كان صاحبي يتكلم و ينفث دخان أرجيلته بقوة وعصبية و أحسست في أعماقي برغبة ملحة في مناقشة هذا الساخر بكل شيء الهازئ من كل شيء و لم يكن في نفسي أي شيء ضد سخريته و هزئه
أليس من حقه أن يسخر وهو ابن المأساة الضياع ؟ و أخذت أفتش عن إنسانه الجني و أتساءل: ألا يزال إنسانه الجني في أعماقه هذا الإنسان الذي أعطاه ذات يوم كتابة قبل أن تنطفئ الشعلة الأدبية في بلاد الناطقين بالضاد ؟
هل استطاع أن يطرد إنسانه الجني الذي كان يحمله أحيانا إلى قمم الروابي الخضر روابي انطاكيه و اسكندرونة حيث ولد و حيث العناقيد الخالدة تنام على صحون أوراق الورد تنتظر عودته إلى وطنه ؟
كلا لم يتحرر من إنسانه الجني
إنه معه وقد شاهدته يضحك و يسخر و يتطلع إلى المستقبل بفم مفتوح
لم يستطع خلال حياته أن يطرد إنسانه الجني فقد ظل هذا الإنسان أسيراً في عروقه يكبل آدميته بكل ما لديها من حدود و قيود و ظل هو ساهراً يبحث عن وسيلة ترد لقلبه هواه و لفكره صفاه و لنفسه تلك الطمأنينة التي تمسك بخناقها أفاعي الهلع و القلق و تهت من سخريته و هزئه و لم أعد أدري من أي شرفة سأطل على هذا الإنسان ؟ ومن أي زاوية سأتطلع إليه ؟ و بدأت أسأل نفسي بدلاً من أن اسأله : الساخرون من كل شيء لماذا يسخرون . الهازئون من كل شيء لماذا يهزؤون ؟أ لأنهم عرفوا أن للسخرية في الأدب الحديث مفهوماً أعمق من مفهوم الجد و أشد أثراً ؟ أم لأن في نفوسهم رغبة جامحة لا تحققها قدرة و طموحاً لا تضبطه إرادة فلجأوا إلى السخرية يلهبون بها شعورهم المتقد من الألم فصدرت سخريتهم كما يصدر الأنين عن المجروح و الصراخ عن المظلوم والزمجرة عن الساخط ؟
أم لأنهم أحبوا أن لا يتركوا الساحة بالسهولة التي يتصورها من يريدهم أن يغادروها ليحتلها و حده ؟
ثم أليس من حق الإنسان الذي ظل محتفظاً بآدميته أن يسخر و هو ابن مأساة الاسكندرونة و أن يهزأ و قد عاش بعدها مأساة فلسطين بجوارحه ووجدانه ؟
قاتل على جبهة الكلب
لقد اختار بعد طول تفكير أن يقاتل الحياة على جبهة واحدة و كانت جبهة الكلب و اختار ميدان النكتة الفنية ساحة لمعركته إن النكتة ولا شك فن يجري على فريق من الناس دون الآخرين و النكتة المطبوعة لا المصنوعة تأخذ سبيلها إلى النفس البشرية تفعل فيها فعل المادة الكيماوية فتذيب عن القلوب جبال الثلوج و عن العقول و هم الصدأ الذي يخلفه الزمان و يثقل به الدماغ فيورثه السأم و القرف و الوجع
و النكتة العميقة هب ابنة صاحبها الشرعية الذي قضى حياته في الدرس و التحصيل و بين لفائف التاريخ و مدونات الأدب أما النكتة الأصلية فهي التي يستغلها مطلقها في حدث سياسي يصعب على الإنسان أن يعالجه بصراحة فلا يجد وسيلة غير النكتة فكيف إذا كانت النكتة شعراً .
و ناداني كعادته : أهلاً بالزميل إنني لا أرحب بالزملاء و لكني أرحب بك كمدخن للأرجيلة فقد لا كمنافس
- أريد أن أحدث الناس عن جريدتك الكلب
- شكراً ومعذرة ..
- لماذا المعذرة ؟
_ أريد أن اعتذر لأن هذه الجريدة سببت لي من المشاكل ووجع الرأس ما يكفي وهي توزع سراً فكيف إذا عرف بها الناس و أقبلوا عليها ؟ لا , لا أريد أن يعرفها إلا القلائل ممن يفهمون النكتة و يقدرون قيمتها الفنية و نحن نعيش في عصر غلب عليه طابع الجد فلا تدفعنا للتهلكة .
- إعدك بأن يبقى الحديث سراً بيننا .
- لا بأس , إذا كنت تحفظ السر .
- سأحفظه بيني و بين القراء , فهل تقبل ؟
- إذاً سأجيب على سؤال واحد فقط ولن أجيب على بقية أسئلتك لقد أصدرت الجريدة حين رأيت أول ديكتاتورية تقام على رؤوسنا لقد شعرت باشمئزاز من التصرفات المجنونة و المزيج العجيب من القسوة المتناهية و كان لا بد من عمل شيء ما لكشف هذه المتناقضات و رد الشباب إلى حقيقتهم فكانت جريدة الكلب هذه التي كنت تستعيرها ولا تعيدها .
- لماذا اطلقت عليها اسم الكلب ؟
- لأن الكلب هو الكائن الوحيد الذي يحق له أن ينبح دون أن يلزمه أحد بشيء .
- كيف تحررها ؟
- في أوقات القيلولة و مع نفس الارجيلة و في أخر الليل حين أعود إلى المنزل مخدر اليدين واللسان .
- هل تحررها وحدك أم يشترك معك بعض الأدباء ؟
- لا تنس أن الجريدة شعرية و قد يصادف أن يبعث بعض الشعراء بقصائد سياسية فأنشرها لهم في جريدتي و لكني في معظم الأوقات أحررها و حدي من بابها إلى محرابها .
- كيف شعرت و أنت تقرأ العدد الأول ؟
- شعرت بوجودي بإنسانيتي بقدرتي على الحركة شعرت بأنني فعلت شيئاً دون أن ألتزم بشيء و كانت المجلة وسيلة الاتصال بأمثالي من الشباب الذي يحسون و يتألمون ولا يعلمون كيف ينقلون هذا الحس و الألم إلى الواقع إننا بحاجة ماسة إلى إطلاق الحرية الكاملة للأفكار الصادقة لكي تتصارع على نطاق أوسع إن في بلادنا نقصاً كبيراً في هذا الموضوع لقد كان الحكام في السابق يجبرون الناس على أن يفكروا يجبرون الناس على أن يفكروا مثلهم , ومن هنا نشأت العُقد ففي بلاد العالم مجال كبير لصراع الأفكار وهذا الصراع يفسح المجال للتسامح و من هنا كان لابد للسخرية من ان تأخذ طريقها للفرار من الجد و لو مؤقتاً .
الكلب
- ما الأبواب التي تعتمد عليها في جريدتك ؟
- أجاب : المقال الافتتاحي , المانشيت , المقال الرئيسي و هو الخاص بالجو السياسي الطقس كلمة العدد مقال في السياسة الدولية مقال في السياسة الداخلية يوميات رئيس التحرير , والإخوانيات و هذا الباب خاص بالكشف عن أسرار رجال السياسة , ريبورتاج , صورة العدد , الإعلانات ... الخ .
- هل هناك صحف مشابهة ؟
- نعم هناك الكنار في باريس و التمساح في موسكو و الفرق بين الكلب وزميليه الكنار والتمساح أن الكلب توزع سراً أحياناً مخطوطة و أحياناً مطبوعة على الألة الطابعة أما الكار والتمساح فيوزعان على ملايين القراء بشكل رسمي ولا تنسى أن لغة الكلب هي الشعر .
- ما هي أمنيتك ؟
- سألته عن أمنيته بعد أن وصل معظم أصدقائه من قراء الجريدة إلى الحكم فأجاب : أمنيتي أن تكبر عقلك و تذهب معي الآن إلى الدكتور سامي الجندي ( وزير الاعلام في تلك الفترة ) القارئ المدمن للجريدة و تقنعه بأن يسمح لنا بإصدارها رسمياً و لا أعتقد أن الدكتور الجندي سيرفض طلبنا و عندئذ تستطيع الكلب أن تلحق بالكنار و التمساح .
__________________