آخر الأخبار

الاختلاف والتسامح

الاختلاف هو درجة ما من عدم التطابق بالآراء والأفكار والمعتقدات بين البشر.. إنه تنوع في المصالح غير المتساوية، بل تناقض في المصالح، إنه أيضاً تنوع في الانتماءات الإثنية والقومية والطبقية والدينية والأيديولوجية داخل الوطن والمجتمع. أما التسامح فهو موقف أخلاقي من الآخر مؤسس على حق الآخر بالحرية أولاً، وعلى حق الآخر بارتكاب الخطأ على أنه صح ثانياً، وعلى حق الاختلاف أصلاً.. بهذا الشكل عرف الدكتور أحمد برقاوي الأستاذ في جامعة دمشق الاختلاف والتسامح في محاضرة حملت العنوان نفسه ألقاها مؤخراً في جمعية العاديات في جبلة.
ويشير برقاوي إلى أن كل تضاد وتناقض وصراع هو اختلاف بالضرورة.. ولكن ليس كل اختلاف هو بالضرورة تناقض وتضاد وصراع، ويصل الاختلاف إلى حد التناقض، إذا ماوصلت المصالح بين البشر حداً كبيراً من الاختلاف، كما يصل الاختلاف حد الصراع إذا ما قررت جهة من جهات التناقض أو كلتاهما حسم التناقض واقعياً فيكون حل الصراع عن طريق الغلبة، وأخطر ما يواجه الاختلاف كحالة معيشة هو التعصب، والذي هو حالة وعي بالآخر وموقف منه يقومان على تبنّ أعمى لفكرة ما تصل درجة اليقين المطلق وينظر للآخر المختلف على أنه انزياح عن جادة الصواب وتصل حد نفي الآخر. ‏
فالاختلاف الذي يأخذ صيغة أيديولوجية نافية لحق الآخر هو التعصب في حقيقته، فحين تتحول العصبية إلى التعصب يغدو الحقد الذي ينفي فيه المتعصبون بعضهم نفياً يصل حد القتل. وكل عصبية مهما كانت قبلية، دينية، سياسية، طبقية، قومية أو عرفية حين تصاغ أيديولوجيا نافية للآخر هي عصبية تعصبية. ‏
وأهم مظهر من مظاهر الأيديولوجيا التعصبية، سلوكاً أو فكراً، غياب أي منطق عقلاني في التعامل مع الآخر، وبالتالي غياب أي مظهر من مظاهر التسامح مع المختلفين. ‏
ويرى الدكتور برقاوي أن الصراعات الدينية والطائفية داخل المجتمع ليست سوى تحويل الدين إلى أيديولوجيا تعصبية نافية للآخر، وقد تكون المسألة كلها توظيفاً دينياً لأهداف دنيوية. ويضيف: إن المفهوم الدال على التسامح بين الأديان هو التعايش، إذ من المستحيل أن تعتقد فرقة دينية بمعتقدات فرقة أخرى أو أن يرضى دين بترسيمات دين آخر، وبالتالي من الصعب أن يقوم حوار عقلاني أو أي حوار ذي نتائج تصالحية بين الأديان والشيع، فالمقدسات لا تتحاور أصلاً، فليس هناك إلا خيار وحيد هو التعايش بين البشر، وما التعايش إلا الإقرار بحق الإنسان بالاعتقاد.. فادعاء جماعة من الناس امتلاك الصواب وحدها موقف استبدادي ناف للآخر. ‏
أما حول الاختلاف السياسي فيقول الدكتور البرقاوي هو تعبير عن اختلاف المصالح في النهاية أو عن الاختلاف في التعبير عن المصالح وعن حرية الخيارات السياسية تجاه مشكلات المجتمع والسلطة، وعلامة الصحة في المجتمع المعاصر هو الاختلاف السياسي، ويقوم هنا مفهوم التسامح على الحق في الاختلاف السياسي والحق في التعبير السلمي عن الاختلاف. ‏
وتظهر أهمية مفهوم التسامح في علاقتنا مع الماضي، وأحد أهم الشروط لتعميق التسامح في الحاضر، فتحول الماضي إلى أساس للوعي المعاصر بالعالم هو كارثة تعبر عن مجتمع راكد. ‏
فالتسامح مع الماضي تحرر منه، وشرط أساسي لصناعة الحاضر والمستقبل، وشرط مهم لإقامة علاقات معشرية منطلقة من مفهوم الإنسان. ‏
ويؤكد الدكتور برقاوي أن هناك حداً للتسامح وإلا انقلب إلى خنوع، فلا تسامح مع الاعتداء على الحق وعلى الحرية والكرامة والحياة وعلى المستقبل، وبالتالي لا تسامح مع العنصرية ولا مع الاحتلال لأنه يلغي الحقوق آنفة الذكر. من هنا لا تسامح مع الصهيونية بوصفها أيديولوجيا عنصرية، ولا تسامح مع دولة عنصرية قامت على الاحتلال والقتل والذبح والنيل من الكرامة والحرية أي «إسرائيل» وهنا يغدو مفهوم المقاومة هو الأليق لتأسيس عالم التسامح لأنها تقضي على شروط استمرار العنصرية أيضاً لا تسامح مع الاستبداد لأنه العدو الأكبر للكرامة والحرية ولا تسامح مع أصحاب رؤوس الأموال المولدين للفقرلأن الفقر إهانة مطلقة لحياة الإنسان. ‏
وفي نهاية المطاف فإن دولة التسامح ليست هي التي تسن قانوناً للتسامح بل تلك التي تؤسس قانونها على الحق، والحق المجرد لا قيمة له إلا في تحقيق دولة الحق أي في تعينه واقعياً. ولا يمكن تحقيق مفهوم التسامح واقعياً إلا بتلازم فكرتي الحق والحرية، من هذا المنطلق تكون العلمانية سمة من سمات النظام السياسي محققاً واقعياً للتسامح، لأن العلمانية هي تأكيد حق حرية الاعتقاد دون أي سلطة تفرض على هذا الاعتقاد، والدولة العلمانية هي دولة ديمقراطية بالضرورة وعندها يتعين الشكل الأرقى للتسامح. ‏