاب كما لم يتم التفتيش عن قادة الإضراب , إلا أننا أخضعنا لمجموعة من المحاضرات "التوجيهية" ,عن أننا في نظام اشتراكي وفي هذة البلدان تمنع الإضرابات عادة ومن الممكن الحصول على المطالب بالطرق "الشرعية", وذلك عن طريق المنظمة الشعبية التي ننتمي إليهاوهي (الشبيبة),ولكننا كنا نعلم جيداأن هذه هي آخر مكان من الممكن أن نلجا له.

وعلى ذكر المنظمات الشعبية ,فقد تم فصلي من الشبيبة مع سبعة من الزملاء (1),والسبب رفضنا دفع ليرتين سوريتين وذلك كتبرع لأمر ما ,وسبب رفضنا كان وقتئذ هو أنه سرت في المدرسة شائعة قوية أن هذا المبلغ إنما يجمع لإقامة حفل غداء على شرف أحد المسؤولين المحليين .

في حين كنا قد نظمّنا تبرعا خاصا بنا لأحد الزملاء وذلك بعد وفاة والده الذي كان يعمل كنجار بيتون,وكان معيل الأسرة الوحيد(2))

لم يكن باستطاعتنا التأكد من هذا الموضوع حينها ,لكن اعتبرنا الأمر كنوع من التحدي ,خاصة أن طريقة جمع المبلغ لم ترق لنا .

وكان العامل الهام الذي جعلنا ننكفىء ونوقف الإضراب هو أن طريقة معالجة الموضوع لم تكن استفزازية ويمكن القول أنها كانت شبه أبويه,على الرغم من أن الإدارة قد حوّلت الموضوع لقضية شخصية تتعلق بي وأرادت معاقبتي باعتباري كنت السبب المباشر للإضراب وعرضتني للفصل  وقتها والذي أنقذني حقا أن والدي كان مدرساوموجها سابقا في الثانوية ومعظم الكادر التعليمي القديم من زملائه إضافة لسجلي الجيد العلمي والشخصي.

يضاف لذلك ,أننا أردنا إيصال رسالة وشعرنا أنها قد وصلت خصوصا فيما يتعلق بالمعاملة مع الطلاب .

  ومع ذلك لم نترك الموضوع , فقد شرعنا بانشاد الأغاني الناقدة,التي تتناول الإدارة والأساتذة الجدد في الساحة وكنت أؤلف القراديات وكان الرفاق يضيفون وينشدون.(3))

 

خرجنا من هذة "الموقعة" نصف منتصرين , لم نقدر على تغيير الكثير واستبدال الاستاذ مفجر الشرارة ,لكن الرسالة وصلت وتغيرت المعاملة حقا ,ولم يعد يجرؤ هذا الاستاذ أو سواه للتعرض الشخصي للطلاب بل وأصبح هذا الاستاذ يلقي دروسة متجنبا النظر إلينا واضعا وجهه باتجاه الخارج أغلب الوقت ,وكان يشعر بحرج كبير, خاصة بعد أن اكتشف أننا كنا المتفوقين على مستوى المدرسة..

وفي نهاية العام الدراسي 1981 كانت علامتنا" نحن المشاكسين" العلامة التامة في مادة هذا الإستاذ.

 

 

 

 

قطع راس القط :

في النصف الثاني من العام 1981و كنا قد ترفعنا إلى الحادي عشر ,حدثت تغيرات دراماتيكية في المدرسة .

فقد تغيّر الجهاز الإداري وجيء بجهاز جديد مختلف كليا عمّا ألفناه ,كان أول وآخر هم لهذا الجهاز هو تطبيق النظام وفرض الهيبة ,وذلك على حساب كل الإعتبارات .

وجاءت الأوامر الصارمة : النظام أولا ,اللباس الإجباري , الإشارات المختلفة , الطاقية,حلاقة الشعر على الصفر ,عدم السماح لأي طالب بالتجول في ساحة وردهات المدرسة أثناء الدروس , حتى في حال تغيب الأستاذ . حصل تذمر كبير بين الطلاب ,واحتدمت المناقشات وكانت تدور حول رفض هذا الواقع الجديد ,وما هي الخطوات التي نستطيع القيام بها .

وباعتبار طلاب البكالوريا هم سادة المدرسة وكانوا يشعرون باعتزاز كبير ويتمتعون بحرية أكبر ,كان التذمر بينهم مضاعفا .

نظمنا عدة لقاءات معهم إن كان في المدرسة أو في الخارج ,واخذنا بمناقشة الأمور المستجدة ,وكانت الجلسة الحاسمة تلك التي جرت في منزل منذر الخطيب بحضور عدد من ممثلي الحادي عشر ,في تلك الجلسة قررنا أن نرفض أمر الحلاقة على الصفر مهما كانت النتائج.

لم تذعن الإدارة ,وأفهمتنا أن هذا الأمر سينفذ تحت طائلة الطرد , وكحل وسط اقترح بعض الزملاء تشكيل وفد مشترك منا ومن طلاب البكالوريا لمقابلة الإدارة وشرح وجهة نظرنا وفعلا تم تشكيل الوفد وكتبنا المطالب على نصف ورقة ,ومنها كما أذكر :تحسين وضع دورات المياة والقاعات,منع مرور الآليات في الشارع المجاور,تغيير بعض المدرسين لضعف مستواهم....وعدد من المطالب الأخرى,وأخيرا التفاوض بشأن تجاوز عقدة الحلاقة على الصفر كأن يتم مثلا تخفيف الشعر أو الحلاقة على الطريقة الانكليزية.

أبدت الإدارة تفهما شكليا ولكن بضيق ونفاذ صبر ,لنفاجىء في اليوم التالي باستدعاء خمسة من طلاب البكالوريا (4)كان من بينهم أعضاء في الوفد الذي قابل الإدارة ,وتبليغهم أمر فصلهم من جميع مدارس سوريا!.

لقد أرادوا قطع راس القط من ليلة العرس ...

وكان لهذا القرار وقع الصاعقة علينا, خيّم وجوم ثقيل على المدرسة ,وأحسسنا بقلق متزايد ونحن نرى تصاعد الإجراءات ووصولها للحد الأقصى ,وفهمنا بأن الإدارة مستعدة للتضحية بكل شيء وأي شيء في سبيل استعادة هيبتها وفرض النظام.

تم فرض الأمر على البقية ونفذت الأوامر تحت طائلة التهديد بأننا سنلقى المصير ذاته إن نحن مضينا في العناد,لقد استتب الأمن .

انصب جام غضبنا على الإدارة ورأينا فيها عدوا مباشرا ,وكذلك على الجواسيس من بيننا والمظليين,حيث فوجئنا أن الإدارة كانت على علم بكل تحركاتنا.

في هذا الجو الملبّد ,بات من المستحيل الحصول على شيء من هذة الإدارة المتعنتة ,لجأنا إلى الدفاع السلبي ولم يتبق بين أيدينا سوى الكلمة والشعر والغناء والتهكم على الإدارة والجهاز التدريسي , وأخذنا نطلق الألقاب عليهم فكنت تجد من بين التسميات" العنيد ,شمشوم الجبار, الششمة,شاعل,السحاحة,مرداس ,بختيشوع ,أبو العباس السفاح ,-وانعكس ذلك أيضا في انعدام التركيز أثناء الدروس .

وكانت العملية التعليمية هي الضحية.

 

 

 

 

لاعقو المبرد:

وقتها لم نكن نعلم أن ما يجري في المدرسة كان يشبه بصور كثيرة ما يحدث في الوطن ككل , ويكاد يكون صورة مصغرة تماما عما يجري في الخارج .من حيث القراربفرض النظام وإعادة الهدوء مع اختلاف الأسباب طبعا ولم يكن لدى أحد الوقت والرغبة في التمييز بين مطالب عادلة ومحقة وتصب لمصلحة الطلاب والعملية التعليمية وبين ما يحدث في الخارج من جرائم يرتكبها قتلة في حق المجتمع والناس.وأن الحكومة كانت قد اتخذت قرارا بفرض الأمن مهما كانت النتائج

لقد دفعنا ثمنا غاليا لعدم ادراكنا الصورة الكبيرة وقتها,.

كان من سوء حظنا أن حركتنا هذه تزامنت مع تلك الأحداث الدموية التي فجرها الإخوان في سوريا,لقد سحقت تحت عسف هذا الصراع..

كتب الكثير ووثقت تلك المرحلة مرارا من الكتاب, وباستبعاد الرواية الرسمية ورواية الإخوان عنها ,يمكن الرجوع إلى شهادات محايدة(5),إضافة لمعايشتنااليومية لتلك الأحداث, وحين أعود لذكر تلك الأحداث-أحداث الإخوان- إنما لأثرها اللاحق والكبير في تقرير مجرى الأمور إن كان على مستوى المدرسة أو على مستوى الوطن ككل.

لم يعد لدي أدنى شك أن هؤلاء قد اعطوا المبرر والدافع وكانوا السبب في القضاء على هامش الحريات "النسبي" المتاح في بداية السبعينيات وعلى الأمل بتحسينه وتوسيعه , وأعطوا المبرر لأجهزة الأمن لكي تطبق على جميع نواحي الحياة بشكل كامل تقريبا.

سيظل جيلي وأجيال أخرى لاحقا يذكرون هؤلاء بالخراب وبالكوارث التي ابتلي بها الوطن,ودخلنا جميعا في إسارها وطبعت المرحلة التالية بطابعها والتي امتدت في بعض جوانبها حتى أيامنا هذة.

ومن هذة النتائج الكارثية: عدا الأرواح البريئة التي أزهقت والكثير منها لم يكن له يد فيما يجري ولكنه وجد مصادفة في ساحة الصراع,تهديد السلم الأهلي ,تفكيك البنى والعلاقات الاجتماعية وتقسيم المجتمع طائفيا ,تدمير الاقتصاد "كان الهدف المفضل لديهم هو حرق المستودعات الحكومية التي تحوي المؤن الغذائيةوتموين الناس",حرف الصراع عن وجهته وتحويله لصراع طائفي,اعطاء المبرر لأجهزة الأمن للنمو والتكاثر والسيطرة على المجتمع وعلى قواه الفاعلة والحية على قاعدة الأمن أولا.

قد يجادل البعض في أن الإخوان وتنظيمهم المسلح,إنما كانوا يدافعون عن أنفسهم في وجه سلطة مستبدة ,وأنهم كانوا يقومون برد الظلم وأن حربهم هي ضد الفساد وتجمع الثروة في أيدي عدد قليل من رجال السلطة ,إلا أن هذا الإدعاء لا يلبث أن يسقط أمام جملة من الوقائع التي لا بد لكل منصف أن يأخذ بها- بل وأعتقد جازما أن هؤلاء بحملتهم العنفية هذة قد حجبوا عن القوى الصاعدة في المجتمع و الناس الراغبين حقا في تصحيح الأمور والمطالبة بالعدالة وتحسين معيشة الناس, الفرصة للقيام بذلك – ولسوف تتأخر محاولات القيام بإصلاح جديد حتى بداية الألفية الثالثة ما سمي بربيع دمشق والذي فشل لأسباب قد نعود لذكرها لاحقا ,ومن هذة الوقائع:

1- إن الأساس الذي قامت عليه حملتهم هو فتوى لابن تيمية من القرن الثاني عشر تكفر من بين جملة من تكفر الطائفة العلوية, تم توزيعها ونشرها على نطاق واسع وشكلت الأساس العقائدي لهؤلاء.

2- استهدافهم لرموز وشخصيات عامة لا علاقة لها بالسلطة ,وتركيزهم على العقول المبدعة والناجحة مهنيا (6))

3- استهداف أناس من طائفة بعينها , والقيام بمجازر جماعية بعد اجراء عملية الفرز الطائفي.(7)و كذلك استهداف الناس العاديين "حزبيين,موظفين, وحتى عمال التنظيفات في مرحلة متأخرة".

4- حرف الصراع والنضال عن مساره الحقيقي ,باعتباره صراعا بين الفئات الفقيرة والمستغلة وشرائح المجتمع الطامحة الى التقدم والتحرر وبناء الوطن على أسس علمية سليمةوبين الطبقة المستغلة وصاحبة النفوذ واصحاب الدكاكين وأفكار القرون الوسطى,وتحويله لصراع طائفي بغيض.

5- حرق المستودعات الحكومية التي تحوي المؤن والحاجات الأساسية للناس.

6- ارتباطهم بأنظمة عربية كانت توفر لهم الدعم الإعلامي والمادي ,إضافة لفتح أراضي هذة الدول لتدريب هؤلاء ,(8)

7- ارتباطهم بأجندات وبرامج خارجية ,وفي أكثر من مرة تم ضبط أسلحة وأجهزة اتصال حديثة أمريكية مع هؤلاء لا يمكن بيعها إلى طرف ثالث إلا بعلم وموافقة الحكومة الأمريكية.

8- غياب البرنامج الوطني لهم,فيما يخص إدارة البلد وكيفية التعامل مع شرائح المجتمع السوري المتنوع مع اشتهار هذا المجتمع تاريخيا بتنوعه وإرثه الحضاري الموغل في الزمن.

قرأنا مبكرا في كليلة ودمنة قصة القط الذي كان يستمتع بلعق الدم المسال على المبرد ليحصل على لذة سريعة عابرة وظل ينزف حتى مات,وكان الإخوان بانغماسهم المتزايد في الدم , يلعقون المبرد وأن هذا الدم هو دمهم في النهاية .

ولن يتأخر حسم السلطة لهذا الموضوع سوى بضعة أشهر ,وحسم ,ولكن بأي ثمن ؟

ربما لم يكن هناك مجال إلا لكسب المعركة لمصلحة أحد الطرفين ,لإنهاء حرب عبثية قامت على مبدأ اضرب واهرب ,ولإسكات موجة انتقادات كبيرة طالت السلطة(9) لعجزها عن إنهاء التمرد باكرا ولعجزها عن حماية أبناء المجتمع المكشوفين والعزل أمام أعمال القتل والإغتيال ؟

 

 

 

.

أتذكر هذة الأحداث الآن ...وأذكر ...
أن قادة هذة الاعتصامات والإضرابات والمشاركين فيها هم الآن:
أطباء,مهندسون,محامون,رجال أعمال ناجحون ليس في سوريا بل في الخارج أيضا , شعراء وكتاب ,خريجو مركز البحوث العلمية ...
أتذكر ذلك وأذكر..
أن هؤلاء تراهم في كل منبر متاح ...ينبرون للرد على اجتراءات الآخرين على الوطن ..
ويحملونه ..في عيونهم وفي قلوبهم ..في قارات الأرض وحيثما حلوا..
مع انهم اتهموا وقتها وصنفوا على أنهم أعداء للبلدوتم رفع التقارير الغزيرة بهم وطرد بعضهم من المدرسة (لاحقا اعتقل بعضهم )..إلى أن وصل الأمر لحد اتهامهم بالمالوكسية ..!

وبدأ يتردد على ألسنة الطلاب وفي سماء مدرسة الشهيد يونس ..اسم غامض مثل الأشباح..
المالوكسية ...المالوكسيون..
من هم ؟ وما هي المالوكسية ؟ هذا ما سنروية في فرصة قادمة..

يتبع......

 

هوامش:

(1)-لا أذكر أنني كنت ملتزما شبيبيا ,إذ لم أحضر اجتماعا قط ولكن يبدو أن التنسيب كان إلزاميا ,وهذة الحادثة كانت غائبة عن الذاكرة لذلك لم أعد أذكر من هم الزملاء اللذين تم فصلهم,إلى أن ذكرني بها الصديق وضاح يوسف.

(2):انظر"

http://mhdar.blogspot.com/2006/04/blog-post_114434315862164252.html

مثلا(3)

http://mhdar.blogspot.com/2006/04/blog-post_06.html

(4)-الطلاب هم:بسام صالح,منذر الخطيب,رفعت ميّا,محسن زينة,نادر محمد.

(5)-انظر مثلاكتابات:باتريك سيل وروبرت فيسك وشهادات السفراء والقناصل الأجانب في سوريا.

(6)-على سبيل المثال :المحامي محمد الفاضل,الذي كان له شرف الدفاع عن الفدائيين بعد عملية ميونيخ,جراح الأعصاب د. محمود شحادة خليل,طبيب القلب د. يوسف الصايغ ,الدكتور محمود شليحة,دكتور يوسف اليوسف ,الدكتور العابد ,الدكتور ابراهيم نعامة,رسام الكاريكاتير علي عزيز,ولم ينج الطلاب الأوائل كذلك ..حتى زاد العدد عن 300 شخصية .

(7)-مثلا مجزرة مدرسة المدفعية.

(8)انظر مثلا الرسالة التي وجّهها الملك حسين لرئيس وزرائه زيد الرفاعي والتي يقر فيها بأن الأردن كان له يد في الدم المراق في سوريا . وكانت تلك الرسالة بمثابة اعتذار بعد عودة العلاقات مع سوريا إلى التحسن وذلك بعد فشل مفاوضات "حسين –بيريز" الشهيرة في لندن وذلك لعدم فوزحزب العمل بالانتخابات وقتها

(9):قصيدة الاستاذ حسن الخير (ماذا أقول) مثلا