ما كدت أغادر المدرسة وأنا في فوعة الشباب, حتى عقد أبي مجلسا ضمّ أصدقاءه للتداول في أمر الحرفة التي
يجب أن أتعلمها, وكان رأي معظمهم, أن حرفة الأدب تتطلب جهدا كبيرا, ووقتا طويلا, ناهيك عن نفقات باهظة, ومال لبد, ليس في قدرة ثروتنا تحملها, إذ كانت زهيدة تحتاج لغوث عاجل. أما ما سوى ذلك فلو أني بدأت بتعلم إحدى الحرف اليدوية التي يحترفونها, فستدر علي عاجلا مالا يكفيني, فلا أظل- وأنا في هذه السن-عبئا ينوء به كاهل أبي, وبوسعي- في النهاية- وقبل مضي زمن طويل أن أسعد قلبه, إذ أمنحه تباعا ما سوف أجنيه.
2 وثمة قضية طرحت على بساط البحث. وهي اختيار الحرفة التي علي أن أتعلمها شريطة أن تكون من خير الحرف وأسهلها في آن معا, والتي تواتي أمرا حرّا, وتستلزم لتأسيسها نفقات قليلة, وتدر ربحا ثابتا.
وبينا كان لفيف يشيد بحرفة, ويمتدح لفيف آخر حرفة أخرى, كل وفق ذوقه أو خبرته, التفت أبي إلى خالي, وقد كان في المجلس- وهو نحات بارع, يعتبر من أشهر النحاتين في تقطيع المرمر- قائلا له: "ليس من حقنا وأنت بيننا أن نفضل حرفة أخرى أيا كان نوعها, فخذه إذا-مشيرا إلي- حتى إذا أمسى لديك علمه ليغدو نحاتا ممتازا في التركيز, ومثالا بارعا, وتلك لعمري حرفة, في مقدوره النجاح فيها, لما له من براعة فطرية تعرفها فيه".
أخال أن ما حدا أبي للاعتقاد بذلك, أنني كنت ألهو بالشمع فآخذه- غبّ مغادرتي المدرسة- وأنحته, وأصوغه على شاكلة البقر والخيل. بل وهيئة الرجال والنساء أيضا, وكان النجاح- على رأي أبي- حليفي في محاكاتها. ويبدو أن ما كان يعرضني من قبل لعقاب أساتذتي بالضرب, أمسى اليوم يرجى لاستعداداتي الطيبة, وعلى هذا فقد علقوا علي أجمل الآمال, إذ خالوا بعد أن لمسوا مواهبي في تلك النماذج, أنني سأحذق هذه الحرفة في برهة وجيزة.
3 وإذ قرروا أن قد حان الوقت للبدء بتمريني, وأسلموني إلى خالي, لم أكن غاضبا لمباشرتي العمل, وقد بدا لي خلافا
لما تصورت, أن هذا العمل يكون مبعث سلوى فاتنة, وأني سأكب تقدير رفاقي, عندما سيشاهدونني أنحت آلهة, وأصنع تماثيل لي ولأصدقائي الخلص. بيد أنه وقع لي في البداية ما يقع عادة للمبتدئين, فقد سلمني خالي إزميلا ورغب إلي بأن أنحت بهدوء, قطعة من مرمر كانت في معمله, مبتدرا إياي بالقول المألوف: " كل شيء يُبدأ به يُعتبر نصف منجز" بيد أنني نظرا لقلة خبرتي, أهويت بضربة قوية جدا على القطعة فتحطمت, مما أثار غضب خالي وحنقه, فتناول عصا كانت هناك, وراح ينسأني بها, ليعلمني فنه على أسلوبه الذي لم يكن البتة لطيفا ولا مشجعا, وهكذا بدأت الحرفة بذرف الدموع.
4 عندها وليت الأدبار من المعمل وذهبت إلى البيت منتحبا, والدموع تملأ عيني, فقصصت على أمي قصة العصا, وأنا أبدي لها آثارها, وشكوت قسوة خالي التي جاوزت حدها, مردفا أنه لم يأخذني هذا المأخذ, إلا عن غيرة فيه وحسد, وإلا عن خشية من أبزه في فنه, مما أثار غضبها, فراحت تؤنب في حنق وغيظ أخاها شرّ تأنيب, وما إن جنّ الليل حتى أسلمت عيني للكرى بعد أن فاضتا بالدمع, ولم أبرح أحلم بالعصا.
5 إلى هنا كانت قصتي مضحكة صبيانية, أما ما سأقصه عليكم بعد الآن يا رفاقي, فشيء لن تعافه نفوسكم, ويستلزم منكم أن ترهفوا إلي أسماعكم... ولكي أروي قصتي كما يروي "هوميروس" أقول: لقد بان لي وأنا نائم حلم إلهي في ليلة إلهية, إنه لحلم واضح بين, لا أخاله يجاوز الحقيقة, ولئن مضى عليه زمن طويل, فإن أشكال الأطياف التي بدت لي, لم تبرح ماثلة أمام عيني, ولم يزل رنين حديثها يتجاوب في مسمعي, لما في الحلم من وضوح.