يعتبر الموزاييك من أقدم الفنون في العالم فقد ظهر في الألف الرابع قبل الميلاد و قد و جدت أول لوحة موزاييك في بلاد الرافدين. كان الفنانون القدماء يعتمدون على المسامير الفخارية في صنع لوحاتهم ثم يضعونها على سطح من الجبس الأبيض و يقومون باستخدام الفحم لرسم الشكل التصويري للوحة و في النهاية يقومون بوضع المسامير الفخارية. في البداية لم يكونوا يستخدموا الحجارة أو الرقم بل كانوا يقومون بحرق المسامير الفخارية بدرجة تسمح لهم بتدرج الألوان فالفخار المحروق جيدا ً يصبح لونه غامقا ًأما الفخار المحروق قليلا ً يبقى لونه فاتحا ً. و بفضل هذه التدريجات كانوا يشكلوا لوحاتهم. تطور هذا الفن في العهد الروماني فقد استخدم الفنانون الرومان الحجارة. و في العهد البيزنطي استخدموا الحجارة و الرقم. أما في العهد الأموي فقد استخدم الفنانون العرب الزجاج المذهب م الملون و الفصوص الرخامية و الشاهد على ذلك الفن الإسلامي في العهد الأموي هي لوحات الموزاييك التي تزين الجامع الأموي و كذلك لوحات الفسيفساء التي تزين الجامع الأقصى في فلسطين.
لما كان فن الفسيفساء واحد من أقدم الفنون التزينية في منطقة الشرق الأوسط, و تحديدا ً في سوريا, كان لتتابع الحضارات في هذه المنطقة تأثيرا ً كبيرا ً على الفنانين العرب الذين استقوا من تلك الحضارات أنماطا فنية مختلفة. و مازال علماء الآثار يعثرون على المزيد من قطع الفسيفساء القديمة حتى الآن في مدن كثيرة مثل ماري و شهبا و إنطاكية و السويداء و تدمر و حماة و حلب.
من هناك... من المدن المنسية في سوريا... أتى الفنان الشاب أيمن عنان
ليعرض لوحاته في المركز الثقافي السوري في باريس الذي استقبله خلال شهر أيار 2006. قمنا بطرح بعض الأسئلة على الفنان أيمن حول تجربته الفنية فكان لنا معه اللقاء التالي :
- نود لو نعرف لمحة عن مسيرتك الفنية و اهتمامك بهذا الفن.
في الحقيقة, السبب في اختياري لهذا الفن هو أنني أعيش في منطقة مليئة بالآثار و لوحات الموزاييك القديمة. إنها منطقة معرة النعمان في محافظة إدلب و هي من أغنى المناطق الأثرية في سوريا. فيها آلاف الأمتار من لوحات الموزاييك القديمة التي تعود إلى العهدين الروماني و البيزنطي و فيها عدد قليل من اللوحات التي تعود للعهد الهلسنتي. ولدت في هذه المنطقة و رأيت منذ نعومة اظفري تلك اللوحات القديمة. اذكر قصة طريفة مثلا ً عندما كان عمري تسعة سنوات, عندما كنت العب مع أولاد حارتي في قريتي البسيطة و البعيدة عن المدينة. كنا نمشي على الطرقات الترابية على أطراف الحقول و نبحث عن أحجار صغيرة كانت تسمى كعب إبليس في المصطلح الشعبي. كانت هذه القطع الصغيرة تطفو على وجه الأرض بعد المطر و أحيانا بعد الفلاحة اليدوية حيث كان الفلاحون يستخدمون المحاريث البدائية لفلاحة الأرض فتتكسر بعض من تلك اللوحات الأثرية و تتلاشى في الحقول. كنا نجمعها في كيس صغير و نعيد تجميع هذه القطع في لوحات صغيرة متناسقة من حيث اللون و الأشكال الهندسية التي تشكلها. تلك كانت أولى ذكرى لي مع الفسيفساء و الموزاييك.
بعد أن تعلمت في المدرسة, اهتميت كثيرا ً بهذا الفن و كنت احضر المعارض و اقرأ المزيد عن الموزاييك ثم أكملت دراستي الجامعية في بيروت في قسم الفنون الجميلة حتى عام 2003.
- متى بدأت عملك المهني ؟
فور تخرجي بدأت عملي المهني في دمشق و عملت في صالات الديكور و التصميم الداخلي للمنازل وتنسيق الديكور في الحدائق. و أقمت المعارض داخل و خارج سوريا في بلدان مجاورة مثل لبنان و الأردن و تركيا. أحاول أن أطور هذا الفن ليصل الى مرحلة متقدمة و قد تأثرت بالموزاييك الذي رايته في الجامع الأموي بدمشق. فقد طور الفنانون الأمويون فن الموزاييك القديم بعد العهد البيزنطي و أوصلوه الى مرحلة الموزاييك المفضض و المذهب.
- ما هي التقنيات التي تستخدمها في عملك ؟
مازلت استخدم التقنيات القديمة ذاتها التي استخدمت قبل ثلاثة آلاف سنة. استخدم المطرقة في قطع الحجارة الكبيرة ذات الألوان الطبيعية و التي أبحث عنها في الجبال بعيدا ً عن المثبتات و الأصباغ أو الفرن الحراري.
أعود لتقطيع الحجارة بشكل أقلام و بعد ذلك استخدم القطاعة اليدوية و الملقط لإنشاء لوحة.
- كيف تختار مواضيع لوحاتك ؟
عادة ً اختار مواضيع لوحاتي من مشاهد الحياة اليومية و بشكل خاص من الفلكلور و التراث السوري مثلا ً نفذت لوحات عن المعالم الأثرية السورية مثل نواعير حماه أو القلاع مثل قلعة حلب و دير سمعان و آثار تدمر.
أصمم لوحات تمثل الأزياء الشعبية كالأزياء التي ترتديها النساء في ريف و وجوه بعض لأشخاص مثل وجه فتاة صغيرة تجلس على بساط من القش و بجانبها كلبها الصغير.
في الحقيقة أحب الناعورة و أحب الجلوس بجانبها لفترات طويلة لأتأمل العبقرية التي صنعت هذه الآلات منذ القديم. فقمت بتجسيد هذه الأيقونة الطبيعية في احد لوحاتي.
- هل يمكن أن تشرح لنا لوحة المدفن البيزنطي؟
هذه اللوحة تجسد مدفن بيزنطي هرمي قديم في قريتي و هو احد المدافن البيزنطية الوحيدة في معرة النعمان. صممت هذه اللوحة بعد أن تأملت جيدا ً المدفن و التقطت له الصور العديدة. هذه المدافن قديمة جدا ً و نادرة في بلدنا و لا احد يهتم بها للأسف. أحببت أن ابرز القيمة الجمالية لهذا لمدفن كي يراه المشاهد و يتمتع بجماله.
- ما هي الصعوبات التي تواجهها في هذا الفن ؟
هناك صعوبة بالغة في الحصول على الألوان الطبيعية فأحيانا ً احتاج للبحث لمدة شهرين أو ثلاثة في الجبال كي أجد المواد اللونية اللازمة. أما عن التعريف بهذا الفن فأنا افتقر الى الترويج لهذا الفن العريق. و هنا أشكر المركز الثقافي السوري في باريس لاستضافته لي خلال شهر أيار و خصوصا ً مديره الدكتور قاسم مقداد الذي ساعدني كثيرا ً في لإقامة معرضي الأول في باريس. في الحقيقة كثير ممن شاهدوا لوحاتي ابدوا انطباعا ً جيدا ً و أرى أن هذه اللوحات يجب أن تصل إلى شريحة واسعة من الجمهور كي يتعرفوا عن كثب على فن الفسيفساء.
- رغم صعوبة و دقة هذا العمل الفني و ندرة المشتغلين فيه و رغم معرفتك الجيدة بصعوبة تسويق اللوحات فأنت تبدأ حياتك المهنية بتصميم لوحات الموزاييك. ماذا يمكن أن تحدثنا عن مشاريعك المستقبلية ؟
أريد أن أطور تصميم لوحات الفسيفساء كي أوصل هذا الفن إلى مرحلة العالمية حتى يعرف العالم في بلدنا و خارجه الأهمية التي يستحقها هذا الفن. لقد صممت اكبر لوحة في العالم و الآن اعمل على تصميم اصغر لوحة فسيفساء في العالم. و هي لوحة صغيرة جدا ً بحيث أن قياس أكبر حجر واحد و نصف مليمتر و هذا الشيء يحتاج إلى وقت طويل قد يستغرق سنتين و عمل شاق و تركيز عال. و هنا أشير إلى أن أي خطا في تصميم هذه اللوحة لا يمكن الرجوع فيه و قد يستوجب إعادة اللوحة من جديد. فهذا العمل تركبي يعتمد على إدخال الكل في الجزء.
* كاتب من سورية مقيم في باريس
الصور التي ترد في الموقع خاصة للموقع,يسمح بإعادة نشرها بعد الاشارة للمصدر.