ثمة مقولة تنصح كل من يتعرض للأديان الحيّة، أن يمتلك جلدا سميكا، ومن يؤثر السلامة (والوقوف علي الرابية) فتنصحه أن يكتفي بديانات البابليين أو المصريين القدماء وأن يغوص فيها ما شاء ...ومن لا يصدق فليذهب إلي العراق، وليقف في إحدي ساحات الديمقراطية (دام ظلها) ويهمس بفصل الدين عن الدولة !! وإبعاد الفقيه الديني عن التشريع والقانون، وإنهاء وصاية (القوي التراثية) علي الحياة .... النتيجة باعتقادي أن يفصل رأسه عن جسده ويرسل جلده للدبّاغ (وإن كان سميكا)، وما ينطبق علي العراق يمكن تعميمه علي مناطق ودول كثيرة، فالحقيقة ان أطروحة فصل الدين عن الدولة، هي من أكثر الإشكاليات إثارة ومخادعة وأشبه بعلكة يمضغها كل من يريد حل مشاكل العالم (دون حل خيط حذائه) فالقضية ليست فصلا بين خصمين أو ملاكمين، أو فرزا لأراض متنازع عليها، بل واحدة من أخطر المركبات وأكثرها تعقيدا.ومن يتصفح قواميس الحداثة الأوروبية، سيكتشف للوهلة الأولي أننا ضحية لعبث المصطلح، وتزييفه ومسخه، فتلك القواميس تتحدث (حرفيا) عن فصل الدولة عن الكنيسة، (علي الأقل بالألمانية والفرنسية والإنكليزية) وبهذه الدلالة، فإن المصطلح يعكس حقيقة تاريخية، ملخصها، إنتزاع عصا القيادة من يد الكنيسة وتسلمها من قوي الحداثة البرجوازية في القرن (18/ 19) ويلخص فصلا لسلطات الدولة عن سلطة الإكليروس (الذي نصّب نفسه وصيا علي الإنسان والتاريخ). فلو أردنا استنساخ نفس الدلالة في واقعنا العربي لوجب علينا أن نقول بفصل الدولة عن المسجد وليس عن الدين ورب قائل يقول:
ما الفرق طالما أن الطلاق قد حدث فعلا منذ أصبح الإسلام المبكر ملكا، أي.. منذ أن توارثه بنو أمية (وعضّوا عليه بالنواجذ) لكن هذه المقولة تظل فجة، ومتهافتة، لأن الدين (ظل مصدرا للسيادة والمشروعية العليا) واختلط دائما مع الدولة (السلطة) وتماهي معها، وتبادل معها الأدوار والمنافع، في عملية أرجحة واحتواء مزدوج.الدين في جوهره العميق، تصوّرات، أو مسرح لتساؤلات وجودية، تلعب فيه الميتافيزيقيا دور البطولة، لكن هذه التصوّرات تظل (عديمة الجدوي) بدون دراما دينية قصصية، تعيش وتقتات وتلهب المخيال الجمعي (كعقيدة الصلب المسيحية، أو السيرة النبوية، أو ملحمة كربلاء)... وهذه الأخري تظل بدون أهمية إن لم تنخرط في منظومات وأنساق طقوسية، تسكبها أجيال التقديس في وعائها الكبير، الذي يسميه محمد أركون (التراث الكلي)، وهو في حقيقته (أقصد التراث)، عبارة عن قدر يطبخ فيه (التاريخ والميتا تاريخ) وينضج وفق شروط تتحكم بها أطر المعرفة، وأدوات الإنتاج واللغة: الشعر، والحكم، والبلاغة، لنحصي النتيجة علي حساء نسميه بالهوية التاريخية وقاعدة للضمير وأصل للقاعدة القانونية (أم القوانين والتشريعات والأعراف) وبكلمات أبسط فإن الدين (كينبوع للميتافيزيقية النقية) يتحوّل إلي وعاء تاريخي، يحتوي علي كمية قليلة من (الدين)، وكثير من (التراث)، لهذا فإننا أمام تراثات متغيّرة في إحداثيات (الزمكان) تتشابه وتتمايز عن بعضها بما امتصته من تقاليد وقيم ولغات ومعارف سابقة ولاحقة.. ومن يريد إمتحان هذه المقولة، ما عليه إلا أن ينظر إلي المسيحيين العرب، ليكتشف انهم ليسوا (سويديين ولا فرنسيين) بل عرب عاشوا ويعيشون التراث المحيط بهم بكل ما فيه وما عليه (ومارسوا أحيانا طقوس الُثأر البدوية، وجرائم الشرف وغسل العار، ولم يكونوا معنيين كثيرا بالخد الأيسر ولا بالخد الأيمن) كذلك هو حال المسلم الهندي الذي يعكس في ذاته ثقافة الهند وتراثها ولا تهمه مضارب حاتم الطائي ولا بطولات عنترة.
وعودة إلي صدد الموضوع، فإن الفصل بين سلطات الدولة الحداثية والكنيسة، أمر تاريخي ومنجز أوروبي لا غبار عليه، جاء في سياق انتصار الحداثة علي خصومها (ملوك وإقطاع ونبلاء وملاك الأراضي وسلطة الكهنوت الموالية لهم) ولم يأت وفق تأملات فكرية أو عاصفة شعرية. لكنه لا يعني البتة، فصلا بين الدولة والدين، فكلنا يتذكر اللحظة التاريخية، يوم استأذنت الشيوعية بالإنصراف، كيف قرعت أجراس الكنائس في روسيا، (بعد سبعين سنة من الصمت)، وكيف أرخي يلتسين أذنيه أمام بطريرك الكنيسة الروسية، طالبا بركته، وعلي منوّله غزل السيد بوتين وهافل وليش فاليسا... وبرلوسكوني وأرستقراطية أوروبا (المالية والثقافية)، الذين اصطفوا كالتلامذة علي البساط الأحمر في الفاتيكان لنيل البركة والحظوة وتقبيل يد البابا بنيديكت، مهنئين ارتقاءه عرش بطرس الرسول، وكلنا سمع عن أحلام توني بلير، وزيارة القديسين له( في منامات سياسية متحررة من المكبوت الفرويدي)، لكن الحقيقة التي لا مراء فيها، أننا أمام أنساق معرفية وتاريخية متباينة، من السذاجة أن نخلط حابلها بنابلها، فالكنيسة القروسطية، ورغم هيمنتها علي أوروبا (باعتبارها أكبر إقطاعية آنذاك) إلا أن سطوتها علي المناحي الفكرية، والتراث الكتابي، تآكلت وظلت محدودة، بسبب تقوقع الإكليروس داخل لغة وطقوس لاتينية (يجهلها الشعب) وبسبب تمركز الكنيسة حول إدارة وتوزيع القربان المقدس أو حجبه، في حين كانت التخوم البعيدة تتململ وتتمرد، عبر حركات الإصلاح الديني (اللوثرية مثلا) وازدهار الثقافة الكتابية (مطبعة غوتنبرغ) والنهضة الفلسفية والعلمية والنقدية .. أما العالم الإسلامي، فقد لجأ قادته المبكرون إلي تجنب الصدام التاريخي، خصوصا (مع الكنيسة الإمبراطورية المقدسة) ومع خصوم مدججين بتراث كتابي، وفلسفة رواقية مزدهرة مكتفيا بضرب عزلة فكرية حول داره، وجدار تعتيمي، من خلال تطوير علوم كلام (ذات طابع تبريري)، وشروحات لاهوتية إجترارية ومدرسانية، عززها وأبّدها إنتهاء العصر التنويري للقرن الرابع الهجري، ونهاية المعتزلة، وتوقف حركة الترجمة، ورجم الفلسفة، وهزيمة السلالة البويهية السامانية المثقفة بانتصار جحافل البداوة السلجوقية (التي قدمت من سهوب آسيا واعتنقت الإسلام حوالي 1030م وتسننت علي عجل) ليدخل المشرق الإسلامي، سباتا تاريخيا، لم يستيقظ منه إلا علي صوت حوافر خيول نابليون في باحة الأزهر عام 1799م!! ما أردت قوله: ان (التراث الإسلامي) فقد المبادرة التاريخية، منذ زمن طويل (رغم فترة الإنتعاش والتمدد العسكري العثماني)، لأنه استأنس في سكونيته، وتلذذ في مص عظام مدوناته ومقاماته ويقينياته، والتسلي بخيلائه وقصص جواريه وغنائمــــه وإغلاق نوافذ عقله النقدي، تاركا الساحة، مستباحة من لدن إكليروس وظيفته الأولي تقوم علي تعميم أميّة شمولية، بتعليم إجتراري عقـــــيم، في فضاء لغوي، يختزن الكثير من المخاتلة والتورية والنفاق والبلاغة... من هذه الزاوية يبدو لي أننا نعيش في ذمة (الله) لأننا لم ننجز بعد مشروعا حديثا للدولة ولا تصّورا حديثا للدين. فماذا نحن فاعلون؟