علّنا نزيل حجرا من حائط العزلة مع كلّ مجموعة ( أو لنكن أكثر تفاؤلا ) مع كلّ عمل نقدّمه للوقيانوس, تلك العزلة التي فرضت أوزارها على شعب أمّتنا العريق, يا أحفاد تلك السنين أفيدوا واستفيدوا.
شخوص المسرحيّة:
زيوس كبير آلهة الأولمب/ هرمس/ فيثاغورس/ ديموقراطس/ هرقليطس/ سقراط/ ديوجين/ قريسيب/ أبيقور/ فيلسوف بيروني/ مشترون من أجناس مختلفة.
زيوس : قم أنت ونضّد الموائد, وأعدّ القاعة لاستقبال من سيجيء, وخذ أنت أصحاب المذاهب ونسقهم, بحيث ينتظمون واحدا إثر واحد, وأعدهم إعدادا حسنا, وهيئهم التهيؤ الصحيح, كيما يجتذبوا أكبر عدد مستطاع من الزبائن... أما أنت.. يا هرمس فكن المنادي, وادع الشارين ليفيدوا من حظوظهم, وليجيئوا إلى قاعة المزاد, لأننا سنعرض عليهم حيوات فلسفية من كل نوع, ومذاهب من كل صنف, وإن لم تكن لديهم دراهم يدفعونها في التّو واللحظة, فسنمهلهم ليسددوا ما عليهم في العام القادم, بعد أن نستلف منهم العربون....
هرمس : لقد أتوا زرافات, ولم يعد في مقدورنا التأجيل, لأن عملنا لن يحتاج إلى التريّث.
زيوس : حسن, فلنبدأ الآن بالبيع.
هرمس : من تبتغي دعوته منهم ليكون أولهم؟
زيوس : هذا الرجل, ذو الشعر الطويل المسدل, هذا الأيوني الذي يبدو أنه شخصية مرموقة.
هرمس : هلم أيها الفيثاغوري, إهبط وأر الجمع وجهك.
زيوس : ناد عليه.
هرمس : أيها السادة, إننا نطرح للبيع أشخاصا من أروع الشخصيات, وأبعدها في الاحترام, فمن يشتريها؟ من تراه يبتغي السمو فوق الإنسانية؟ من تراه يريد معرفة انسجام العالم وأن يحيا من جديد؟
شار : يبدو أنّ له سمتا ينبئ عن شيء من النّبل...ولكن ما مبلغ قدره الأكيد من المعرفة؟
هرمس : الرياضيات إنه يجيد الرياضيات, والفلك, والسحر, كما يجيد الهندسة والموسيقا, والشعوذة, ولعلك ترى فيه عرافا ليس له مثيل.
الشاري : أيمكنني سؤاله؟
هرمس : سله وليسعفك الحظ.
الشاري : من أي بلد أنت؟
الفيثاغوري : من صاموس
الشاري : أين تعلمت؟
الفيثاغوري : في مصر على أيدي حكمائها.
الشاري : حسن, ماذا ستعلمني إن أنا اشتريتك؟
الفيثاغوري : لن أعلمك شيئا, ولكني سأدعك تتذكر.
الشاري : كيف تدعني أتذكر؟
الفيثاغوري : أطهّر في البدء روحك, وأزيل الأوضار التي تعلوها.
الشاري : حسن لنفرض أنها طهّرت, كيف تدعني أتذكر*.
الفيثاغوري : تبقى صامتا أصم أمدا مديدا, ولن تتفوه بكلمة, طوال خمس سنوات كاملة.
الشاري : حسن يا صاحبي, ما عليك إذا إلا تعلم ابن قريزوس* إذ إني مهذار, ولا أود أن أبقى تمثالا جامدا, وعلى الأقل ماذا سأغدو بعد صمت يمتد خمس سنوات؟
الفيثاغوري : ستتمرن على الموسيقا والهندسة.
الشاري : أراك تهزل, أعلي من أجل أن أغدو حكيما, أن أعرف في البدء العزف على القيثار؟
الفيثاغوري : كما ستتعلم كذلك عدّ الأعداد.
الشاري : إني أعرف الآن عدّ الأعداد.
الفيثاغوري : كيف تراك تعد؟
الشاري : 4,3,2,1.....
الفيثاغوري : أرأيت؟ إن ما اعتبرته(4) إن هو إلا (10) وهو في واقع الأمر (10) المثلث الكامل* الذي يمثل قسمنا.
الشاري : كلا, أقسم بقسمكم, هذا العظيم, أني لم أسمع قطّ كلاما أكثر ألوهية, ولا أبلغ قداسة مما سمعت الآن.
الفيثاغوري : ستتعلم بعد ذلك... أيها الأجنبي ما حركة الأرض, والهواء, والماء والنار, وبأي شكل تتحرك؟
الشاري : هل للنار والهواء والماء إذن شكل؟
الفيثاغوري : أجل, وهي مرئية,جدا, لأن ما لا شكل له ولا صورة, ليست له حركة, كما ستتعلم كذلك أن الإله عدد, وأنه عقل وانسجام.
الشاري : إن قولك رائع.
الفيثاغوري : وحين سأشرح لك كل هذا, سأعلمك أنك في الحقيقة غيرك الذي يبدو لك في الظاهر.
الشاري : ماذا عساك تقول؟ أأنا سواي؟ أولست أنا ذاتي الذي أحاورك؟
الفيثاغوري : الآن أنت ذاتك, ولكنك ظهرت قبل الآن في جسد آخر, وباسم غير اسمك, ومن ثمّ ستتحول أيضا إلى جسد آخر.
الشاري : أتريد القول أنني سأغدو خالدا حين أستبدل على التوالي شكلي؟. كفانا خوضا في الحديث, ولنتحدث عن نهج الحياة الذي تنتهجه, فما هو نهجك؟
الفيثاغوري : لا آكل البتة طعاما فيه حياة, ولكنني آكل سواه مستثنيا الفول.
الشاري : ولماذا ذلك, أتعاف الفول؟
الفيثاغوري : كلا, ولكن الفول مقدّس, وطبيعته رائعة, ويحوي جميع العناصر, وإن أنت عرّيت فولة ما برحت خضراء, فسترى أن شكلها يحكي الشكل الذي عليه خصيتي إنسان, وإذا ما طهوتها, وعرّضتها لضوء القمر لعدد من الليالي, فستصنع منها الدم, ولكن الشيء الأهم أن حبات الفول تستعمل في النظام الإثيني لاختيار القضاة.
الشاري : إنك لم تتحدّث إلا عن كل ما هو رائع ومقدس...إخلع الآن ثيابك لأراك عاريا...أي هرقليطس إني وحقك أرى فخذا من ذهب, ويخيل إليّ أنه إله وليس إنسان. مما يغريني بشرائه...بكم تبيعه؟
هرمس : بعشرة مكاييل.
الشاري : إني أشتريه بهذا الثمن.
زيوس : سجّل اسم الشاري وبلده.
هرمس : يبدو يا زيوس أنه إيطالي, يقطن قرب قروطون أو تارانت, أي أنه من إغريق تلك البلاد, ولم يقدم وحده, بل إنهم ثلاثمائة يتقدمون للشّراء مشتركين*.
زيوس : دعهم يأخذوه, وهات آخر.
هرمس : أتودّ أن أدعو هذا الإنسان الزريّ الهيئة, المولود بجانب الجسر*.
زيوس : بالتأكيد.
هرمس : تعال أنت... أنت الذي تحمل جرابا ذا حمّالة, وترتدي قميصا بلا أكمام, تعال وادن من المشترين, أمّا أنتم أيّها المشترون فإني أبيعكم حياة رجل فحل, حياة رفيعة, كريمة, حياة حرّة, فمن يشتريها؟
شار : ماذا قلت أيها المنادي؟ أتبيع إنسانا حرّا؟
هرمس : أجل.
الشاري : ألا تخشى من مقاضاته إيّاك إذ تحوّل رجلا إلى رقيق؟ ..إنه سيشكوك إلى محكمة أثينا.
هرمس : سيّان لديه ما دام يباع, لأنه يخال نفسه في حريّة مطلقة.
الشاري : ولكن أمن الممكن في هذه الحال استخدام إنسان زريّ الهيئة مؤذ, ليس في الوسع جعله طيّانا أو سقّاءا ؟
هرمس : في مقدورك جعله شيئا آخر, وإن أنت صيّرته حاجبا مثلا, فستلقاه أشدّ أمانة من كلب, علما بأنّه يطلق على نفسه اسم كلب.
الشاري : من أي البلاد هو, وأيّ مهنة يمتهن؟
هرمس : خير لك أن تطرح عليه سؤالك.
الشاري : إني فزع من هيئته الوحشية القاتمة, وقد ينبح في وجهي إذا ما دنوت منه, فبحقّ زيوس جنّبه عضّي.... أولم تر إليه كيف رفع علي هراوته, وكيف قطّب بين حاجبيه, ورماني بنظر شزر مهدّدا متوعّدا, وقد بلغ به الغضب مداه واتّقدت عيناه شررا؟
هرمس : إنه أنيس فلا تخف.
الشاري : من أي البلاد أنت يا صاحبي؟
ديوجين : من جميع البلاد.
الشاري : ماذا عساك تقول؟
ديوجين : إن من تراه أمامك مواطن عالمي.
الشاري : ولكن بمن تدّعي الاقتداء به؟
ديوجين : بهرقل.
الشاري : لماذا لم ترتد مثله إذن جلد أسد؟ إنك بهراوتك تبدو في الواقع على شاكلته.
ديوجين : إن جلد الأسد, هو ردائي الذي أمضي به إلى الوغى, أقارع اللذات غير مضطرّ ولا مكره, بل بمحض إرادتي واختياري, آخذا على نفسي عهدا بتطهير الحياة من الشوائب التي علقت بها.
الشاري : إنها لمهمة رائعة, ولكن ماذا تقول عن أحسن ما تعرف؟ وما هي مهنتك؟
ديوجين : تحرير الناس, وتطبيبهم مما يلم بهم من أدواء, وبإيجاز فإنني أبتغي أن أغدو معبرا عن الحقيقة والصراحة.
الشاري : حسن أيها المعبر أيّ السبل ستنتهج في تعليمي إن أنا اشتريتك.
ديوجين : إذا جعلتك مريدا لي, سأبدأ بأن أنزع عنك تراخيك, وأضمك إلى الفقراء, وألبسك ثوبا زريّا, ومن ثمّ فإني سأقسرك على العمل والتعب, وسأضطرّك إلى النوم الخشن, وشرب الماء, وأكل ما يقع بين يديك. أمّا الثراء فإن كنت على نصيب منه, فإني ناصح لك بأن تلقي به من توّك في اليم, ولن تهتم البتّة بامرأة أو ولد أو وطن, لأن كل ذلك سيغدو بالنسبة إليك لغوا وعبثا. وستهجر بيت أبيك الذي نشأت فيه, لتمضي فتسكن رمسا, أو برجا صغيرا مهجورا أو برميلا وستملأ جعبتك دائما وأبدا بالترمس والكتب المطبوعة على الظهر, فإذا ما بلغت هذه الحال فستزهو بأنك أكثر سعادة وهناء من ملك عظيم, وإمّا جلدوك, أو آذوك, أو نكّلو بك تنكيلا, فثق بأن لا شيء من ذلك يؤذيك.
الشاري : ماذا عساك تقول؟ أتريدني ألا أتألم البتة, إذا ما جلدت بالسياط؟ أوَلا يكون لدي في هذه الحال جلد سلحفاة أو سرطان؟
ديوجين : سوف تجرب لك بنفسك, كما ستغير رويدا رويدا كلمة أوريبيد.
الشاري : أي كلمة تعني؟
ديوجين : أعني تلك الكلمة التي يقول فيها, { سيتعذب عقلك, ولكن لسانك لن يعرف العذاب}*.
: وأما ما سنبدأ به فهو هذا, عليك أن تكون سفيها جريئا, وقحا مع الناس على السواء, ملوكا كانوا أم سوقة, لأن ذلك هو الحل الذي يلفت إليك الانتباه, وهو وحده الذي يعطيك صفة الرجولة, وعليك أيا أن تتصنّع لهجة البرابرة, وأن تصرخ بصوت أجش كنباح كلب, وأن تجهّم وجهك وتوفقه مع مشيتك, وبإيجاز عليك أن تكون قاسيا جلفا ووحشا, وأن تطرح عنك الحياء والرقة والقناعة, وأن تمسح عن جبينك كل احمرار مبعثه الخجل, وأن تفتّش عن أماكن مكتظة بالناس, وأن تعيش وحيدا وسط جموعهم, وألا تصادق إنسانا, ولا تدع صديقا أو غريبا يدنو منك, لأن في ذلك فناء ملكك, واصنع بشجاعة وأمام أعين الناس ما يستحي المرء أن يصنعه منفردا, واختر من لذائذ الحب, الأوضاع الأشد سخرية وتبذلا, وابتلع في النهاية إن أعجبك إخطبوطا نيّا أو حبارا وليوافك الأجل إثرها* تلك هي السعادة التي أجلبها لك.
الشاري : تبّا لك, إن علمك خسيس ولا إنساني.
ديوجين : إنه على الأقل, صديق سهل التعلّم, مقبول لدى الجميع, ولن تحتاج معه إلى تثقيف أو درس أو ترّهات, وهو يقصّر الدرب المفضي إلى الشهرة, وإن شئت أن تغدو جاهلا مغمورا, دبّاغا أو بائع سمك, نجّارا أو حرفيّا, فليس ثمّة شيء يحول دونك ودون لفت انتباه الناس إليك شريطة أن تغدو وقحا جريئا بالسّفه, بعد أن تجيد القذف بالشتائم والسباب.
الشاري : إذا فلست محتاجا إليك, ومع ذلك فلعلك تغدو بحارا, أو بستانيا, شريطة ألاّ يعدو ثمنك عند هرمس درهمين على أكثر تقدير.
هرمس : خذه بدرهمين, وسوف تريحنا من هذا الخليع الماجن الذي أرهقنا بصخبه, وأضنانا بألفاظه التي يشتم بها الناس, فليس لديه غير الشتائم والسباب يقيء بها.
.........يتبع.