وها هو الجزء الأخير من مسرحية مذاهب في المزاد للكاتب السوري الساخر لوقيانوس السميساطي :
زيوس : هات غيره... هات ذاك الذي ذهب شعره, العابس الوجه, من أشياع زينون.
هرمس : أنت محق إذ إنه ليبدو أن أغلب الشارين بانتظاره مع من أتوا إلى سوق المزاد, وها نحن الآن نبيع الفضيلة ذاتها وهي أكمل كمالا من شتّى الأرواح, فمن تراه يبتغي معرفة كل شيء.
شار : ما الذي تبتغيه بقولك؟
هرمس : إنه الحكيم المفرد, الطيّب الأوحد, الذي وجب عليه وحده أن يكون صالحا, شجاعا, ملكا, خطيبا, غنيا, مشرّعا, وهو أهل وحده لسوى ذلك من الأشياء.
الشاري : وأخاله كذلك الطاهي الوحيد, وحق زيوس, لعله الدباغ الوحيد, والنجار الوحيد وغير ذلك.
هرمس : على ما يبدو.
الشاري : ادن مني وأجبني, فإني أروم شراءك... أي فريق من الناس أنت؟ ألا تغتاظ من بيعك وجعلك عبدا؟
قريسيب : لن أغتاظ أبدا, لأن ذلك لا يتصل بنا*, وهكذا فإن كل ما لا صلة له بنا هو عندنا سيّان.
الشاري : لم أع قولك.
قريسيب : كيف؟ أولا تعلم أن من بين هذه الأشياء ما يفضّل بعضها, وما يرفض بخلافه بعضها الآخر*.
الشاري : لم تزدني معرفة.
قريسيب : طبعا لأنك لم تعتد اصطلاحنا, وليس لديك الخيال المدرك.
ولكنك حين تغوص في دراستك إلى أعماق المنطق ستعرف ليس تلك الأشياء فحسب, بل ستعرف كذلك ما هو الحادث, وحادث الحادث, وعلى أي مقياس يختلف بعضها عن بعض.
الشاري : أستحلفك بالحكمة أن تعمل معروفا وتقول لي ما هو الحادث, وحادث الحادث, لأني صدمت دون أن أعرف كيف تم ذلك بانسجام النغم في هذه الألفاظ.
قريسيب : لن أردّ لك مطلبا... إذا صدم أعرج برجله الكسيحة حجرا وآل الأمر إلى جرح مفاجئ فإن الفعل الذي قام به الأعرج هو الحادث, أما الجرح الذي أدماه فهو حادث الحادث.
الشاري : يا لها دقّة! ولكن ما الذي تعرفه كذلك بشكل خاص؟
قريسيب : إني أعيق بحبال اللغة محدّثي, وأكمم أفواههم, وألزمهم الصمت, وتسمى هذه الخاصيّة الجدل المنطقي المشهور.
الشاري : بحق هرقل... كأني بها خاصية عنيفة لا تقهر.
قريسيب : أتريد أن أضرب لك مثلا؟ ألك ولد؟.
الشاري : بلا ريب.
قريسيب : هب أن تمساحا خطف ولدك وهو يتنزّه قرب نهر, ثمّ وعدك التمساح أن يردّه إليك, شريطة أن تصدقه القول بما يجول في خاطره كيما يرد إليك ولدك, فماذا أنت قائل بما اعتزم التمساح فعله؟
الشاري : يصعب عليّ الرد على سؤالك, والحق إنني قلق مما يضطرّني إلى جوابه... أستحلفك بزيوس أجبني أنت, وأنقذ ولدي قبل أن يأكله التمساح.
قريسيب : لا تخف, سأعلّمك أشياء تذهلك أكثر.
الشاري : ما هي؟
قريسيب : هي الحاصد والمالك, وبخاصة الكترا والمقنّع.
الشاري : من هو المقنع, ومن هي الكترا اللذان تتحدث عنهما؟
قريسيب : تلك الكترا الشديدة البأس ابنة أغاممنون التي تعرف الشيء ولا تعرفه معا, ذلك أنه حين يكون أوروست بقربها فهو مجهول لديها, وهي تعرف أنه أخوها أوروست, ولكنها تجهل أن هذا المجهول هو أوروست. أما المقنع فسيبلغك عنه شيء رائع جدا... قل لي أتعرف أباك؟
الشاري : نعم.
قريسيب : حسن, افترض أني جئتك بإنسان مقنّع وطلبت إليك قائلا, " هل تعرف هذا الإنسان؟ " فبماذا تراك تجيبني؟
الشاري : ليس من شك بأني لم أفقه ما ترمي إليه!!
قريسيب : إن هذا الذي هنا أبوك, فإن لم تعرفه فليس من شك في أنك لم تعرف أباك البتة.
الشاري : أبدا, ليس صحيحا, إذ علي أن أتبينه لأعرف حقيقته, وأيّا كان الأمر فما الغاية المتوخاة من هذا العلم؟ وماذا ستصنع بعد أن بلغت ذروة الفضيلة؟
قريسيب : سألهو بأولى الخيرات الطبيعية, أعني سألهو بالثراء, وبالصحّة, وبضروب من خيرات من نوعها, ولكن عليّ قبل ذلك أن أبذل قصارى جهدي في سبيله, وأن أكتب الكتب المكتوبة بحروف دقيقة, وأكدّس لها الشروح وأحشوها بالأخطاء اللغويّة, أمّا من وجهة النظر الأساسيّة فليس ممكنا أن يصبح المرء حكيما إن لم ينهل من شراب الخربق ثلاث مرّات متتالية*.
الشاري : تلك مبادئ سخيّة فيها, ذات حيوية, فيها كل الرجولة, ولكن أن يصبح المرء على شاكلة جنيفون وجريبو خاصّة, فإن ذلك كما أرى من صفاتك, وهذا يعني أن صاحبه قد شرب الخربق سلفا فبلغ الفضيلة الحقّة.
قريسيب : بلى, ذلك لأن الحكيم وحده الذي يقرض بالربا, وكذلك فإن من خصاله ممارسة الجدل المنطقي, ولا سيما ـ أن قرض الربا وعدّ الفوائد ـ قريبان مما يصنعه في الجدل, وعدا ذلك فإن من خصال الحكيم تكرارهما, وألا يرتضي كسواه الفوائد البسيطة بل فوائد الفوائد. أولا تدري بعد, أن من بين الفوائد ما تكون أوّلية, وأن الثانية آتية من الأولى, وهكذا ترى كيف يتأتّى ـ في الواقع ـ الجدل المنطقي, فإن ارتضى الحكيم الفائدة الأولى فسيرضى كذلك بالفائدة الثانية مثلما سيرضى بالأولى.
الشاري : ينطبق هذا تماما على الأجور ذاتها التي تتقاضاها من تعليمات الشبيبة... أوليس واضحا كذلك أن الرجل الفاضل وحده هو الذي يتقاضى أجر فضيلته.
قريسيب : لقد سبق لي أن قلت ذلك, ولكن ما أتقاضاه ليس لي, بل لأدخل الغبطة إلى قلب من يعطيني. وما دام الأول سخيّا والثاني مقتصدا, فإني أتدرّب على الاقتصاد ويتدرّب مريدي على السخاء.
الشاري : إن ما يجب هو خلاف ما تعنيه... إذ على المريد أن يغدو مقتصدا, وعليك وحدك أن تغدو الغني السخيّ.
قريسيب : كأني بك يا صاحبي تسخر, ولكن حذار من طرحي عليك نبذة لا مردّ لها في الجدل المنطقي.
الشاري : ترى أي سوء سيتولاّني منها إذا؟
قريسيب : سيتولاّك القلق, والصمت, وحيرة الفكر, وأقسى من ذلك كله عزمي الساعة إن شئت على صيرورتك حجرة.
الشاري : ماذا تقول؟ أأصبح حجرة؟ إنك لست بيرسيه كما أعلم أيها الإنسان الطيّب.
قريسيب : دونك ما سأصنعه... هل الحجرة جسم؟
الشاري : أجل.
قريسيب : أوليس الحيوان جسما؟
الشاري : أجل.
قريسيب : وأنت ألست حيوانا؟
الشاري : يخيّل إلي أني حيوان.
قريسيب : إذا أنت حجرة ما دمت جسما.
الشاري : لا تحاول ذلك وأعد إلي هيأتي الأولى أستحلفك بزيوس, وأنشئني إنسانا جديدا.
قريسيب : ليس عسيرا عليّ. فلتكن إنسانا من جديد, ولكن أجبني هل كل جسم حيوان؟
الشاري : كلا.
قريسيب : هل الحجرة حيوان؟
الشاري : كلا.
قريسيب : وأنت ألست جسما؟
الشاري : أجل.
قريسيب : لست إذا حجرة ما دمت حيوانا.
الشاري : لقد صنعت خيرا فإن رجلي قد جمدتا الساعة من البرد, وكأنهما أرجل "نيوبه" وأمستا مشدودتين صلبتين... أما الآن فإني سأشتريك... كم سأدفع لأحصل عليه؟
هرمس : اثني عشر درهما.
الشاري : خذها.
هرمس : هل أنت وحدك الشاري؟
الشاري : لا لست وحدي وحق زيوس, بل كل من ترى حولك من الناس.
هرمس : إنهم كثر, وهم أشدّاء الأكتاف, قمينون بأن يغدوا حصّادين.
زيوس : لا تُضع وقتك. ناد على غيره من مريدي أرسطو.
هرمس : تعال أنت أيها الجميل الغني... تعال اشتر لي إنسانا رائع الذكاء يعرف كل شيء حق المعرفة.
شار : أي ضرب من الناس هو؟
هرمس : إنسان معتدل ولطيف, يعرف كيف يحيا والأهم أن يكون مزدوجا.
الشاري : ما الذي تعنيه؟
هرمس : أعني أن ظاهره يغاير باطنه, ولا تنسى أن تسمّي الأول الظاهر والثاني الباطن (أو الخاص والعام).
الشاري : ولكن ماذا يعرف على الأكثر؟
هرمس : ثمّة ثلاثة أنواع للخير, نوع للروح, ونوع للجسد, والخيرات الخارجية.
الشاري : يبدو أنه إنسان عاقل فما ثمنه؟
هرمس : عشرون درهما.
الشاري : إنه باهظ الثمن.
هرمس : كلا أيها الإنسان السعيد, إذ يبدو أن لديه بعض الدراهم, كما أنك لن تضطر للتعجيل في شرائه, وفضلا عن ذلك سيعلمك توّا كم من الزمن يحيا البعوض, وعلى أي عمق تضيء الشمس البحر, ومن أي طبيعة تكون أرواح الأصداف.
الشاري : يا لهرقل, أي علم دقيق هذا.
هرمس : ماذا سيغدو حين يسمعك تردد أشياء تغاير برقّتها عما أبديت بصدد الوراثة والعنصر والأجنّة في الرحم, وكيف يغدو الإنسان حيوانا مضحكا, وكيف لا يعرف الحمار أن يبني أو يركب البحر.
الشاري : كل تلك التعاليم محترمة مفيدة, لذلك فإني أشتريه بعشرين درهما.
هرمس : حسن.
زيوس : ماذا بقي لدينا لم نبعه؟
هرمس : بقي لدينا هذا المتشكك... أقبل يا بيرياس* لنبيعك حالا " هنا يمضي الشارون قليلا قليلا, ولا يمكث غير عدد قليل منهم" من يبتغي شراءه؟
شار : أنا ولكن قل لي أولا ماذا تعرف؟
بيرياس : لا شيء.
الشاري : ماذا تعني بذلك؟
بيرياس : إني مؤمن بأن لا شيء موجود البتة.
الشاري : تعني أننا لا شيء أبدا ولم نخلق قط؟
بيرياس : إني لا أعرف هذا أيضا.
الشاري : وأنت أيضا أليس لك وجود أبدا؟
بيرياس : هذا ما أجهله كذلك.
الشاري : آه أي شك هذا! ولكن ماذا تعني موازينك؟
بيرياس : أزن بها العقول, وأضعها متساوية, وحين تبدو لي متشابهة تماما ومن وزن واحد, عندها لا أعرف بالدقة أيها صحيح.
الشاري : قصارى القول ما الذي تجيد صنعه؟
بيرياس : كل شيء ما عدا أن أعدو خلف عبد آبق.
الشاري : أعسير عليك هذا؟
بيرياس : لأني لا أستطيع الإمساك به.
الشاري : إني أصدّق بسهولة ما تقول, إذ يبدو عليك أنك طفل ثقيل بطيء الفهم, ولكن ما الذي تهدف إليه؟
بيرياس : لا أعرف شيئا, ولا أسمع شيئا, ولا أرى شيئا.
الشاري : إذا فأنت تدّعي أن تغدو في هذه الحال أعمى أصمّ.
بيرياس : أضف إلى ذلك أني لست قادرا على أن أحلم, وباختصار فإني لا أختلف بشيء عن دودة الأرض.
الشاري : من أجل ذلك أريد شراءك... كم تطلب ثمن هذا الإنسان؟
هرمس : درهما واحدا.
الشاري : ماذا قلت يا صاحبي ألم أتمم شراءك؟
بيرياس : إنه شيء مشكوك في أمره.
الشاري : لا تقل ذلك فإني اشتريتك حقا, وأن الثمن دفع حقا!!.
بيرياس : إني أعلق حكمي السالف وأجرّب.
الشاري : حسن, اتبعني كما يجب أن يصنع خادم عندي.
بيرياس : من تراه يعرف أنك قلت الحقيقة؟
الشاري : يعرفه المنادي والدرهم والحضور!
بيرياس : أثمّة في الحقيقة حضور؟!!
الشاري : أما أنا فماض توّا لألقي بك في المطحنة, لتقنع بأني سيدك في أسوأ برهان.
بيرياس : اعدل عن حكمك السالف.
الشاري : كلا وحق زيوس, لقد عبّرت عن رأيي.
هرمس : أقلل من عنادك, واتبع من اشتراك... أمّا أنتم أيها الحضور فنذكّركم بأننا سنعرض غدا للبيع أرواح الجهلاء وذوي المهن, وأناسا من العامّة, وسندعوكم للاشتراك في مزادنا...
*"ثمة أشياء لها صلة بنا, وأشياء لا صلة لها" وهي أولى أفكار ابيكيت.
* لما كانت الأشياء التي لها صلة بنا نوعين: الحسنة والسيئة, فإن الأشياء التي لا تنبع منا نوعان كذلك: مقبولة ومرفوضة وفقا لما تكون معينة للفضيلة أو معيقة لها.
*بيرياس اسم عبد يذكرنا بعبد بيرون مؤسس مذهب الشكاكين.