1950: المصدر:مذكرات أكرم الحوراني
موقف دستور 1950 من قضية دين الدولة –
كان الهدوء والامن مخيمين على سورية بالرغم من الحملات السياسية والاعلامية بالصحف والاجتماعات والتحريض على الاضراب والقاء المفرقعات التي كانت تقوم بها الاحزاب الثلاثة المؤتلفة (الحزب الوطني، الحزب الجمهوري، التعاوني الاشتراكي) بالإضافة الى محاولة المشايخ اقرار المادة الثالثة من مشروع الدستور السوري حول دين الدولة وتدخل بعض الدول العربية في هذا الموضوع، فقد اذاع راديو عمان بتاريخ 26/7/1950 "ان السيد عبد الرحمن خليفة رئيس ديوان الملك عاد الى عمان من دمشق بعد ان سلم الرئيس الاتاسي رسالة من الملك حول قضية دين الدولة، وان الملك عبد الله ابدى عدم ارتياحه لمحاولة البعض الغاء نص دين الدولة من الدستور".
وفي جدة توقفت السعودية عن دفع القسط الثاني من القرض. بينما استمرت سياسة نوري السعيد في دفع سورية نحو الفتنة والانقسام. وبالاضافة الى الجميع كانت الولايات المتحدة وبريطانيا تدفعان سورية الى هذا الوضع القلق، بالوقت الذي كان فيه بن غوريون يعلن عن تشكيل فرق المظليين استعدادا للجولة الثانية. قضية دين الدولة كانت لجنة الاحزاب المؤلفة من ثمانية نواب لدراسة موضوع دين الدولة وكيف يجب ان يكون النص الدستوري توالي اجتماعاتها بشكل مستمر ولا سيما بعد جلسة 24/7/1950 التي اختتمت بها المناقشة العامة على مشروع الدستور، وكان الحوار لا يزال قائما بين اعضاء هذه اللجنة التي يشترك فيها الدكتور مصطفى السباعي ممثل الجبهة الاشتراكية الاسلامية وبين المشايخ من رابطة العلماء الذين لم يرضوا بما اتفقت عليه اللجنة من تبني الفقه الاسلامي كمصدر رئيسي للتشريع وجعل الاسلام دين رئيس الدولة، بالاضافة الى النص الذي وضع في مقدمة الدستور تحقيقا لهذا الهدف، والذي يعتبر جزءا لا يتجزأ من الدستور.
وبعد ان انتهت المناقشة العامة لمشروع الدستور اقرت لجنة الاحزاب المشتركة ولجنة الدستور المادة الثالثة وهذا نصها:
"1- دين رئيس الجمهورية الاسلام.
"2- الفقه الاسلامي المصدر الرئيسي للتشريع.
"3- حرية الاعتقاد مصونة، والدولة تحترم جميع الاديان السماوية وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها، على ان لا يخل ذلك بالنظام العام.
"4- الاحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية" وتقرر ان يضاف الى مقدمة الدستور النص التالي: "ولما كانت غالبية الشعب تدين بالاسلام فان الدولة تعلن استمساكها بالاسلام ومثله العليا، ويعلن الشعب عزمه على توطيد اواصر التعاون بينه وبين شعوب العالم العربي والاسلامي، وبناء دولته الحديثة على اسس من الاخلاق القويمة التي جاء بها الاسلام والاديان السماوية الاخرى، وعلى مكافحة الالحاد والتحلل الاخلاقي. فقام الخلاف بين جبهة المشايخ (رابطة العلماء) وبين الجبهة الاشتراكية الاسلامية التي وافقت على هذه النصوص، فأذاع الشيخ ابو الخير الميداني رئيس رابطة العلماء بدمشق، بيانا بتاريخ 28 تموز 1950 جاء فيه:
"ان رابطة العلماء يؤيدها الشعب السوري الكريم، رأت ان المادة الثالثة من مشروع الدستور - دين الدولة الاسلام - التي فازت بتأييد الاكثرية، وجاءت وفقا لدساتير الدول المجاورة ومماثلة لدساتير الدول الاجنبية الكثيرة في النص على ارتباط الدولة بدين الاكثرية، وكانت مؤيدة بالوف العرائض التي قدمتها الامة ووفودها الكثيرة من جميع هيئاتها وطبقاتها، اصبحت لزاما لا يصح انتزاعه ولا تعديله".
فأذاع الشيخ مصطفى السباعي عميد الجبهة الاشتراكية الاسلامية بيانا معاكسا جاء فيه: "حينما اعرب جمهور الشعب بمخلتف طبقاته عن رغبته في النص على ان يكون دين الدولة الاسلام انما كان يقصد الاستفادة من التشريع الاسلامي وتوجيه الشعب توجيها اخلاقيا والاحتفاظ بعلائق الاخوة والتعاون مع شعوب العالم العربي والاسلامي، وان النصوص الجديدة التي اقرتها لجنة الاحزاب المشتركة للمادة الثالثة تضمنت هذه المبادىء. وطلب الشيخ مصطفى في بيان إلى الرأي العام الواعي ان يدرس هذه النصوص الجديدة بهدوء وتجرد "وعلى المتدينين خاصة ان يحكموا عليها بعد دراستها النزيهة المتجردة" الى ان يقول: "ان هذه النصوص حققت وحدة الصف ودفعت عن الوطن كارثة انقسام طائفي لا يرضى به كل متدين عاقل وكل وطني مخلص". اما رجال الدين المسيحي فقد وافقوا على النص الذي اقرته لجنة الاحزاب المشتركة، وهكذا تمكنت الجمعية التأسيسية باجتماع 29/7/1950 ان تقر بما يشبه الاجماع النص الذي اتفقت عليه لجنة الاحزاب المشتركة لصيغة المادة الثالثة من الدستور السوري. لقد تم الاتفاق على المادة الثالثة التي اوردتها بالنص، وعلى ما ورد في مقدمة الدستور بالحوار والمناقشة مع الاساتذة النواب اعضاء اللجنة: معروف الدواليبي ومحمد المبارك والشيخ مصطفى السباعي المرشد العام للاخوان المسلمين في سورية، وهم من المتضلعين بالفقه الاسلامي ومن حاملي ارقى الشهادات وكانوا اساتذة في معهد الشريعة الاسلامي في دمشق، هذا المعهد الذي تحول فيما بعد الى كلية للشريعة في الجامعة السورية، واصبح الشيخ مصطفى السباعي عميدا لها.
ان المشايخ الذين كانوا يطالبون باقرار المادة الثالثة من مشروع الدستور والتي تنص على ان دين الدولة الاسلام، كانوا لا يفهمون الاسلام بمستوى ما بلغه العقل الانساني من تقدم وما بلغته المجتمعات من تطور، وكان اقرار هذه المادة بالصيغة التي طالب المشايخ بوضعها في مشروع الدستور يتناقض مع الديموقراطية وما تعنيه من احترام للحريات العامة والخاصة. لقد اتخذ اعداء الاسلام، وما يزالون من الفهم القاصر للدين الاسلامي ذريعة للحملة عليه واتهامه بأنه دين يقف في وجه حرية الفكر وانه دين ارهابي عدواني متخلف منغلق استبدادي يتنكر لحقوق الانسان الى اخر هذه القائمة الطويلة من الاتهامات، وقد بلغت هذه الحملة التي تشنها الاوساط الاستعمارية الغربية وحليفتها الصهيونية اوجها بعد حرب الخليج عام 1991، وان كانت قد بدأت تسفر عن وجهها بعد هزيمة الخامس من حزيران عام 1967 في محاولة للاجهاز النهائي على كل تطلع عربي واسلامي للكرامة والتقدم، ودفع الجيل العربي الجديد الى اليأس نهائيا من امته وحضارته. ان هذه الحملة المشبوهة لم تقتصر على الدين الاسلامي وانما رافقتها حملة على العروبة وعلى لغتها، اهم مقوماتها، فتزايدت، بعد الخامس من حزيران الدعوات التي تنال من اللغة العربية بحجة انها لغة قاصرة جامدة لا تستطيع ان تماشي ما يحدث في هذا العالم من تطورات، فجرت دعوات للكتابة بالعامية، او لترك قواعدها، او هجر حروفها العربية الى الحرف الاجنبي، مثلما حدث في تركيا عندما حاول اتاتورك ان يقطع روابط هذه الامة بالاسلام، وكلها دعوات ترمي في جوهرها الى فصل الانسان العربي عن تاريخه وثقافته، بينما كانت الصهيونية تتابع احياء اللغة العبرية بعد ان كانت لغة ميتة. انني ما ازال احتفظ بين اوراقي بنص يتعرض للاسلام كتبه احد المنادين بترك قواعد اللغة والمتحمسين لما يدعونه بشعر الحداثة، هذا الشعر الغامض في معظمه والذي يفهمه كل كما يحلو له، بحيث ينقطع الشعر عما يمكن ان يؤدي اليه من تكوين العاطفة والفكر الواحد والسلوك الواحد، يقول كاتب هذا النص:
(1) "جاءني اليوم من قال لي: "من تقاليد العرب تقديس الشخصية ولم يشرح، ولو شئت ان اقول شيئا لقلت: عند العبرانيين اقام الله حوارا مع الانسان فكان ابراهيم وموسى وسائر الانبياء، وفي المسيحية تجسد الله في الانسان فكان المسيح وسائر القديسيين، اما عند العرب فلم يقم الله حوارا مع الانسان ولا تجسد فيه وانما ارسله، وانا كانسان افضل ان يسكن الله في حياتي على ان يخاطبني من علياء سمائه او يرسلني عبدا له الخ..."
وهكذا يمتد قلم هذا " المثقف" العربي العصري المتحضر الذي حاول ان يقلب مفاهيم الشعر وقواعد اللغة، الى عقيدة الاله والواحد" الذي ليس كمثله شيء" عند المسلمين، هذه العقيدة التي مثلت مرحلة راقية من التفكير الانساني عندما تجاوزت التعدد الى التوحيد والتشخيص الى التجريد، كما يتغاضى عن قيم الاسلام الاخرى في التحرر والحرية والشورى والاحتكام الى العقل والدعوة بالحسنى، وعدم سيطرة اي انسان على الاخرين ولو كان النبي محمدا.
--------------------------------------------------------
موقفي من الدين والتراث
المعاناة:
كنت افضل الا اخرج في هذه المذكرات عن نطاقها السياسي، وان اترك هذا الموضوع الى من هم اكثر مني علما، ولكن اجدني ملزما بالتعرض الى موقفي الشخصي من الدين والتراث الذي لم ينفصل عن مواقفي ومعتقداتي السياسية، والى مراحل تطور معتقداتي الوجدانية التي اوصلتني الى مثل الخير والمحبة والجمال والحق، تلك المثل التي جعلت لحياتي معنى ولسلوكي قيمة ووزنا. لقد واكبت الحركات النضالية منذ بداية شبابي، وانتظمت في مؤسساتها واحزابها، فلم اعش منسلخا عن شعبي، بل عشت متصلا بضميره دون انقطاع، لذا فانا ملزم بأن افسر مواقفي وتصرفاتي على ضوء ما اعتنقه من آراء وافكار دينية، كانت دوما عرضة للحملات المغرضة ضدي. انني لم ألجأ يوما الى التلفيق في كل ما اعتقدته حقا لانه كان ثمرة معاناة صادقة تحاول ان تستجيب لما يتصل بضمير هذا الشعب وتطلعاته، فقد كان الشعب استاذي الاكبر، وكنت اجتاز امامه الامتحان والتجربة باستمرار، ومن هنا قد يصبح لهذه المعاناة وما استقرت عليه من آراء ومعتقدات بعض القيمة والاهمية. تبدأ الازمة الوجدانية عند الانسان العربي منذ الطفولة، تثيرها تحديات العصر بشكل حاد، وهي ازمة قد لا يعاني نظيرها ابناء الشعوب المتقدمة، انها شكوك تساور النفوس بأنه ربما يكون للدين علاقة بضعفنا امام قوة تلك الشعوب، ولا شك ان للتراكم الحضاري في تراث الشرق العربي دورا ظاهرا في التطلع الى الدين بهذا الشكل المبكر الذي يشغل الانسان العربي منذ طفولته، فاذا كان للغرب حضارته التي لا يتجاور عمرها مئات السنين فان حضارة الشرق العربي ضاربة بجذورها في اعماق التاريخ. بدأت هذه الازمة النفسية عندي على المستويين الوجداني والفكري منذ اليفاع، وكانت تتعاظم عاما بعد عام، حتى انتهى بي المطاف الى افكار ومفاهيم اصبحت مؤمنا بها ومطمئنا لها. ان هذه الازمة الوجدانية والفكرية ليست ازمة شخصية، كما اسلفت، بل انها معاناة يومية لا تزال تعيشها الاجيال العربية بشكل حاد ومستمر، ولا تزال القوى الخفية تستغلها اما بالدعوة للاستسلام الكامل للماضي المتخلف على جموده وتحجره واما بالدعوة لرفض التراث جملة وتفصيلا والانسلاخ عنه. واذا كانت حرية الفكر التي بلغها الغرب بعد ثوراته الكبرى قد فتحت الابواب الموصدة امام التفكير والتعبير والحوار الحر الطليق، فان انعدام هذه الحرية في الشرق العربي قد ادى الى انحباس ازماته الوجدانية والفكرية في عتمة النفس، تتفاعل ضمن قوقعة الخوف، مما ولد كثيرا من العقد والعاهات والامراض النفسية والمظاهر السلوكية الشاذة التي تكاد تقضي على كفاءة المجتمع وتقدمه وابداعه، مع ان الاسلام انطلق منذ بداية تبشيره من الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي احسن، وانه لا اكراه في الدين. تحدثت فيما سبق عن اسلوب الشيخة القاسي الكريه في تعليمنا القرآن ونحن أطفال مما ولد نفورا في انفسنا ولم يكن اسلوب اساتذة الديانة في مدرسة دار العلم والتربية باحسن حالا. كان استاذنا الشيخ محمود العثمان رجلا طيبا ودودا تقيا ولكنه حصر تعليم الدين في نطاق العبادة. كانت الصلاة في المدرسة اجبارية، فكنا نذهب للصلاة احيانا بدون وضوء نكاية بالاوامر القسرية، او تجنبا لبرد الشتاء القارس، على ان هذا الجانب السلبي الارغامي كانت تواكبه نزعة دينية عميقة اصيلة في النفس. كنا نصلي بخشوع عندما نتحرر من السيطرة، ولا سيما عندما نواجه مشاكلنا العامة والخاصة، لقد صليت لنجاح ثورة ابراهيم هنانو، وصليت لنجاح ثورة عام 1925، وكنت اصلي عند اجتياز الامتحانات المدرسية او عندما تمر الاسرة بأزمة قاسية. كنا نصوم رمضان بلا انقطاع حتى لو جاء في حر آب على الرغم من نصح الاساتذة لنا بعدم الصيام لانه غير مفروض على من هم في سننا، ولانه يؤثر على صحتنا ونمونا، لذلك كانت ادارة المدرسة تتعمد الا توقظ الصغار عند السحور، فكنا نصوم بلا سحور، وحين تجف حلوقنا كنا نتمضمض بالماء دون ان نشرب قطرة منه لكي نجتاز التجربة، وعندما يطلق مدفع الافطار كنا نستمتع بنشوة لا تعادلها نشوة لاننا بالارداة، تجاوزنا الكبار وانتصرنا على قصور الطفولة وعجزها، وكان شهر رمضان احب الشهور الى نفوسنا، وكانت امسياته ولياليه من امتع ذكريات الطفولة.
على ان الجانب السلبي استمر في مرحلة الدراسة التكميلية والثانوية، فكانت دروس الديانة تصور الدين في اذهاننا بصورة فيها السيطرة والاجبار والاكراه والتزمت... كان لا يهم المشايخ من كتب السيرة المليئة بالصور المشرقة والعبقرية والتضحية الا الامور الشخصية التي يشترك فيها الناس جميعا، وعندما دخلت مرحلة الشباب كان للدين وللرسول وصحابته تلك الصورة التي درسناها وقرأناها على مشايخنا، فكان رد الفعل ان توجهت الى قراءة ما يتصل بالالحاد من كتب، ولكن ذلك لم يسبغ السكينة على مشاعري الوجدانية العميقة، وظل الايمان يبعث في نفسي الامل خلال تلك الازمة النفسية التي هي علامة طبيعية من علامات نهاية المراهقة عند الكثيرين، كنت اشعر في اعماقي بأن الطهارة فرح وتفاؤل، وان الخطيئة تشاؤم واكتئاب، والدعاء والاستغفار راحة قبل النوم، وان الطهارة النفسية تقتضي طهارة الجسم لذلك كنت اغتسل بالماء البارد في الشتاء القارس عمدا قهرا للنفس، فاشعر بالراحة والاطمئنان. وظل البحث عن الله ملحا مستمرا. بعد ان انتهيت من امتحانات البكالوريا الثانية عكفت على القرآن وبعض تفاسيره، في محاولة لفهمه بعقلي لا بعقول مشايخنا، فتكونت لدي صورة مليئة بالاشراق والقيم الانسانية، كما تعدت القضية لدي حدود الوجدان فأصبح لزاما علي ان ابحث عن فلسفة للحياة تجعل لوجودي معنى وغاية. لا بد لي من عقيدة. قرأت بعض ما كتبه جمال الدين الافغاني ومحمد عبده والكواكبي، وناقشت آراءهم فوجدت فيها فهما متقدما للاسلام يتجاوز مفاهيم عصر الانحطاط، كما رحت انهل بشغف لا مثيل له ما كتبه بعض المثقفين العرب والمستشرقين عن التاريخ الاسلامي والتصوف، وما كتبه الاقدمون واهل المذاهب والالحاد واخوان الصفا، وابحث عن مخطوطات المذاهب الباطنية، كما قرأت في تلك الفترة كتاب الاسلام واصول الحكم للشيخ مصطفى عبد الرازق، وهو الكتاب الذي ادى الى محاكمة مؤلفه امام مشايخ الجامع الازهر. خليط هائل متضارب من الملاحظات والتأملات والافكار ادى في حصيلة هذه المعاناة الشاقة الى ترسيخ ايماني بالاله ذي العلم المطلق والقدرة المطلقة، اله الحق والخير والمحبة والجمال، اله القيم الرفيعة الصاعدة الى السماء والتي تضرب جذورها في الارض. اتصلت بالله في حبي لامتي لانها تجاهد في سبيل الحق والعدل، احببت في العروبة تراثها فتحديت مع الحلاج اليهودية التي تفشت في المجتمع العربي، وصرخت معه في وجوه الجشعين: الهكم تحت قدمي، ورددت من اعماقي مع محيي الدين بن عربي: كرهت الاقطاع والنظام الرأسمالي، مجتمع الظلم والاستهلاك، واحببت في الاشتراكية العدل الاجتماعي، وانكرت على الماركسية الديكتاتورية والالحاد، وناهضت الاستعمار بحزم واستشهاد، واصبحت ارى في الهجمة الاسرائيلية ردة انتقامية ضارية يشنها الغرب بما توقظه الصهيونية فيه من غرائز كامنة في صلب نظمه الرأسمالية الجشعة العدوانية. وجدت في القرآن اتجاها عقلانيا يناقض ما علق بالاسلام من صدأ وزوائد وخرافات. ان فيه اكثر من ثلاثمائة آية تدعو الى تحكيم العقل وتزدري من لا يحكم عقله، وهو يرفض كل ما يتعارض مع سنن الطبيعة وقوانينها "لن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا"، فالاسلام دين عقلاني في اسسه ومفاهيمه وغاياته، وهو عقلاني في جميع شؤون الحياة، كما هو عقلاني في مفهومه لفكرة الاله من حيث الوحدانية، والتجريد والتنزيه. ليس في القرآن اسرار يحدث تصورها تناقضا في الذهن، وكل نص قرآني يحدث تصوره - في الظاهر- تناقضا يجب فيه تحكيم العقل حتى يرتفع التناقض، فالاسلام هو الدين الذي يجعل من الجدل الديني الصارم طريقا للوصول الى الحقيقة، والسلطان الاعلى هو العقل في التوصل الى الحقيقة وهذا ما جعل ابو العلاء المعري ان يقول قبل الف عام: "فليس في الاسلام رجال دين، والدين ملك للجميع ينهلون منه، كل على قدر ما تطيقه طبيعته ومؤهلاته الفكرية... الدين ليس حرفة، والعبادات كلها تتم بغير وساطة رجال الدين، اما الجانب الفقهي والتشريعي في الاسلام فطبيعي ان يتخصص فيه اناس.. ولكن موقفهم هو موقف كل المتخصصين في الفقه الدستوري والتشريعي في كل بلد من البلاد لا يملكون بصفتهم هذه سلطة على الناس ولا امتياز طبقيا عليهم والذين يسمون انفسهم هيئة كبار العلماء احرار بأن يتسموا بهذا الاسم او غيره ولكن ليس لهم سلطان على احد، ولا يملكون من امر الناس شيئا الا في حدود القانون، والازهر معهد علمي ديني ليس سلطة تحرق العلماء او تعذبهم وكل ما يملكه ان يطعن في فهم احد الناس للدين ويخطىء رأيه، وهو حر في ذلك لأن الناس ايضا يملكون ان يطعنوا في فهم رجال الازهر للدين ويخطئوا آراءهم، ان الدين ليس حكرا لاحد ولا لهيئة، وانما هو لمن يحسن فهمه وتطبيقه" (2) الاسلام اذن هو دين العقل، وهو بالتالي دين العلم، بدأت أول آية في القرآن بالحث على القراءة والتأمل في ظواهر الخلق (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق) وكان الحرف الذي ابتدعه الشرق العربي ليكون منطلقا لبناء العلم والحضارة الانسانية قسما في بداية كثير من السور (ي س والقرآن الحكيم).. (ال م والقرآن الكريم).. ك هـ ي ع ص ذكر رحمة ربك عبده زكريا الخ). لقد جهل بعض مفسري القرآن الغاية من القسم بالحرف فاعتبروا ما جاء في القرآن من حروف ألغازا لا يمكن تفسيرها، مع ان التفسير واضح قاطع في هذه الاية التي لم تقتصر على القسم بالحرف وانما اضيف الى ذلك الكتابة والقلم: (ن، والقلم وما يسطرون). ان القرآن يحث على طلب العلم بأوسع ما في هذه الكلمة من معنى وليس على الدراسات الشرعية الفقهية فحسب: "الم تر ان الله انزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا الوانها، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف الوانها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والانعام مختلف الوانه، كذلك انما يخشى الله من عباده العلماء" فهل العلماء هنا هم علماء الشريعة والفقه فحسب ام هم علماء الطبيعة والعالمون بأسرار النواميس في الحياة والنبات والحيوان والمطر وطبقات الارض وغيرها؟ ومع ذلك فان القرآن ليس موسوعة للعلوم وما فيه من الاشارات الى بعض نواميس الطبيعة انما هو للدلالة على وجود النظام المحكم ثم للاستدلال بهذا النظام على وجود الله "سنيرهم آياتنا في الآفاق وفي انفسهم حتى يتبين لهم انه الحق"، وما من آية تتحدث عن الله وصفاته الا وهي مبثقة من التفكير بهذا الوجود وباحكام انظمته، فادراك الله كان مقترنا بالتأمل بالطبيعة "الله موجود في كل مكان" "وهو اقرب اليكم من حبل الوريد" "هو الاول والاخر والظاهر والباطن". من عقلانية الاسلام كان موقفه الحازم تجاه البدع والمعجزات والانحرافات، فعندما كسفت الشمس يوم موت ابراهيم ابن رسول الله ظن المسلمون ان كسوفها كان حزنا على موته، فقال لهم الرسول محمد: ان الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تكسفان ولا تخسفان لموت أحد. ومن هذا المنطلق كان موقف عمرو بن العاص والي مصر عندما منع بدعة وثنية هي تضحية فتاة باكر برميها في نهر النيل استجداء لفيضانه، يومذاك وقف عمرو بن العاص بحزم امام هذه البدعة قائلا: هذا لا يكون في الاسلام. لقد استصوب عمر بن الخطاب هذا المنع وارسل له ورقة ليرميها في النيل كان مكتوبا فيها: "من عبد الله عمر الى نيل مصر، اما بعد: فان كنت تجري من قبلك فلا تجر، وان كنت تجري من قبل الله فنسأل الله ان يجريك". ان معجزة الاسلام هي انتشار هذا الدين في فترة قليلة بحساب الزمن من مشارف الصين الى مشارف القارة الاوروبية، ولقد رأيت هذه المعجزة مرتين: كانت المرة الاولى عام 1956 عندما قرر المجلس النيابي السوري ارسال وفد من النواب لزيارة عدد من الاقطار العربية وكنت في عداد ذلك الوفد وكانت رحلتي الاولى الى السعودية، وهي اول وآخر زياراتي لها. منذ ان انطلقت بنا الطائرة من دمشق رحت الاحظ الصحراء الممتدة تحتنا على مدى البصر، الجرداء من كل اثر للحياة، انها بحر من الرمال وكتل الاحجار الصوانية السوداء، موحشة مخيفة خارجة عن نطاق عالم الاحياء... وبعد التأمل الطويل في تلك الصحارى التي لا تحد قال مضيف الطائرة: لقد اقتربنا من المدينة المنورة. امعنت النظر من النافذة علني اعود الى عالم الاحياء فاذا المدينة قطرة خضراء في بحر الصحراء. من هنا خرج العرب برسالة الاسلام الى العالم، وبأقل من ثلاثين سنة تؤمن الشعوب بهذه الدعوة من مشارف الصين شرقا الى اسبانيا غربا، فتنتشر دينا، وتبنى دولة وتنشىء حضارة، فلو ان قبائل رحل ارادت ان تهاجر من الحجاز الى مشارف الصين لظلت على الطريق مثل تلك المدة او اكثر. كانت المرة الثانية عندما زرت الاتحاد السوفيتي عام 1958 مع الرئيس جمال عبد الناصر، فعندما وصلنا الى اذربيجان، ثم الى اوزبكستان، استقبلنا اهل طشقند بعقيدتهم الدينية كمسلمين، التي لم تستطع الشيوعية رغم جهدها وارهابها سنوات طويلة ان تمحوها وتقضي عليها. هذه هي معجزة الاسلام الذي لم يكن انتشاره فتحا عسكريا بالمعنى المحدد لهذه الكلمة - كما يتهم - فلم تكن الجيوش العربية بامكاناتها المادية من حيث العدد والعدة وبعد المسافة عن مركز الخلافة قادرة على توفير السيطرة العسكرية على الاقطار المفتوحة. كانت دعوة الاسلام الى العدل والمساواة والحرية وعدم التمييز العنصري تسبق الجيوش الى الشعوب في مشارق الارض ومغاربها فتلقى لديها الاستجابة والتأييد، وهكذا فتح العرب اسبانيا في بضع سنوات، بينما ظل الرومان في حروب طويلة استمرت اكثر من مئة عام حتى استطاعوا الاستيلاء عليها. لم تكن شعوب البلاد المفتتحة خائفة على معتقداتها ما دام الله يوصي: "ولا تجادلو اهل الكتاب الا بالتي هي احسن فكأن الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حيميم" وما دام الاسلام لا يفرق بين دين وآخر ولا يعادي دينا من الاديان: "ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابيئن من آمن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" واذا كان ثمة عداء فان جريرة ذلك لا تعود الى الاسلام: "لتجدن اشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين اشركوا، ولتجدن اقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا انا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وانهم لا يستكبرون" وانطلاقا من هذه النظرة للاديان كانت وصية ابي بكر الصديق لجيشه المتوجه الى الشام: "اذا سرت فلا تضيق على نفسك ولا على اصحابك في مسيرك، ولا تفضض على قومك ولا على اصحابك، وشاورهم في الامر، واستعمل العدل وباعد عنك الظلم والجور، فانه ما افلح قوم ظلموا ولا نصروا على عدوهم، فاذا نصرتم فلا تقتلوا ولدا ولا امرأة ولا شيخا، ولا تقطعوا شجرة، ولا تعقروا بهيمة الا للمأكول، ولا تغدروا اذا عاهدتم ولا تنقضوا اذا صالحتم، وستمرون على قوم في الصوامع رهبانا، انهم ترهبوا في الله فدعوهم ولا تهدموا صوامعهم". معجزة الاسلام اذن هي رسالته في الحرية والعدل والمساواة والتفاهم بين جميع الناس والشعوب: "يا ايها الناس انا خلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم "فلا فضل لعربي على اعجمي الا بالتقوى" والرسول نفسه، يخطىء ويصيب ويذكره الله بخطئه "عبس وتولى ان جاءه الاعمى" الى غيرها من الايات وهو بشر كالاخرين "ان انا الا بشر مثلكم يوحى الي" وفي هذا ما فيه من العقلانية ومن ابعاد المؤمنين عن عباده شخصية اي كان، ولو كان رسول الله" فالخلق كلهم سواسية في نظر الاسلام كأسنان المشط، احرار منذ ولادتهم، هكذا علمنا خليفة الاسلام عمر بن الخطاب عندما قال غاضبا مؤنبا من استكبر واستعمل سوطه: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا؟ من عقلانية الاسلام قبوله لما يطرأ على المجتمعات من تطور، فكان الاجتهاد محاولة لتطوير الاحكام بما يتوافق مع المستجدات، استنادا الى آيات الناسخ والمنسوخ في القرآن التي شملت احكاما تتعلق حتى بتطور العقيدة ذاتها كالاتجاه في الصلاة الى الكعبة بدلا من المسجد الاقصى، كما شملت احكاما دنيوية اخرى، حتى بلغ الناسخ والمنسوخ ما يقرب من 1/11 من آياته واحكامه "ما ننسخ من اية او ننسها الا ونأتي بمثلها او بأحسن منها" ولذلك قالت المالكية ان الاجماع ينسخ القرآن، كما قال فقهاء اخرون ان القياس ينسخ القرآن. اذن فليس هنالك احكام وقوانين مطلقة، وانما تتبدل الاحكام بتبدل الازمان. لقد كان صحابة الرسول اول من وعى هذه الحقيقة وعيا تاما شجاعا، فأقدم عمر بن الخطاب، بمشورة الصحابة الاخرين، بعد وفاة الرسول على نسخ بعض الاحكام التي اقتضت الاوضاع المستجدة والمصلحة العامة تطويرها، فأعفى التغلبيين النصارى بالشام من الجزية لانهم - كعرب - انفوا ان يؤدوها وازمعوا على اللحاق بأرض الروم. ونهى عمر عن زواج المتعة كما نهى عن التحلل من بعض مناسك الحج، ولم يكن منهيا عنهما في حياة النبي، فكان الرجل يتزوج بالمرأة لاجل محتوم ثم يتركها، وكان منهم من ينوي الحج ثم يتحلل من بعض مناسكه فنهى عمر عن ذلك ايام خلافته وقال: "متعتان كانتا في عهد رسول الله، انا انهى عنهما واضرب عليهما" كما تجاوز عقوبة قطع اليد عام المجاعة في اليمن، ومنع توزيع سهم المؤلفة قلوبهم رغم ورودها القرآني الصريح. لقد شغلت مسألة الناسخ والمنسوخ كثيرا من علماء الفقه، بالرغم من ادراك الصحابة ووعيهم للعبرة منه، فقد كان علماء الفقه والكلام بعد ذلك قاصرين عاجزين عن فهم ذلك فاغلق باب الاجتهاد نهائيا في عصور الانحطاط. لقد اعجبني كثيرا قول احد الفقهاء: "ان الناسخ والمنسوخ اكبر دليل على صدق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ردا على اليهود الذين كانوا يقولون: "الا ترون ان محمدا يأمر اصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم ما يرجع عنه غدا؟" والحقيقة ان اعظم ما يتمتع به الاسلام من قوة يكمن في ادراكه العميق للعلاقة الجدلية في نواميس الطبيعة والحياة، فلم يكن دينا متحجرا ساكنا، ولكنه دين تتطور احكامه الشرعية مع تطور الحياة الانسانية والمجتمعات، وقد ارادت اليهودية ان تطعنه في امنع معاقله. ان العقلية الغيبية الراكدة الاجترارية قاصرة عن فهم التطور وادراك العلاقة الجدلية بين قيم الاسلام وبين الاحكام الدنيوية المتطورة المنبثقة عنها، لذلك كان من اعداء الاسلام شيوخه الغارقون في الجمود والتعصب الذين يرون في تطور الحياة والمجتمعات والافكار خطرا يهدد العقيدة حسب فهمهم لها، وانني بعد حياة نيابية طويلة، كنت فيها منتخبا لخمسة مجالس متتالية، استطيع القول بكل صدق ومسؤولية انني لم اشعر بأن قانونا من القوانين التي سنتها هذه المجالس كان متعارضا مع قيم الاسلام ومفاهيمه واتجاهاته. ان طعن اليهود بالناسخ والمنسوخ في عهد الرسول لم يكن ليثني الصحابة الذين هم اكثر الناس فهما لجوهر الاسلام، ان يدركوا العبرة منه فيستمروا بكل جرأة واقدام على نسخ بعض الاحكام القديمة ولو كان منصوصا عليها في القرآن والحديث، ووضع احكام جديدة تنسجم مع العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والروحية المستجدة على ضوء المحاكمة العقلية وكرامة الانسان ومصلحة المجتمع، فكان عهد الخلفاء الراشدين المع فترة في تاريخ الاسلام، اذ فتحت فيه الابواب مشرعة امام العقل والفكر والتطور. ولم يقتصر الامر على الخلفاء الراشدين بل شمل الصحابة والاخرين الذين فهموا رسالة الاسلام، كأبي ذر الغفاري استاذ اليسار والاشتراكية في الاسلام الذي دعا بعد عشر سنوات من وفاة الرسول "كل انسان ان ينفق في سبيل الله واعمال البر ما فاض من ثروته او كسبه عن ضرورات العيش" وأكد ان الايات القرآنية التي تتوعد الاغنياء الممتنعين عن الزكاة تنطبق على الناس جميعا. لقد نهى عمر المسلمين عن تملك الارض في البلاد المفتتحة على ان يكون لكل واحد عطاؤه من بيت المال، وكان صارما في تطبيق ذلك، اما الارض فهي ملك لبيت مال المسلمين (حق الرقبة)، وفي اواخر خلافته روي عنه هذا القول: "لو استقبلت من امري ما استدبرت لاخذت فضول اموال الاغنياء فقسمتها على الفقراء" وكان في سلوكه الواقعي ما يعزز هذا القول. ان فرض الزكاة في الاسلام وتحريم الربا وتحريم الاحتكار وكنز الاموال، والمساواة التامة في الحقوق والواجبات بين الفقراء والاغنياء، وجعل حق رقبة الارض ملكا لبيت مال المسلمين كل هذا وامثاله انما هو تعبير عن قيم فكرية واخلاقية وعن تطلعات انسانية عريقة لتحقيق العدالة الاجتماعية او ما يمكن ان نسميه اذا شئنا ان نستعمل لغة العصر اشتراكية الاسلام، ولا شك ان هذه القيم والتطلعات هي التي دعت الشيخ مصطفى السباعي مرشد الاخوان المسلمين في سورية ورفاقه من الاسلاميين الى اطلاق اسم : الكتلة الاشتراكية الاسلامية على تجمعهم السياسي في مجلس النواب السوري اواخر الاربعينات واوائل الخمسينات، كما ان الشيخ مصطفى السباعي قد الف كتابا تحت عنوان الاشتراكية في الاسلام. من عقلانية الاسلام وادراكه لحتمية التطور انه لم يأت بنظام محدد مقنن للحكم بل جاء بتوجيهات عامة لانظمة الحكم الصالحة، كأمره بالشورى، وان يكون تولي الحكم بالبيعة التي هي الانتخاب او الاستفتاء في عصرنا، كما شجب الديكتاتورية "لست عليهم بمسيطر". واذا كان الاسلام قد شرع لتنظيم شؤون المسلمين الذين لم تكن تجمعهم دولة ولا تنظمهم قوانين وتشريعات فان ما صدر من احكام كان مناسبا بالضرورة لدرجة تطور المجتمع العربي الاسلامي آنذاك.
وبالاضافة الى ان الاسلام قد اشار الى المبادىء العامة التي يقوم عليها نظام الحكم فقد اعطى الناس حق المعارضة وانتقاد الحكام، ومن ذلك الرواية المشهورة عن عمر بن الخطاب عندما وقف في الناس خطيبا بعد توليه الخلافة قائلا: "لقد وليت عليكم ولست بخيركم فمن رأى في اعوجاجا فليقومه"... فيجيبه احد الحاضرين هذا الجواب الصارم: "والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا". وهكذا كان المسلم يقف امام عمر رغم هيبته وشدته في تطبيق الاحكام وقفة الند للند يناقشه في الاحكام ويعترض عليها، فعندما اراد عمر ان يعاقب رجلا وامرأة سمع منهما - وكان يتفقد ليلا احوال الرعية في المدينة - ما يدل على انهما يتعاطيان الخمر فتسلق الحائط وتأكد.. قال عمر للرجل: "يا عدو الله اكنت ترى ان الله يسترك وانت على معصية"؟ فأجابه الرجل: يا أمير المؤمنين: انا عصيت الله في واحدة وانت في ثلاث، فالله يقول "ولا تجسسوا" وانت تجسست علينا، والله يقول "واتوا البيوت من ابوابها" وانت صعدت الجدار ونزلت منه، والله يقول "ولا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على اهلها" وانت لم تفعل ذلك.. قال عمر: هل عندك من خير اذا عفوت عنك، قال: نعم والله لن اعود، فقال: اذهب فقد عفوت عنك. من هذا المفهوم عن المساواة بين الحاكم والمحكوم، وعن حق المحكوم في انتخاب حاكمه وان يقف امامه حر الرأي رافع الرأس يشير عليه وينتقده اذا اخطأ، وعن واجب الحاكم الا يفرط بمال رعيته، كانت تلك الروايات المتواترة عن اهل الصدر من الصحابة وما تتصف به من تقشف وتواضع، وهذا هو الاسلام.. واخيرا لا بد لي من القول ان اسباغ الصفة الدينية على الخلافات السياسية التي بدأت تستشري بعد فترة قليلة من وفاة الرسول قد ادى الى تمزق المسلمين الى ثلاث فرق دينية هي الشيعة والسنة والخوارج التي ما لبثت بدورها ان تفرعت الى فرق اخرى بدوافع سياسية ايضا، وقد عانى المسلمون من هذا التمزق ما عانوه في الماضي وما يعانونه في الحاضر، ولا يزال عدم فصل بعض الفئات الدين عن السياسة مما يفسح المجال واسعا امام اعداء الاسلام لتمزيق المسلمين ووحدتهم الوطنية في الاقطار العربية والاسلامية. والان: متى يتحرر المجتمع العربي ويصبح فيه المسلم مسلما حقا؟ متى يفكر المسلم بعقله لا بعقول الاخرين؟ متى تفرغ المكتبات من الكتب التي جمدت الاسلام وادخلت اليه ما ليس فيه؟ متى ينظر المسلم الى امام والى ما حوله؟ متى يتحرر العربي المسلم من الخوف فينتخب حكامه ويحاسبهم اذا اخطأوا او انحرفوا؟ متى يفهم بعض المسلمين ان الاسلام هو دين الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الانسان، وان في هذه القيم الحد الفاصل بين الواقع الذليل وبين مجتمع الكرامة والتقدم. متى يعود العرب والمسلمون اصحاب رسالة فيساهمون في بناء الحضارة الانسانية؟
___________________________
(1) يوسف الخال 5-4-1972
(2) فقرات من نص وردت في كتاب شبهات حول الاسلام ص 152-153 الطبعة التاسعة، لمؤلفه محمد قطب، والمؤلف من الداعين الى حكم يستند الى الشريعة - يكون فيه المتخصصون في الفقه والتشريع مستشارين عند الدولة.
قد كنت قبل اليوم انكر صاحبي اذا لم يكن ديني الى دينه داني
فاصبح قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلان، وديرا لرهبان
ادين بدين الحب انى توجهت ركائبه فالحب ديني وايماني
كذب الظن لا امام سوى العقل مشيرا في صبحه والمساء