آخر الأخبار

الديمقراطية في إطار جدلية الداخل والخارج 2-2

0

قد تنتهي الديمقراطيات إلى مؤسسات قائمة وراسخة تتم إعادة إنتاجها، ونخبة ديمقراطية فعلا تحافظ عليها كفكرة من طوفان الثقافة الجماهيرية غير الديمقراطية، وقد تتحمل الديمقراطية في مراحلها المتأخرة مواقف غير ديمقراطية عند السياسيين إلا بالمعنى الانتهازي وذلك ضمن مؤسسات راسخة وبوجود نخبة ديمقراطية في السياسة والجامعات وفي غابة إعلامية لا تمت لقيم الديمقراطية بصلة، ولكني لا أعتقد أنه يمكن البدء ببناء ديمقراطية بهذه النفسيات التي انتهت إليها الديمقراطية المتأخرة، وما كان بإمكان سياسيي اليوم الانتهازيين في الغرب من أمثال بوش إلى أصغر مهني حزبي وكاتب خطابات بناء أي ديمقراطية·

كاريزما

وبهذا المعنى فإن نموذج هوغو شافيز وحسن نصر الله ولولا في البرازيل هذه الأيام مثلا أقرب في بنيته الأخلاقية، وليس في أفكاره وأهدافه، إلى ثورية الديمقراطيين المؤسسين من سياسيين عرب يناط بهم أمريكيا أو يريدون أن تناط بهم مسألة بناء الديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير ، ولا حاجة لتعداد الأسماء فهي معروفة·

أرى قلة من الديمقراطيين وشحة في النفسيات الإصلاحية في الحركة التي تتكيف حاليا مع الضغط الأمريكي للحفاظ على حكم النخب نفسها في المنطقة والمسألة ليست مسألة كاريزما إطلاقا، الكاريزما فعلا غير موجودة، ولكن ليس نقصها هو المثير، فقد رأينا في هذه المنطقة وغيرها من مناطق العالم الثالث كارزميين كثيري الألوان Colorful وشديدي الغرابة جذبوا الصحافيين والصحافيات لمقابلات مثيرة ولكنهم لم يبقوا حجرا على حجر في مجتمعاتهم ولا حتى مما بناه الاستعمار فيها من مظاهر عمرانية، لا حاجة لكاريزما الزعماء غريبي الأطوار·

المزعج وجوديا هو غياب الرؤيا، وغياب التطلع إلى مجتمع أكثر عدلا، وغياب الحماس للعدل والإنصاف الذي ميز دعاة بناء الديمقراطية حيث لم تكن موجودة· تبدأ في الشرق الأوسط الكبير ديمقراطية البعض حياتها بانحلال سياسيي الصفقات والائتلافات الحزبية الذي يميز مراحل متأخرة من الديمقراطية·

لا يعقل أن يتم في مرحلة التأسيس التعامل مع الديمقراطية بمصطلحات جاهزة من خطابات جورج بوش وكتبتها الأصوليين، وأن تستهلك كما يستهلك الهامبورغر أو الكوكا كولا، وأن يسمى المجتهد في جمع الكوبونات والمقارنة بين محل مكدونالدز وآخر وبين مول وآخر فتح حديثا ديمقراطيا·

ما وجه الديمقراطية في توجيه النصائح للفلسطينيين للتخلي عن حقوقهم؟ من ينصح بذلك هو ليس نمط السياسيين الذي يؤسس للديمقراطية· يقف الديمقراطي المؤسّس عند الحقوق ويتمسك بها، وينتفض ضد الظلم، ويرفض فرض القوة بدل إحقاق الحق، ويرى أصلا تناقضا أخلاقيا بين الحق والقوة، كما رأته هنا آرندت مثلا في أطروحتها عن العنف·

ليس الديمقراطي مجرد سياسي مهني في إطار ديمقراطي يبحث عن مصلحته أو مصلحة حزبه بموجب موازين القوى القائمة، فيؤيد قرارالأغلبية الإسرائيلية الديمقراطية مثلا بشأن مستقبل الفلسطينيين، أو يؤيد حق المرأة بالمساواة بما في ذلك حقها هي أيضا في قيادة طائرة تقصف الفلسطينيين مثل الرجل هذه ديمقراطية شكلا، ولكنها تقوم على قيم تكريس قمع واحتلال شعب آخر وتكريس القيم العسكرية التي تكرس دونية المرأة، ليس الديمقراطي هو من يعتبر كالم شارون الرافض للانسحاب ولتنفيذ قرارات مجلس الأمن خطوة إلى الأمام لأنه يتضمن فك ارتباط في قطاع غزة في حين ليس لديه كلمة إيجابية يقولها عن دولة درست الوضع في دولة مجاورة في سياقه الدولي الجديد وقررت سحب قواتها بالكامل من هناك رغم أن قواتها موجودة ضمن اتفاق بين دولتين سياديتين· الديمقراطي في مرحلة التأسيس هو فرد يؤمن بالقيم الديمقراطية ولا يعتبرها حصيلة تبدل مصلحة أو مزاج القوي في عالمنا·

الديمقراطي في مرحلة التأسيس هو فرد يؤمن بالقيم الديمقراطية ولا يعتبرها حصيلة تبدل المصالح في عالمنا

· تم - عن قصد - تسويق التحرك في الشارع اللبناني على أنه ثورة مخملية!!

· إيران تقول إنه ليس لديها سلاح نووي وأمريكا ترد أنها تريد إنتاجه

· نموذج حسن نصر الله وهوغو تشافيز أقرب في الفكرة الى ثورة الديمقراطيين المؤسسين

· هناك عطب بنيوي يجعل الديمقراطية العربية تبدو كأنها مستوردة كنوع من الفاست فود
في خضم طرح مسألة الديمقراطية في إطار جدلية الداخل والخارج تضيع أحيانا الفروق الجوهرية بين عملية بناء وتأسيس الديمقراطية وعملية إعادة إنتاجها لذاتها بعد أن تأسست وصلب عودها، وما يساهم في طمس الفروق أن الديمقراطية تصلنا جاهزة بعد تطور مئات السنين، مما يشجع البعض على التوهم بأنه ليس بحاجة إلى تأسيسها ولا حتى إلى تأسيس العناصر المكونة والآليات الاقتصادية اللازمة لإعادة إنتاجها يوميا، وكأن الانتقال إلى الموقف الديمقراطي هو انتقال من خيار استهلاكي إلى خيار استهلاكي آخر، إلى بضاعة أخرى رائجة، لا تأسيس ولا إعادة إنتاج ومن ناحية أخرى فإن ورود الديمقراطية إلى المنطقة العربية جاهزة يعني أنه لا يمكن تخيل العودة من جديد على بداياتها بحق اقتراع مقصور على فئة صغيرة مثلا ثم تعميمها تدريجيا، كما حصل في تاريخ الديمقراطية في بريطانيا وفي فرنسا وغيرهما، لا يستطيع أحد اليوم تخيل ديمقراطية دون حق اقتراع عام يمارسه حتى غير الديمقراطيين ودون حق ليبرالية وحريات تستفيد منها حتى قوى غير ليبرالية·

لكن وصول الديمقراطية إلينا جاهزة لا يبرر لدعاة الديمقراطية التعامل معها كأنها فاست فود أو تقليعة، كما لا يصح الاعتقاد أنه لا توجد لدينا تجربة نبني عليها، فلا الليبرالية العربية بين الحربين العالميتين كلها أخطاء وارتباط بالاستعمار، ولا القومية الراديكالية من الخمسينات والستينات كلها أخطاء، فقد احتوت بعض عناصر الديمقراطية في ظل أنظمة غير ديمقراطية، ومنها إشراك الجماهير في السياسة وتعميم التعليم، وتعميم توقع وطموح الناس للمساواة والعدالة الاجتماعية، وقد قاد الأخير في ظل عدم تلبيته إلى حركات غير ديمقراطية، بل أصولية مرتدة على الحداثة، في كثير من الحالات التي تحول فيها المجتمع الجماهيري إلى ترييف مدينة لم تستوعبه، ولكن الحركات الديمقراطية الحالية تستطيع أن تستند أيضا إلى هذه القيم المتأصلة جماهيريا بفعل تأثير تيارات الخمسينات والستينات القومية الشعبوية التي خلقت الطموحات ولم تلبّها، فهذه تقاليد وتجارب راكمها مناضلون كانت لديهم نية حسنة على الأقل، وآمنوا فعلا بالمساواة والحرية وإشراك الجماهير ولكنهم انتهوا إلى بناء أنظمة غير ديمقراطية·

إنتاج الديمقراطية

لا شك أن عملية إعادة إنتاج الديمقراطية في البلدان المتطورة وتعميمها من النخبة إلى عامة الناس واختلاطها بالثقافة الجماهيرية وثورة الاتصالات والإعلام قد أنتجت ظواهر من التعفن السياسي تلته مظاهر التعب من السياسة والعزوف عنها وبحث الشباب عن معنى لحياتهم خارج الحيز السياسي· كما ارتبطت صورة العمل السياسي بالتآمر الحزبي والوظائف والانتهازية النفعية وتغير السياسات والمبادىء قبل وبعد الانتخابات، وقبل وبعد ولوج الائتلاف، وتحويل الانتخابات إلى كرنفال والبرلمان إلى سيرك، والمشهدية وحب الظهور والمكاوعة، (التسابق على الكاميرا وعلى الصف الأول بالدفع بالأكواع) والتنافس دون قواعد أخلاقية ضابطة، واستئصال العمود الفقري الأخلاقي من شخصية السياسي بعملية جراحية تجرى عشية ولوج عالم السياسة، والفصل بين الأخلاق والسياسة، وبين الأخلاق الخاصة والعامة·· إلخ·

ويعرف هذه الظواهر ويعاني منها كل من عمل في السياسة البرلمانية وحافظ على حد أدنى من الحساسية، كما يعرفها كل من راقب العلاقة البورنوغرافية القائمة بين الإعلام التجاري والسياسة والتواطؤ بينهما·· وكلها ظواهر من الديمقراطية المتأخرة القادرة على الاستمرار دون ديمقراطيين لأنها ترسخت كتقاليد ومؤسسات قادرة على استيعاب غير الديمقراطيين من صغار السياسيين وممتهني السياسة، وبإمكانها تحمل المطابقة بين الواقعي والانتهازي، ومرادفة النفعية Utalitarianism البراغماتية بالانتفاع والتنفع، وبوسعها تحمل اعتبار الـ ريال بوليتيك نوعا من قابلية السياسي أن يسير على جثث مادية أو معنوية نحو هدفه دون أن يرمش له جفن، واعتبارها موهبة وربما حتى فضيلة وميزة، كما أن بإمكانها تحمل اعتبار إخضاع أي قضية مهما كان شأنها لحب الظهور موهبة إعلامية·

لم تكن هذه أخلاق ولا مرحلة ولا نفسية الديمقراطيين المؤسسين أمثال توماس جفرسون أو دانتون أو مازيني أو لويس بلانك أو أوجست بلانكي أو ماركس أو قادة الشارتيين وغيرهم من الديمقراطيين الراديكاليين الذين شقوا طريق الديمقراطيات الحديثة كحكم الأغلبية ولو كانت غير ليبرالية، ولا كانت هذه أخلاق الليبراليين الأوائل الذين لم يهتموا بحكم الأغلبية بقدر ما اهتموا بالدفاع عن قيم الحرية والملكية الخاصة، ولو في إطار حكم الأقلية، نقول ذلك دون تصديق أسطورتهم، فقد كانوا بشرا يؤمنون بقيم تبدو لنا اليوم رجعية ومحافظة، كما أن بعضهم كان يناقض مبادئه في حياته الشخصية، وتكشف الأبحاث عن تناقضات هائلة في سلوكهم·

ولكنهم كانوا جميعا أصحاب رؤيا راديكالية لا تشتق قيمها من موازين القوى لا المحلية ولا العالمية، ولا تتبنى الديمقراطية كشعار دولي لأن المصلحة باتت تقتضي ذلك، نحن نتحدث عن أناس رأوا في إصلاح النظام السياسي جزءا من تصورهم للعدل والإنصاف في المجتمع، وكانوا سيبدون غير واقعيين، بل رومانسيين في أيامنا التي يتخذ فيها الديمقراطي شكل اليابيز ، وبهذا المعنى نحن نتحدث عن ثوريين في بنيتهم الأخلاقية، وليس عن سياسيين من النوع الذي ينتقل إلى الموقف الديمقراطي لأنه يرى في ذلك مصلحة آنية دون أن يؤمن للحظة بالموقف الديمقراطي في إطار نضال من أجل مجتمع أكثر إنصافا وأكثر عقلانية، ودون أن يؤمن بالمساواة بين المواطنين كقيمة·

قد تنتهي الديمقراطيات إلى مؤسسات قائمة وراسخة تتم إعادة إنتاجها، ونخبة ديمقراطية فعلا تحافظ عليها كفكرة من طوفان الثقافة الجماهيرية غير الديمقراطية، وقد تتحمل الديمقراطية في مراحلها المتأخرة مواقف غير ديمقراطية عند السياسيين إلا بالمعنى الانتهازي وذلك ضمن مؤسسات راسخة وبوجود نخبة ديمقراطية في السياسة والجامعات وفي غابة إعلامية لا تمت لقيم الديمقراطية بصلة، ولكني لا أعتقد أنه يمكن البدء ببناء ديمقراطية بهذه النفسيات التي انتهت إليها الديمقراطية المتأخرة، وما كان بإمكان سياسيي اليوم الانتهازيين في الغرب من أمثال بوش إلى أصغر مهني حزبي وكاتب خطابات بناء أي ديمقراطية·

وبهذا المعنى فإن نموذج هوغو شافيز وحسن نصر الله ولولا في البرازيل هذه الأيام مثلا أقرب في بنيته الأخلاقية، وليس في أفكاره وأهدافه، إلى ثورية الديمقراطيين المؤسسين من سياسيين عرب يناط بهم أمريكيا أو يريدون أن تناط بهم مسألة بناء الديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير ، ولا حاجة لتعداد الأسماء فهي معروفة·

أرى قلة من الديمقراطيين وشحة في النفسيات الإصلاحية في الحركة التي تتكيف حاليا مع الضغط الأمريكي للحفاظ على حكم النخب نفسها في المنطقة والمسألة ليست مسألة كاريزما إطلاقا، الكاريزما فعلا غير موجودة، ولكن ليس نقصها هو المثير، فقد رأينا في هذه المنطقة وغيرها من مناطق العالم الثالث كارزميين كثيري الألوان Colorful وشديدي الغرابة جذبوا الصحافيين والصحافيات لمقابلات مثيرة ولكنهم لم يبقوا حجرا على حجر في مجتمعاتهم ولا حتى مما بناه الاستعمار فيها من مظاهر عمرانية، لا حاجة لكاريزما الزعماء غريبي الأطوار·

المزعج وجوديا هو غياب الرؤيا، وغياب التطلع إلى مجتمع أكثر عدلا، وغياب الحماس للعدل والإنصاف الذي ميز دعاة بناء الديمقراطية حيث لم تكن موجودة· تبدأ في الشرق الأوسط الكبير ديمقراطية البعض حياتها بانحلال سياسيي الصفقات والائتلافات الحزبية الذي يميز مراحل متأخرة من الديمقراطية·

-----------------------------------------
راجع

الجزء الأول من هذة الدراسة

0