يشرح الدواليبي في الحلقة الأخيرة من مذكراته ظروف خروجه من سورية الى لبنان أولا ثم الى السعودية بدعوة من الملك فيصل، كما يروي تفاصيل اللقاء الذي جمع الملك الراحل والرئيس الفرنسي شارل ديغول والذي غير فيه الاخير موقفه من اسرائيل. وأخيرا يفرد جزءا مهما من هذه الحلقة من مذكراته لعمله مع خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، وكيف أنه ألح على الأمير فهد آنذاك «أن يكون للأمير خالد كما كان فيصل لسعود. ويضيف انه لما آل إلى الأمير فهد الأمر أظهر كفاءة عالية، وحافظة طيبة، وجلداً على العمل». ويقول انه في عهد الملك فهد تعددت المشكلات وتفرعت وتعقدت، وآخرها مشكلة أزمة الخليج القاصمة، وقد واجهها ووقف أمامها. وفي هذا السياق يقول الدواليبي انه لما تأكد ان صدام حسين حشد 250 الف جندي على حدود المملكة لم يتردد الملك فهد في اتخاذ قرار المقاومة.
الخروج إلى السعودية ولقاء الملك فيصل
* متى خرجتم من سورية إلى السعودية؟ ـ كان خروجي بعد الانقلاب البعثي، وخروجي من السجن في سنة 1964، بناء على طلب أمين الحافظ رئيس الدولة آنذاك، أن أخرج إلى لبنان، وهنا تدخّل الملك فيصل; إذ رآني خارج حدود بلادي، فأرسل لي السفير مسعود الدغيثر، وكان ذلك في صيف 1964، إذ استقرّيت في لبنان، بعد أن نودي بفيصل ملكاً.
* ماذا تذكرون من ملامح شخصية الملك فيصل رحمه الله، ودعوته للتضأمن الإسلامي وانعكاساتها، وموقفه من وزير الخارجية الأميركي هنري كسينجر حينما طاف بالبلاد العربية؟ ـ كان رجلاً مسلماً متفهماً أوضاع المسلمين، بعيداً عن المظاهر وحب الدنيا والزعامة والرئاسة، كانت دعوته لي إلى المملكة بإلحاح صادق، واتجهنا بعد مجيئي إلى تقوية جهاز الديوان الملكي وإقامة نظام شورى إسلامي، يشترك فيه الشعب في التعبير عن رأيه، وذلك بوضع دستور، وكان يمتلئ اقتناعاً بذلك وكان لا بد من أن نبدأ أولاً في تنظيم الديوان، وملئه بالأشخاص الأكفاء، ولا بد من إيجاد عناصر متعلمة مثقفة; لأن الدولة تقوم على بضع عشرة وزارة، وقد تصل إلى عشرين، وهذه الوزارات ترفع تقاريرها إلى الديوان، ولم يكن في الديوان في ذلك الحين العدد الكافي من العناصر الأكفاء، ومن هنا كان لا بد من الاستفادة من الفئات العائدة من التعلّم، وفكرت بالاستفادة من أولاد الملك فيصل الذين جاءوا متعلمين، ولكنهم ينصرفون إلى الأعمال التجارية، فمنعني قائلاً: أنت تريد أن تضع أولادي في الديوان لأنهم متعلمون، ولكن سيأتيني بقية الأمراء مطالبين بوضع أبنائهم كما وضعت أنا أبنائي، وليس كل الأمراء متعلمين، ولذلك كان يلح عليّ ألا يدخل ابنه في الديوان الملكي. لقد هيأت له الحكمة التي كان يتحلى بها الأسباب، وفتحت له الأبواب، وأزالت الصعاب، وكان يقابل السيئة التي تُوجَّه إليه من عبد الناصر بالحسنة.. والضربة التي نزلت بعبد الناصر سنة 67 كانت قاسية، فطلب عقد مؤتمر قمة وطلب مساعدات; لأنه من دون مساعدات لا يستطيع الصمود. ومع ذلك قال فيصل لجمال عبد الناصر: أنا مستعد أن أعطيك ما تريد، فدُهِشَ عبد الناصر. أما مجيء كسينجر إلى البلاد العربية فكان لاستطلاع آرائها، وإيجاد حل للقضية الفلسطينية بعد صدور القرار (242)، ولما قابل الملك فيصل كان جوابه: أنا ما عندي حل إلا حق تقرير المصير للفلسطينيين، ولو أن الفلسطينيين كلهم قبلوا الصلح ما قبلتُ أن أصالح، لأن إسرائيل خطر على الإسلام والمسلمين. أما حق تقرير المصير فمن حق الفلسطينيين، وأما القدس بصورة خاصة ثالث الحرمين فأنا أطالب بها. وقال له كسينجر: أنا طفت العالم العربي فما وجدت أحداً يذكر القدس غيرك.
زيارة وفد السعودية الى الفاتيكان
* هل كان لزيارة وفد المملكة للفاتيكان آثار سياسية؟ ـ لا شك أن نجاح زيارة وفد المملكة للفاتيكان أدّى إلى إيجاد نوع من التقارب بين المسلمين والمسيحيين; ولذلك فقد استاءت إسرائيل جداً من هذه الزيارة ومن ذلك التقارب، ولم تفلح محاولاتها في إحباط تلك الزيارة. وكان الملك فيصل متهيباً منها، وأذكر أنه قال لي حينما وصلت إلينا دعوة البابا: يا دكتور، نحن مشايخنا يجتمعون، وربما يتفاهمون مع مشايخ العالم الإسلامي، فكيف تأخذهم إلى البابا؟. قلت له: يا جلالة الملك، هذا القصر الذي يسكنه الفاتيكان هو البناء نفسه الذي أصدر قراراً قبل عشرة قرون بمحاربة الإسلام. والآن يطلبون منكم أن تدخلوا إليه، لتعلنوا كلمة الإسلام في حقوق الإنسان. ونحن أمة دعوة، يجب أن نذهب إليهم وندعوهم. هم دعونا، فكيف نرفض الدعوة؟ فقال: ولكن المشايخ ربما لا يتفهّمون هذه الدعوة، فقلت له: عيّن أسماء الوفد، وأنا أعمل على تهيئتهم إن شاء الله. وكان الأمر كذلك، وحققت نجاحاً كبيراً.
* ما الذي حال من دون تطبيق المخطط الذي اقترحه كسينجر وهو احتلال المملكة؟ ـ الحرب الباردة بين القطبين جعلت الأمر صعباً. واحتلال الجزيرة ومناطق البترول ليس بالأمر السهل. فالسوفيات كانوا يحاربون في أفغانستان مروراً ببلوجستان، ويتطلعون للسيطرة على المنطقة. والسباق على أشده في التقنية التي تمكّن من جعل الحرب قصيرة، وما كانوا مهيئين لخوض حرب سريعة; ولذلك انصرف القطبان، كلٌّ منهما يريد أن يسبق في الإعداد التقني وقد استفادوا من هذا الإعداد وطبقوه في أزمة الخليج. الملك فيصل وديغول
* كيف استطاع الملك فيصل أن يغيّر رأي ديغول وموقفه من إسرائيل ودعمها بالسلاح؟
ـ يعرف عن ديغول أنه يغيّر مواقفه إذا عرف الحقيقة; ولذلك كنت حريصاً على تدبير لقاء الملك فيصل به، ولكن كان له ولأخيه خالد موقف من ديغول، على خلفية استقباله لهما في مطلع 1945 في مكتبه في لندن بشيء من الجفاء، ودعمه لليهود. ولذلك كنت ألحّ على الملك فيصل أن يقابله إلى أن حدث ذلك في باريس قبل 5 (حزيران)1967، وكان اللقاء على غداء فقط. وكان ديغول يراعي الحِمْية في الطعام والشراب والنوم وأوقاته منضبطة محدّدة; ولذلك استقبله قبل نصف ساعة من الغداء بالضبط في قصر الإليزيه، وكان مع فيصل الأمير سلطان والدكتور رشاد فرعون. وطلع فوراً إلى اللقاء، رأساً لــرأس، ولا يـوجد معهما سوى مترجم من عند ديغول. قال ديغول: يتحدث الناس بلهجة متعالية أنكم يا جلالة الملك تريدون أن تقذفوا بإسرائيل إلى البحر. إسرائيل هذه أصبحت أمراً واقعاً، ولا يقبل أحد في العالم رفع هذا الأمر الواقع. فأجابه فيصل: يا فخامة الرئيس، أنا أستغرب كلامك; إن هتلر احتل باريس وأصبح احتلاله أمراً واقعاً، وكل فرنسا استسلمت إلا أنت! فانسحبت مع الجيش الإنجليزي، وبقيت تعمل لمقاومة الأمر الواقع حتى تغلّبتَ عليه. وألمانيا تنتهز الفرصة من وقت لآخر لخلافها معكم على منطقة الألزاس. كلما احتلتها وقف الشعب الفرنسي ينتظر حرباً عالمية ليستعيدها، فلا أنت رضخت للأمر الواقع ولا شعبك رضخ; فأنا أستغرب منك الآن أن تطلب مني أن أرضى بالأمر الواقع. والويل عندئذ يا فخامة الرئيس للضعيف من القوي إذا احتلّه القوي وراح يطالب بالقاعدة الذهبية للجنرال ديغول أن الاحتلال إذا أصبح واقعاً فقد أصبح مشروعاً. فدهش ديغول من سرعة البديهة والخلاصة المركّزة بهذا الشكل، وكان ديغول لم يستسلم ويتراجع، وإنما غيّر لهجته متأثراً بما سمع، وقال: يا جلالة الملك، لا تنسَ أن هؤلاء اليهود يقولون: إن فلسطين وطنهم الأصلي، وجدهم الأعلى إسرائيل وُلِد هناك. قال فيصل: فخامة الرئيس أنا من الأشخاص الذين يعجبون بك ويحترمونك; لأنك رجل متدين مؤمن بدينك، وأنا يسرني أن ألتقي بمن يخلص لدينه، وأنت بلا شك تقرأ الكتاب المقدس. أما قرأت أن اليهود جاءوا من مصر غزاة فاتحين، حرّقوا المدن وقتلوا الرجال والنساء والأطفال، ما تركوا مدينة إلا أحرقوها، فكيف تقول إن فلسطين بلدهم، وهي للكنعانيين العرب، واليهود مستعمرون. وأنت تريد أن تعيد الاستعمار الذي حققته إسرائيل منذ أربعة آلاف سنة، فلماذا لا تعيد استعمار روما لفرنسا الذي كان قبل ثلاثة آلاف سنة؟ أنصلح خريطة العالم لمصلحة اليهود، ولا نصلحها لمصلحة روما عندما كانت تحتل فرنسا والبحر الأبيض كله وإنجلترا أيضاً؟ ونحن العرب أمضينا مائتي سنة في جنوب فرنسا، في حين لم يمكث اليهود في فلسطين سوى سبعين سنة ثم نفوا بعدها. وهذا مثال تاريخي أيضاً. قال ديغول: ولكنهم يقولون: في فلسطين وُلِد أبوهم. قال فيصل: غريب!! عندك الآن مائة وخمسون دولة لها سفراء في باريس، وأكثر السفراء يولد لهم أولاد في باريس، أفلو رجع هؤلاء السفراء إلى بلادهم، ثم جاءت ظروف صار فيها هؤلاء السفراء رؤساء دول، وجاءوا يطالبونك باسم حق الولادة بباريس، فمسكينة باريس، لا أدري لمن ستكون؟!. هنالك، سكت ديغول، وضرب الجرس مستدعياً بومبيدو، وكان جالساً مع الأمير سلطان والدكتور رشاد فرعون في الخارج، وقال له: الآن فهمت القضية الفلسطينية، أوقفوا السلاح المصدَّر لإسرائيل. وهكذا قُطع السلاح الفرنسي عن إسرائيل منذ ذلك اليوم من عام 1967 قبل الغزو الثلاثي لمصر بأربعة أيام.
واستقبلنا الملك فيصل في الظهران عند رجوعه من هذه المقابلة، وفي صباح اليوم التالي ونحن في الظهران أُعلِن الغزو، فاستدعى الملك فيصل رئيس شركة التابلاين الأميركية، وكنت حاضراً، وقال له: إن أي نقطة بترول تذهب إلى إسرائيل ستجعلني أقطع البترول عنكم. ولما علم بعد ذلك أن أميركا أرسلت مساعدة لإسرائيل قطع عنها البترول، في حين لم يقطع عنها البترول العراق، كما لم تقطع البترول كلٌّ من الجزائر وليبيا. وقامت المظاهرات في أميركا، ووقف الناس مصطفين أمام محطات الوقود، وهتف المتظاهرون: نريد البترول ولا نريد إسرائيل، وهكذا استطاع هذا الرجل بنتيجة حديثه مع ديغول، وبموقفه البطولي في قطع البترول أن يقلب الموازين كلها.
مع خادم الحرمين الشريفين
* إذا انتقلنا إلى علاقتكم بخادم الحرمين الشريفين الملك فهدبن عبد العزيز وهو في سُدَّة الحكم، فما هي ذكرياتكم عن اتصالكم به وبشخصيته وأعماله؟ ـ لا شك أن الملك فهد أظهر مرونة وكفاءة. وخصوصاً إذا علمنا أن الأحداث العالمية بعد الملك فيصل أخذت تتعقّد. ففي عهد الملك فهد تعددت المشكلات وتفرعت وتعقدت، وآخرها مشكلة أزمة الخليج القاصمة، وقد واجهها ووقف أمامها. وقبل ذلك قام بعمليات مصالحة ما بين المغرب والجزائر، والمغرب وليبيا، والأردن وسورية، وهي مشكلات في داخل البلاد العربية، برزت في أيام الملك فهد، وتصدى لمعالجتها. ولما حشد صدّام مائتين وخمسين ألف جندي على حدود السعودية، ولم يُكتَشف هذا الحشد إلا بالأقمار الصناعية في الصحراء، لم يصدق الملك فهد ذلك حين أبلغه الأميركان فتثبت من صحة الخبر بالهاتف فكلم صداماً، فحاول هذا أن يراوغ، ثم لماذا الخوف؟ أليس بيني وبينك معاهدة صداقة وعدم اعتداء؟ وتبين لفهد صدق الأميركان. وكان لا بد من اتخاذ قرار سريع لمواجهة هذه المصيبة، فلم يتردد في اتخاذ قرار المقاومة، ولم يلتفت لتضارب الآراء، فهذا يقول يجوز، وهذا يقول: لا يجوز. ولو تردّد أو توقّف عند تضارب الآراء لطارت المملكة، ولنزل بها ما نزل بالكويت، وما كان هناك من يقول للمملكة ما قالته المملكة للكويت. لقد كانت السرعة في البت في هذه المسألة الخطيرة وتحمّل المسؤولية فيها أمراً مهماً جداً، وليس عملاً بسيطاً، ولقد سمعت من أساتذة جامعيين أنه ليس من رأيهم التفاهم مع أميركا في هذه المسألة الخطيرة. ومن هنا كان للملك فهد الفضل في سرعة اتخاذ القرار، وكانت الحرب العالمية التي انتهت بعد مائة ساعة، وتجمّع فيها ستون دولة، وبذلك أعاد الكويت إلى أصحابها. ولما سأل أميركا ما موقفها؟ كان الجواب: سنحدد موقفنا بعد أربع وعشرين ساعة. وتمكنت الإدارة من أن تأخذ موافقة الكونغرس، بعد أن أفهمت أعضاءه أن القضية قضية بترول قد تزلزل الاقتصاد العالمي، ومن هنا أَذِن الكونغرس، وكان المنتظر ألا يأذن، لأنه خاضع لتوجيهات إسرائيل، بل كان المتوقَّع أن تكلَّف إسرائيل بالوقوف في وجه صدّام حسين، وتدفع المملكة التكاليف لصالح إسرائيل. ولقد نجح بوش بأخذ موافقة الكونغرس في ليلة واحدة، اجتمع فيها مائة من أعضائه وأعطوا موافقتهم، وبسبب هذه السرعة في البتّ تغيرت المقاييس كلها، وأذكر أنني قلت للملك فهد أمام جمع من العلماء: إن الأخطار التي وقعت شتَّتَتْ مليون كويتي، وكانت ستُشّتِت ثمانية عشر مليوناً، والكويتيون الذين أخرجوا من ديارهم لجأوا إليكم، فماذا لو حلت المصيبة بكم، فموقف الملك فهد كان موقفاً عصيباً تتزلزل فيه الأقدام، وقد أعانه الله عليه. القضية الأفغانية
* ما انطباعكم عن القضية الافغانية وما يحيط بها من مؤامرات ومخططات، فقد ذهبتم إليها وحاولتم جمع كلمة المجاهدين وقابلتم المسؤولين الروس من أجل هذه القضية. ـ القضية الأفغانية مرتبطة بمخططات مسبقة للسوفيات، الهدف منها الوصول إلى المحيط الهندي، ليحيطوا بالخليج العربي والبحر الأحمر، ويمنعوا أي تسرّب من البترول إلى أميركا في حالة وقوع حرب. أرادوا أن يجدوا لهم منفذاً من مضيق الدردنيل إلى البحر الأبيض بعد أن تشيّعت الصين، وأكسبت السوفيات قوة، فطلبوا المرور بالدردنيل، فامتنعت تركيا، إذ كان هناك اتفاقية دولية، تجعل الدردنيل أراضي تركية، وبحسب هذه الاتفاقية تخضع الأساطيل المسلحة إذا مرت بها للتفتيش والمراقبة، وتمنع من المرور الحرّ، لأنه قد يفضي إلى احتلال البلد. عندئذ فكروا في أفغانستان، فهي متصلة بباكستان، البالغ تعداد سكانها مائة وعشرين مليوناً، ومشكّلة من أربعة أقاليم: إقليم السند الذي فيه كراتشي، وإقليم البنجاب الذي فيه لاهور، والإقليم الشمالي وفيه بشاور، وبلوجستان وهو أكبر الأقاليم، يبدأ من أفغانستان في الشمال. ويهبط إلى البحر ويتصل به، وهذا الإقليم الأكبر لا يزيد عدد سكانه عن مليون ونصف، فهو أراض غير مسكونة تقريباً. فإذا احتلوا أفغانسان فبإمكانهم أن يطلبوا مروراً حراً في بلوجستان كما طلبوا المرور الحر في الدردنيل، وهذا ما كنت أقدّر وقوعه لما رأيت من صنيعهم في العد الملكي، إذ أنشأوا طريقاً معبداً بالإسمنت المسلّح، لأنه يقع في منطقة جبلية باردة، ليصمد أمام الرطوبة والجليد، وهذا الطريق كلّفهم مبالغ طائلة، لا يُعقَل أنهم دفعوها من أجل المرور التجاري. وإنما لأهداف عسكرية.
لذلك قلت يومئذ لضياء الحق إن عملهم هذا يدل على أنهم يضعون أعينهم على بلوجستان غير المسكونة تقريباً. وزاد من أطماعهم ما رأوا من حاجة باكستان إليهم، لما استقرت وظهرت فيها ثروات زراعية وبترولية ومعادن وطلبت من الروس العون بعد أن رفضت إنجلترا وأميركا من مساعدتها. وهو ما حدث إذ رتب الشيوعيون انقلابا على الملك ظاهر شاه، ملك أفغانستان، عن طريق داود شاه ابن عم الملك وزوج أخته، بمساعدة محمد طراقي أحد الضباط الشيوعيين، وتم إعلان الجمهورية وتعيين داود شاه رئيساً لها، من دون أن يقدموا على قتل الملك، وبذلك تجاوزوا مشكلة الإرث في النظام الملكي.
ولما صار داود شاه رئيساً للجمهورية ألف حكومة، وطلب العون من السوفيات، وأعلن أن منطقته بحاجة إلى منفذ على البحر; إذ لا يجوز أن تبقى محبوسة لا منفذ لها، وليس هناك من طريق إلى ذلك إلا من بلوجستان، فأخذ موافقة السوفيات وطلب السماح له بالمرور الحرّ من بلوجستان. فطلبوا من ضياء الحق السماح لهم بالمرور الحر من بلوجستان، فرفض. وقلت له يومذاك: لا بد لك من أن تصالح أميركا; لأنه كان مخاصماً لها لما استعمل سلاح حلف بغداد في مقاومته انفصال باكستان الشرقية، فقطعوا عنه الإعانات; فقلت له: جرب الاتصال بهم، فلا يزال في الرئاسة بقايا ممن نعرفهم منذ عام 1962 أيام كنتُ رئيساً للحكومة السورية، ومنهم جونسون وبعض الشخصيات الأميركية الذين كنا نتعامل معهم، ويمكنني أن أتصل بهم وأنبّههم إلى الخطر الذي يسعى إليه الروس ـ وذهبت فعلاً في سفرة سرّيّة في سنة 1977 إلى أميركا، والتقيت ببعض الشخصيات الأميركية المسؤولة ممن يمكنهم السيطرة على البيت الأبيض، ونبّهتهم إلى خطر ما كانوا متنّبهين إليه إلا بعد ما صار الانقلاب في أفغانستان. وأعادوا الصلات مع باكستان، وأعطوها الأسلحة التي كانوا أوقفوها.
ولما بدأ المجاهدون بمقاومة السوفيات أيدهم العالم العربي والعالم الإسلامي. وأمام إصرار السوفيات على الحرب كان لا بد لي من التدخل، وإفهام الروس خطأ محاربتهم للمجاهدين. وفي عام 1987 ذهبت إلى قصر الكرملين، وكان غروميكو رئيساً للجمهورية، ولكن المسيطر هو سكرتير الحزب غورباتشوف، وكان لقائي بشيفرنادزه وبعض المسؤولين، وكانت الثورة الأفغانية على أشدها. وبحثت مع المسؤولين السوفيات القضية الأفغانية، وحاولت إقناعهم بأن حربهم للمجاهدين ليس في مصلحتهم، ورأيت أن كلامي ترك أثراً في نفوسهم، ووعدوا بالخروج من أفغانستان. واجتمعت بعد ذلك بالمجاهدين، وأفهمتهم أن القتال لن يجدي; وقد تسنح الفرصة للتفاهم مع رئيس جديد مقبل إلى روسيا، لديه رغبة في التسامح مع الأديان، وأن المستفيد من هذه الحرب هي أميركا، ومن مصلحتها استمرار هذه الحرب. فاقتنع المجاهدون بوجهة النظر هذه، وتوصلنا إلى أحجية التفاهم مع السوفيات على أساس إجراء انتخابات بعد وقف الحرب، تقوم بها لجنة دولية. ومن يحوز على الأكثرية يتسلم الحكم. ولضمان موافقة الروس على مشروع كهذا، وحتى لا يخرجوا منكسرين، ويسحبوا عميلهم ويطردوه، أقنعناهم أن يعين هو الحكومة التي ستجري الانتخابات، على أن يتسلم الحكم من يحوز على الأكثرية، سواء أكانوا من الشيوعيين أم من المجاهدين. وكان هذا الاقتراح بالاتفاق مع الملك فهد، وأرسل السوفيات فولنستوف للالتقاء بالمجاهدين، وكانوا ممتنعين عن اللقاء بالسوفيات. وكان الاجتماع بالطائف. اجتماع الطائف
* تم التفاهم أن يرسل السوفيات وفدهم للالتقاء بالمجاهدين على أرض المملكة. وهنا حدثت أخطاء من إخواننا المجاهدين. فقد نزل الفريقان في فندق الطائف، على أن يكون الاجتماع في قاعة الاجتماع فيه. وكان المكلّف بترتيب هذا الاجتماع الأمير تركي الفيصل رئيس المخابرات السعودية (آنذاك)، فطلب من الأفغانيين أن ينزلوا إلى قاعة الاجتماع أولاً، ثم يأتي السوفيات، فيرحب بهم الأفغانيون. فرفض هؤلاء ذلك قائلين: نحن لا نقوم لكفار. وأصبح الموقف حرجاً وخصوصاً إذا فهم السوفيات موقف الأفغانيين. ولكن تمكّن الأمير تركي بنباهة وذكاء من حل هذا الإشكال بأن قال للأفغان: تخرجون أنتم وهم في آن واحد، متجهين جميعاً إلى القاعة، ونوصي رجال المراسم بأن يمشوا معكم ببطء، ويمشوا مع السوفيات بسرعة، وبذلك يدخلون القاعة قبلكم من حيث لا يشعرون. وتم ذلك، ووصل الوفد السوفياتي إلى القاعة وجلسوا قليلاً، ودخل بعدهم الأفغان. ووقف السوفيات واستقبلوا الأفغان. وبذلك سارت الأمور على ما يرام. ولكن ربّاني ذهب بعد ذلك وأعلن في الصحف أننا رفضنا أن نقوم لهم، وجعلناهم يقومون لنا. وهنا انزعج غورباتشوف جداً، ولام شيفردنادزة وأنّبه قائلاً: كيف ترضون أن يدخلوا بعدكم ثم يقولون ما قالوا؟ ولذلك أخفقت المهمة التي جاء الفريقان من أجلها، واستمرت الحرب وسبّبت خراباً أكثر. وكنت نبّهت المجاهدين إلى أن الروس سيذهبون إلى أميركا قريباً للتفاهم معهم. فإذا تم هذا التفاهم بينهم فسيستمر السوفيات بضربكم، وستقطع أميركا عنكم السلاح. وفعلاً تم هذا التفاهم، وصارت أميركا تعطي المجاهدين السلاح الذي يساعد على دوام الحرب لا على إحراز النصر. وهدفها أن يفني الفريقان المتصارعان بعضهما بعضاً.
دور إسرائيل في الحرب بين العراق وإيران
* هل هناك تعليق على حرب العراق وإيران؟
ـ الحرب بين العراق وإيران دخلت فيها أيد إسرائيلية يهودية; ذلك أن العلاقات والصداقات والتعاون، كل ذلك كان موجوداً بين الشاه وإسرائيل. ولما جاء الخميني دعمته إسرائيل، والدليل على ذلك أنه لم يسمح إلا بتأسيس حزبين: الحزب الإسلامي والحزب الشيوعي، مع أن الحزب الشيوعي حلّه الشاه، وكان رئيس حزب توده في إسرائيل، واتفقت إسرائيل مع الحزب الشيوعي الموجود في إسرائيل على التفاهم مع الخميني لحل الجيش الإيراني الواقف في وجه الثورة الإسلامية وفي وجه الشيوعيين. والدليل على ذلك سماح الخميني للحزب الشيوعي بالعمل في إيران وهذا كله يرضي السوفيات.
كان الاتفاق على التعايش السلمي بين الاتحاد السوفياتي ونيكسون عام 69 ـ 70 مقابل شروط، اشترطت أميركا أن يخرج السوفيات من مصر، واشترط السوفيات أن تخرج أميركا من فيتنام، كما اشترطوا حلّ الجيش الإيراني الذي كان متوقعاً أن يكون أكبر جيش في المنطقة، وهو الذي يتحمل المبادرة والصدمة الأولى إذا وقعت حرب، وإلى أن تصل الجيوش الأميركية يكون الجيش الإيراني قد وصل إلى البحر، فتركيا وإيران وباكستان، تشكّل الجبهة الأولى التي تتحمّل الضربة الأولى، وكان الجيش الأكثر تجهيزاً هو الجيش الإيراني، ومن مصلحة إسرائيل حلّ هذا الجيش.
ولقد طلب الأميركان من الشاه حلّه فأبى. وكانت الأسلحة تأتي إلى إيران من إسرائيل لمواجهة العراق، وهي أسلحة تأتي من مستودعات أميركا في إسرائيل التابعة للحلف الأطلسي. فلما أخذت إيران أميركيين رهائن صدر قرار أميركي بعدم تسليح إيران، ونصح الخميني بني صدر وكان رئيساً لجمهورية إيران بعدم الاعتماد على هذا المصدر للتسليح من إسرائيل.
* ما رأيكم في أن إسرائيل هي التي عملت على الإيقاع بين الخميني وصدام؟
ـ في أثناء الحرب سنة 1982كنت عائداً من مؤتمر في الشرق الأقصى سمعت بيغن رئيس وزراء إسرائيل يقول: لا أريق دمعاً على الدماء التي تراق بين الإيرانيين وصدام; لأن العرب ما داموا يتقاتلون بينهم أو بينهم وبين غيرهم من المسلمين فلا يمكن أن يشنوا حرباً علينا. إذاً من مصلحة إسرائيل أن تقوم هذه الحرب. لذلك شجعت الخميني على الحرب ضد صدام، وأعطوه أسلحة، وبذلك دخل صدام الحرب، وشُغل العرب جميعاً عن إسرائيل، وهذا ما تريده إسرائيل، وما قاله ريغان.