قال: فلما نظر حسين نفسه بين يدي أمير المؤمنين مكتوفا بكى بكاء شديدا حتى غمي عليه، فلما أفاق أنشد:
سلمت روحي من البلوى لمتلفها
ألا لعلمي بان الموت يحيــيها
نفس المحب على (الأسقام) صابرة
لعل ممرضها يوما يداويـــها
ونظرة منك يا سؤلي ويا أمــلي
أشهى إلي من الدنيا وما فيـها
وليس للنفس آمال تؤملـــها
سوى رضاك فذا أقصى أمانيها
قال الراوي بإسناده: فلما فرغ حسين من شعره، قال له شيخه: يا حسين ... اصبر، فإنه الوقت قد قرب، والأجل قد حضر ... سلمها تسلم. لقد أتعبتني، أتعبت نفسك، أتعبت الناس والخليفة والفقها والعلما، وأنا أقول لك: اكتم سرّك وإلا ما تسلم.
قال الراوي: فلما سمع حسين من شيخه هذا الكلام على أنه مقتول لا محالة، التفت يمينا وشمالا، وقال: ائتوني بدواة وقرطاس، فأتوه بما طلب، فكتب فيه: لكم مهجتي طوعا، لكم مهجتي رضا، لكم جسدي مني، لكم دمي حل. ثم انه ألقى الورقة في الهوا، فغابت ساعة، ثم رجعت إليه مكتوبا فيها: أنت إن كنت منا، وتريد قرب وصلنا، طبعنا قتل النفوس في شرعنا حلو قريب؟
قال الراوي: فلما فرغ حسين من هذا الكلام بكى بكاء شديدا، وأنشد يقول:
اقتلوني يا ثقــاتي
إن في قتلي حياتي
وحياتي في مماتي
ومماتي في حياتي
اقتلوني واحرقوني
في عظامي الباليات
تجدوا سر حبيبي
في طوي الباقـــيات
فأنا استغفر الله
عن عظيم السيئات؟
قال الراوي: فلما فرغ حسين من شعره، وإذا بشخصين عظيمين من أكابر بغداد، وكان الخليفة يحبهم حبا شديدا ويعمل بقولهم لأنهم كانوا عنده في أعلى المنازل، ولا يأخذ إلا بشهادتهم، وكانوا أقضى قضاة بغداد،وأكبر علمائها، فلما دخلا على الخليفة سلما عليه، ورد عليهم الخليفة السلام، وقال: ما شأنكم؟.
قالوا: نشهد أن حسين الحلاج قد كفر لأنه كان ماشيا ذات يوم في السوق، عليه جبة من صوف، فقال له الناس: بصرنا يا حسين ما في جبّتك؟. فقال لهم: الله.
فعند ذلك لامه العلما، ونحن معهم، فقال لهم: اذهبوا فهذا معبودكم تحت الأرض، أشار إلى الأرض بإصبعه فقالوا: كيف تجعل معبودنا الأرض، ونحن نعبد الله وحده لا شريك له!?.
فقال لهم: ائتوني (بمسحاة وقفّة) فحفر موضع ما أشار إليه بإصبعه، فبان كنز ذهب، فقال لهم: يا قضاة... أنتم تبيعون دينكم بدنياكم، ولم تعبدوا الله على حقيقة عبادته.
فقال حسين: يا سادة العلما، أما قولكم الأول في قضية الجبة في قولي: أن فيها الله؟، فيعني أنا من مصنوعات الله تعالى?. وأما الكلام عن الكنز، فإنكم (تعملوا) بالذهب الحق (باطل)، والباطل حق، فكأنكم عبدتم الذهب، ولم تعبدوا الله تعالى على حقيقته، لأن في الحقيقة من أحب شيئا سوى الله ورسولهفقد صار عبدا له. فعند ذلك أمر الخليفة بسجنه تلك الليلة، وأن يقيدوه و (يجنزروه؟)، ويكتفوه في عمود من رخام، فعند ذلك دخل عليه رجل من الأوليا الكبار، وكان من أصحابه، وسلم عليه، ووجده بذلك في أسوأ حال?. فقال له حسين: ما (جابك) في هذه الليلة؟?.
فقال: يا مولاي ... جيت أسألك عن ثلاثة أشياء: الأولى: أسألك عن الصبر، و الثانية: الفقر، والثالثة: الولاية?.
فقال حسين: نم عندي، وأنا أريك الليلة اثنتين، وغدا أريك الثالثة، فنام تحت رجليه إلى قليل من الليل، فنعس تحت رجلي حسين، فما أحس إلا وشيء (يَحْتَسِس) عليه، وينبهه، ويقول له: قف يا شيخ فلان. فقال: من ينبهني؟?.
قال له: حسين.
قال: أرني الثلاث كرامات.
ثم قال له: من فكّك من الحديد؟
فقال: الله تعالى?.
وأخذ بيده، وجاء به إلى صدر السجن، أشار إلى الحايط فانفلق، وبانت فلاة واسعة، وهي تضيء نورا أقوى من الشمس و القمر و النهار، وكان ذلك في ظلمة الشهر?. فقال لحسين: ما هذا النور يا سيدي؟ قال: اذهب وتفرج في ذلك الوادي.
فذهب، ونظر إلى ذلك، فوجد الوادي من اللولو الرطب، والصغير من الحصا جوهر، والحجارة الكبار من البهرمان، والفيروزج.
فرجع إلى حسين، وأعلمه بذلك.
فقال له: أنت سألتني عن الصبر، و الفقر، فأنت رأيتني و أنا صابر على السجن، والضيق في الحديد، لم أفك نفسي. و الثاني: ضربني السجان على ثمن الزيت ليقيد به السجن، ولم أعطه نبأ?.
و الله تعالى قدرني على هذه الرمال تبقى معادن، فهذا هو الفقر والصبر?. ولما يقتلوني أريك الثالثة، وهي الولاية?.
فلما أصبح النهار، أرسل وراه الخليفة، فمثل بين يديه، وسلم أمره إلى الله العظيم، وكتف نفسه، وبرك، واحتسب بالله للقضاء و القدر، فلما رأت المشايخ و الأوليا منه هذه الكرامات، قام الشيخ الشبلي رضي الله عنه، ومعه سبعين فقيرا بالتهليل و التكبير لله رب العالمين، وخرج شيخه الجنيد، ومعه أربعين فقيرا بالتكبير و التسبيح لله رب العالمين، وكادت مرايرهم أن تنفطر من حزنهم على حسين الحلاج، وقام في بغداد الذكر و الضجيج حتى خيل لأهل بغداد أن الأرض قد خسفت بهم، فقام الشيخ جنيد، وقال: يا ولدي يا حسين ... ألك حاجة قبل فراق الدنيا أفوز بقضائها؟ ...
قال: نعم أريد أن تحضر لي أختي (الخوته)؟ حتى أوصيها بوصية من بعدي.
قال: فذهب إلى أخته، و أتى بها، فحضرت، وهي مكشوفة الوجه.
فقال لها حسين: أما تخبي وجهك يا أختي من الرجال ......!?.
قالت له: يا أخي ... وأين الرجال ... لو كانوا رجالا ما أنكروا حال الرجال.
فقال لها: يا أختي، بهذا قدر الله تعالى، نفذت في دعوة شيخي الجنيد، أريد أن أوصيك يا أختي بوصية: إذا رأيتهم قد حرقوني، فخذي من رمادي شيئا واحتفظي (عليه)، بعد ثلاثة أيام يفيض الفرات على بغداد حتى تكاد تغرق، فيأتون إليك متضرعين بين يديك، فخذي الرماد الذي عندك، وارميه في الماء، وقولي له: ارجع يا مبارك من حيث جيت، فإن أخي قد حالل من (أسا عليه) لأجل شيخه الجنيد، ولأجل عين، تكرم ألف عين.
فلما سمعت أخته هذا الكلام بكت بكاء شديدا، أنشدت تقول شعرا:
يا عين أبكي على (خيّي والتــجي)
على سعيفي وأيضا قطعة الكبـدي
كنا جميعا شبه روحين في جـــسد
لا نفترق أبدا من ساير (الحــشد)
ففرق الدهر شملا كان يجمــــعنا
وخلف الحزن و الأشجان في كبدي
فلم أزل باكية ما دمت باقيــــة
وكيف (ينعى ذراعا ماله) عضـدي
أقول عسى عطفة يمنن عليّ
بها ربي، ويجمعنا في جنة الخلــــد
قال الراوي: فلما فرغت أخت حسين من شعرها، بكى أخوها بكاء شديدا، وأنشد يقول شعرا:
غفلت وحادي الموت في اثري يجد فان لم أمت يومـاً فلا بد ما أغدو
أنعم جسمي بالثياب ولينـــها وليس لجسمي من ثياب (البلى) بدّ
قال الراوي: فلما فرغ حسين من شعره بكت أخته بكاء شديدا، و أنشدت تقول:
أقول وقد أسبلت في الليل عبرتـي
على صحن خدي من فراق أحبتي
أحبابنا انتم نسيتم عهــــودنا
فصبري على بعد الديار ووحـدتي
أرى كل من أشكو إليه من الهوى
يعالج أشواقي و يشكو كشكوتـي
لأني غريب في البلاد موجــع
أقاسي أليم البعد في كل (بلدتـي)
قال الراوي بإسناده: فلما فرغت أخت حسين من شعرها بكت بكاء شديدا، وودعت أخاها وباسته، واعتنقته، فأغمي عليهما، وقد سقطوا إلى الأرض، فظنت الناس أنهم قد ماتوا، فعند ذلك تباكت المشايخ و الفقرا و أهل بغداد، وزاد بهم الوجد و الهيام، فلما (أفاقوا) من (غشوتهم) قامت أخت حسين، و قد أعلت بالبكا و النحيب، و أنشدت تقول شعرا:
بكت عيني على تغير حالـــي
وصرف الدهر في تلك الليالي
وطول الحزن بعد حبيب قلــبي
وحزني زايد كيف احتيالـي
ومن أرجوه يا أخي (يكن) لـي
إذا بقيت النساء بلا رجـال
أخي لم (أزال) الدهر أبــكي
وقلبي موجع من سوء حالـي
أخي كيف اصبر عنك و أسلو
وتهنا عيشتي في (ذا) الليالـي
ألا يا ناس ما ترثو لحالـــي
وحزني زايد كيف احتيالـي
أخي لا تكن تنسى عهــودي
و لا (تنسى) المودة والمقـال