يزعم ميشال عفلق: ان هناك " مفهوماً أوروبياً للقومية "، ولكن حركة البعث العربي توصلت إلى مفهوم جديد عن القومية، يختلف عن المفهوم الأوروبي اختلافاً كبيراً .
والدكتور سعدون حمادي الذي كتب مقدمة لكتاب " في سبيل البعث " تلخيصاً وتقويماً لآراء ميشال عفلق، قال فيما قاله، ما يلي :
ان مفهوم القومية الموضح في هذا الكتاب.. هو نقيض المفهوم القومي الاوروبي الذي يعتمد على المنطق المجرد والذي يعتبر ان تطور القوميات يجري حسب قواعد مشتركة ثابتة، تصح على جميع الأمم، والذي يمثله الآن إلى حد ما الأستاذ ساطع الحصري... وبذلك جاء هذا المفهوم للقومية العربية جديداً تماماً ، وهو مفهوم منبثق من التجربة العربية، ويرفض استخدام تجربة القوميات الاخرى لاكثر من الاطلاع والاستنارة واغناء الثقافة (ص 7).
إن هذه الكلمة تعزو إليّ رأياً لم أقل به أبداً، كما انها تنم عن فهم خاطىء تماماً عن حقيقة الحركات القومية التي قامت في أوروبا أيضاً .
إني كنت رددت على هذه المزاعم- التي كانت خدعت بعض الشبان- في كتابي " حول القومية العربية ".
وسأنقل فيما يلي أهم نقاط الرد المذكور:
أولاً : أنا لا أعرف أن هناك قومية تعتمد على المنطق المجرد، لا في أوروبا، ولا في غير أوروبا.
ثانياً : أنا- شخصياً- لم أعتمد على " المنطق المجرد "، لا في أبحاثي القومية ولا في أبحاثي الأخرى.
ثالثاً : أنا لا أسلم بوجود " قوميات أوروبية " تتساوى في امرها جميع الشعوب التي تقطن قارة أوروبا: وتختلف بها عن جميع الشعوب التي تقطن خارج القارة المذكورة.
بل اعتقدت- ولا أزال أعتقد- بأن تطور القوميات جرى على انماط متنوعة، حتى في القارة الأوروبية نفسها.
إن محاضراتي في " نشوء الفكرة القومية " توضح ذلك تمام الايضاح:
إن المحاضرات المذكورة كانت القيت في " قاعة الجمعية الجغرافية بالقاهرة بدعوة من كلية الآداب " في أوائل سنة 1948.
وقد قلت في المحاضرة الأولى التي كانت القيت بتاريخ (17/ 1/ 1948) كما هومصرح في كتابي المطبوع :
" ومما تجب ملاحظته في هذا الصدد ان نشوء فكرة حقوق القوميات لم يجر في كل البلاد على وتيرة واحدة، بل انه جرى في مختلف البلاد على انماط متنوعة، تختلف باختلاف الأحوال السياسية والاطوار الاجتماعية والعوامل التاريخية التي كانت قائمة فيها".
" وعندما نستعرض تاريخ الحركات القومية في مختلف البلاد الاوروبية، نجد أنفسنا أمام نماذج عديدة، يختلف بعضها عن بعض بمعالم واضحة.
وأنا أرى من المفيد أن أشير هنا إلى أبرز هذه النماذج، لاعطاء فكرة عامة عن سير الحركات القومية، بمختلف مظاهرها ".
وبعد استعراض هذه النماذج استعراضاً عاماً ، شرحت- في المحاضرات التالية- تاريخ نشوء الفكرة القومية في كل من المانيا، وبلغاريا، ويوغوسلافيا، واليونان، ورومانيا، والبانيا، وبين الاتراك العثمانيين، وفي الأخير، تكلمت عن نشوء الفكرة القومية في البلاد العربية.
إن التفاصيل المسرودة في تلك المحاضرات تدل دلالة قاطعة على انها لم تعتمد على المنطق المجرد، كما انها لم تترك مجالاً للزعم بأن تطور القوميات يجري على نمط واحد، في جميع البلاد.
إن مقارنة بسيطة بين ما جاء فيها عن نشوء الفكرة القومية في كل من ألمانيا وبلغاريا- مثلأ- تظهر إلى العيان الفروق العظيمة التي اتصف بها تطور الأمور في الأمتين المذكورتين.
واما مراجعة ما جاء فيها عن نشوء الفكرة عند الاتراك العثمانيين من ناحية، وفي البلاد العربية من ناحية أخرى، فانها تظهر فروقاً أعظم من ذلك أيضاً .
هذا، ومن جهة الحركات القومية نفسها.
واما النظريات التي ظهرت بمناسبة هذه الحركات، فهي أيضاً كانت متنوعة ومتعـاكسة.
فإن الثلث الأخير من القرن التاسع عشر شهد التنازع الحاد والتصادم العنيف الذي قام بين نظرية الافرنسيين وبين نظرية الالمان. وقد انضمت إلى هاتين النظريتين المتعاكستين- خلال العقد الثاني من القرن الحالي- نظرية جديدة، تختلف عنهما اختلافاً بيناً هي : النظرية الروسية.
فضلأ عن ذلك، فإن القرن الحالي شاهد تطوراً غريباً في معنى كلمة " ناسيوناليزم " باعدها عن مدلولات القومية بعداً كبيراً .
إني كنت شرحت كل واحدة من النظريات الألمانية والفرنسية والروسية بتفاصيل وافية، وناقشتها مناقشة علمية- على ضوء الوقائع التاريخية والأبحاث الاجتماعية- في كتابي " ما هي القومية " كما اني استعرضت تطور معنى كلمة " ناسيوناليزم " خلال القرن الحالي في أحد فصول كتابي " حول القومية العربية " [ المصدر نفسه ، ص 31-43 ] .
ولذلك كله، أقول: ان ما جاء في الكلمة البعثية التي نقلتها في مستهل حديثي هذا، يدل دلالة صريحة على أن ميشال عفلق- ومريديه- لم يكلفوا انفسهم عناء درس هذه الأمور دراسة جدية، بل أصدروا أحكامهم الاعتباطية، بعد نظرات خاطفة وسطحية.
واما تعبير " المفهوم الأوروبي " الوارد في الكلمة المذكورة، فانه يذكرني بكلمة " الافرنج " التي كان قد اعتاد الناس- حتى وقت قريب- أن ينعتوا بها الأوروبيين دون أن يميزوا بين البريطاني وبين اليوناني- مثلاً- أو بين الروسي والافرنسي، أو بين السويدي وبين الاسباني.
وأعتقد أن تعبير " المفهوم القومي الأوروبي " الوارد في نظريات ميشال عفلق ليس أقل خطأ وسطحية، عن تعبير" الافرنج " الذي كان شائعاًَ بين الناس.
يلوح لي ان آراء ميشال عفلق في قضايا القوميات في أوروبا لم تخرج عن نطاق النظريات السطحية حول وحدة إيطاليا والمانيا لأنه يقول ان القوميات الأوروبية- عندما تحررت- اندفعت إلى الاستعمار، وإلى استعباد الشعوب المستضعفة.
ولكن، قليلاً من البحث العلمي في هذه الأمور، يكفي لاظهارما في هذا الرأي من خطأ فاحش:
أولاً: ان أوروبا شاهدت العديد من الحركات القومية التي لم تقترن، لا بالاستعلاء ولا بالاستعمار.
فإن الايرلنديين- مثلاً- تحرروا من الحكم البريطاني، وثبتوا أركان قوميتهم ، بعد نضال عنيف وتضحيات هائلة، ومع ذلك لم يجنحوا لا إلى التوسع ولا إلى الاستعما ر.
ونستطيع أن نقول الشيء نفسه عن الفنلنديين وعن الألبان.
وقد أحصيت نحو عشر من الحركات القومية في أوروبا لم تقترن لا بالاستعلاء ولا بالاستعمار.
ثانياً : حتى أحداث ألمانيا وايطاليا، لا تخود الباحث المنصف، حق ربط الحركات القومية بالاستعمار.
لأن من الحقائق التي لا يمكن ولا يجوز تجاهلها: ان استعمار الاوروبيين لمختلف قارات العالم واستعبادهم لشعوبها المستضعفة كان قد بدأ واستشرى قبل القرن التاسع عشر وقبل وحدة إيطاليا والمانيا.
ان استعمار الهولنديين والبرتغاليين لسواحل المحيط الهندي وللجزر الاندونيسية- مثلاً- كان قد تم في أزمنة لا تسمح بربطها بالحركات القومية وبأحدإث تحرر الشعوب، بوجه من الوجوه.
صحيح ان الايطاليين أقدموا على الاستعمار بعد حركاتهم التحررية والتوحدية القومية. ولكن كان ذلك بعد مرور ثلاثة عقود من السنين على نجاح الحركات بتحقيق وحدة البلاد الايطالية. فضلاً عن أن ذلك قد حدث بعد ما كوّنت بريطانيا العظمى امبراطوريتها المشهورة " التي لا تغيب عنها الشمس "... وبعدما مدّت فرنسا مخالب استعمارها على بلاد كثيرة في القارات الامريكية والافريقية والآسيوية، ولا سيما بعد أن رسخت سيطرتها على الجزائر التي تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط ووسعت نطاق احتلالها هناك حتى تونس التي تقع بالقرب من جزيرة صقلية الايطالية.
إننا نستطيع أن نقول نفس الشيء، بالنسبة إلى ألمانيا أيضاً. فلا يجوز أن نربط حركات الاستعمار والاستعباد بالحركات القومية التي قامت في أوروبا في القرن التاسع عشر.
وأعتقد أن السبب الاصلي للغلط الذي انزلق إليه- ولا يزال ينزلق إليه- غير واحد من مؤلفينا في هذا المضمار، هو: أحد الأمرين التاليين، أو كلاهما معاً :
(أ) انهم تأثروا كثيراً بما كتبه الكثيرون من الفرنسيين والبريطانيين ضد الحركات القومية بوجه عام، بسبب الخسائر الفادحة التي الحقتها بمصالح بلادهم ومطامعها الجشعة.
(ب) انهم لم ينتبهوا إلى التطور الذي حدث في معنى كلمة " ناسيوناليزم " في أوروبا، وخلطوا بين مبدأ القوميات، وبين خطط وأعمال الأحزاب والمنظمات اليمينية المتطرفة التي سمت نفسها باسم " ناسيوناليست ".
وأعتقد أن ما كتبته في كتاب " حول القومية العربية" عن معنى كلمة " ناسيوناليزم " يغنيني عن كل شرح وإيضاح في هذا المقام (ص 31- 43).
واؤكد: ان دراسة الوقائع دراسة علمية صافية، لا تترك أي مجال لربط حركات الاستعمار والاستعباد بحركات تحرر القوميات الاوروبية، وتبرهن على خطأ الآراء التي يبديها ميشال عفلق ومريدوه في هذا المضمار.
ساطع الحصري