لم يكن ثمة شيء يوحي بأن يومنا هذا سيكون مميزا وحافلا بذاك القدر,فالجو حاراسديميا تحت تأثير رياح خماسينية ,ودرجات الحرارة ارتفعت في هذا اليوم بشكل مفاجىء.
تداعينا إلى ذلك المشوار تميم وعماد اسماعيل وشربل ,نحّالة يذهبون كل اسبوعين نحو الغاب للكشف على خلايا النحل التي تجد في أزهار الحبة السوداء (حبة البركة) الآن مرعى جيدا لها, وعماد ونوس هاوي الأسفار والتصوير الضوئي.
قلنا مشوار جيد لعله يخرجنا من زحمة العمل وتفاصيل الحياة اليومية التي تكاد تطوي كل اهتمامات أخرى.
انطلقنا في الصباح الباكر بعد (ترويقة) خفيفة,مخترقين الجبال صعودا باتجاه الشعرا, كان أوتوستراد جبلة-الغاب مزهوا –كعادته-بغاباته الجميلة وأزهاره النادرة على الجنبين وعلى امتداد النظر .
بضعة مقاصف ومطاعم امتدت على جنبيه ,وثمة مطعم حديث يشاد حاليا , حتى وصلنا لقمة جبل الشعرا وانحدرنا نزولا –حماة ترحب بكم- هاهي (بتميزي) القرية التي قيل بأن الأوتوستراد قد اكتشفها عند شقه ,وهذة القصة صححها تميم وقال بأنهم في القرية كانوا يعتبرون بتميزي محطة وسطى بين القرية وسهل الغاب كان أهل القرية يستريحون فيها بحملهم المكون من التبغ قبل الوصول إلى سهل الغاب لتسويقه.
انكشف سهل الغاب لنا بألوانه الفسيفسائية إلا أن الجو السديمي منع عنا رؤية المدى,التصوير لن يكون ممكنا إلا على المسافات القريبة –علّق عماد-.
انطلقنا وسط الخضرة والحقول المتنوعة ,هاهي ماكانت يوما ما اهراءات روما ,ألم يقل أحد الرومان :إن نهر العاصي يصب في التيبر.
بدأ الشباب بعد أنواع المزروعات ..هاهنا حقلة ميلانة ,وقطن ,وحبة سوداء,وقمح ...
كانت رذاذات المياه تضفي على تلك الحقول جمالا آخر .
هاهو قلب سوريا ينبض خيرا وعطاء..
إنها سوريا الحقيقية كما أسماها أحد المؤرخين,وإذا أردنا اختصار سوريا المنتجةفعلا ..فالجزيرة والغاب والساحل.
فلماذا تعاني هذة الأقانيم الثلاثة من الفقر ومن الاستغلال ومن نقص الخدمات ,واماذا لا ينعكس هذا العطاء والإنتاج خيرا على أوضاع هذة المناطق ؟
سؤال لا بد من طرحه بإلحاح ودائما ..
لن نستغرب كيف أولت كل الحضارات المتعاقبة على هذة الأرض الأهمية القصوى لهذة المناطق ,حيث تجد أنى تجولت في ربوعها آلاف الآثار تقف شاهدة على التقدم العمراني والتنظيم .
يلفت النظر في هذا السهل العظيم , عدم تشويه الحقول بأماكن السكن العشوائية والمشاريع الصناعية ,والتي انتشرت في الساحل كالفطريات ملتهمة الأرضي الخصبة ,في أضخم تشويه لبنية الساحل .
حيث تم اختيار المصانع والمنشآت المختلفة في قلب هذا السهل وتم قصه في المنتصف تماما بالأوتوستراد وسكة الحديد وأبراج التوتر العالي .
إضافة للسماح بالسكن العشوائي الذي أوجد مئات المنازل المتناثرة والمختلفة الأحجام فيه ,والتي أضحت بدورها تحتاج للتخديم بالكهرباء والمياه والطرق والصرف الصحي ,وما يجر ذلك من تشويه إضافي للحقول الخصبة .
ويلفتك أيضا منظر القرى القليلة التي تمر بها في الغاب ,حيث الفوضى في العمران وسوء الخدمات .
فالحفريات في الطريق الواصل باتجاه أوتوستراد حماه-حلب تكاد هي والمطبات الكثيرة تميزه ,إضافة لتفرعه في أماكن كثيرة بحيث يكاد يتوه المرء في متاهته.
إلى أين الطريق الآن يا تميم ؟
إلى معصران حيث خلايا النحل بالإنتظار ..
استقبلنا هناك الفلاحون حيث تم وضع الخلايا في حقولهم ,استقبلونا بكأس شاي كنا بأمس الحاجة إليه .
وبينما تجهز الشباب لبدء العمل مع الخلايا ,أخبرونا عندما علموا بأننا نقصد إيبلا عن وجود آثار بالقرب من المنطقة التي كنا بها تدعى جرادة وأيضا رويحة.
قلنا لهم :إلى جرادة أولا..
ومن هناك بدأت قصة أخرى..
"لقد ماتت الكتب ,ومات الفلاسفة أيضا :إذ قطع رأس مكسيم الأفسوسي وأحرق البعض أحياء ,مثل سيمونيدس فهل كان من شهداء الوثنية؟ بالتأكيد لا .شهيد الفلسفة إذن ؟ربما ,لكنه خصوصا شهيد الطاغية ,ومثل على الحرية وثبات العقيدة ركني الحكمة الحقيقية".
بيير شوفان ينقل عن أميان الأنطاكي وصفه لاضطهاد الفكر السوري وعقيدة الخصب من قبل البيزنطيين.
...تجهز الشباب ولبسوا البدلات الواقية من لسعات النحل ,بينما انطلقت وعماد وبمرافقة أحد الفلاحين الذي سيصحبناإلى منطقة الآثار التي وصفت لنا.باتجاه أوتوستراد حلب –حماه غربا .
استقبلتنا منطقة جرداء لا يكاد يميزها شيء سوى الصخور الناتئة والبارزة ,أول ما تبادر لذهني هو أن هؤلاء قد بالغوا في وصفهم لتلك الآثار ..فأي مجنون سيفكر في إقامة مدينة على هذة المنطقة التي تكاد تخلو من المياه ومن التراب اللازم للزراعة .
ولكن عندما لاحت أطلال جرادة انزاحت هذة التصورات.
مدينة كاملة لاتزال محتفظة بأبرز معالمها ,حتى بعد التهدم والهجر والإهمال ..وتنتمي زمنيا للقرون الميلادية الأولى .
آكو ...كوهني ,هكذا كانت الكلمات تنطلق من فم الصغير الذي وجدناه بين الأطلال وهو يأخذنا في أنحاء جرادة ويدلنا على ما خفي عن أعيننا ,كأفضل دليل سياحي , فتارة ينزلق داخل أحد الأبواب ويرينا التفاصيل وتارة يأخذنا إلى الأطراف حيث المغارات التي كانت تشكل بوابات الدخول , ومن ثم ينزل حجرا في بئر الماء الأثري ليثبت لنا أن المياه موجودة في الأسفل.
ألا يأتي أجانب إلى هنا يا حسن ؟ سألناه: نعم ..الأسبوع الماضي أتى باص كبير وكلهم سياح..ومنذ سنة تم تصوير مسلسل هنا في هذة المنطقة.
كان الصغير يحاول أن يرينا أكثر ..تعبنا ولم يتعب ..وعرقنا ولم يعرق,وكانت الشمس قد انتصفت تماما في كبد السماء.
لقد ارتكبت وزارات الثقافة المتعاقبة الخطأ الجسيم نفسه الذي ارتكبه العرب في تلك العصور الغابرة.
لقد وضعت نتاج الإنسان السوري تحت مسميات ويافطات ,بحيث تمت نسبة هذة الحضارة للغير ..
فهنا آثارا بيزنطية وهناك رومانية وهلنستينية ثم مملوكية ...وتم تغييب العنصر والعامل السوري.
لقد اعتبر العرب التراث ماقبل الإسلام تراثا وثنيا فحاربوه ,وكذلك فعل الرومان أيام بيزنطة ,إذ قامت أكبر حملة تطهير وتشويه لهذا التاريخ ,بحجة تثبيت دعائم الدين الجديد (المسيحي) .إذ عمد قسطنطين إلى تبني ماورد في مجمع نيقيا 325 ميلادي ,وتم البدء بحملة التطهير تلك وتم إحراق الكتب وتدمير المعابد ..معابد عشتار وبعل وبناء الكنائس على أنقاضها ,وطال الإضطهاد أولئك المسيحيين الذين خالفوا مقررات مجمع نيقيا(حول طبيعة السيد المسيح )والذين كانوا يشكلون أغلبية المسيحيين في سوريا آنذاك.
ففي أنطاكيا : ذكر المفكر السوري الكبير أميان مارسلان أن المدينة (أنطاكيا) قد تحولت إلى مسلخ كبير .
وفي عام 397 م صدر مرسوما لاستخدام أحجار المعابد المهدمة في الإنشاءات العامة :الطرق والجسور والأسوار.وتم قمع ثورة في جنوب سوريا واستمرت مثل هذة الأعمال حتى سنة 600 ميلادية تقريبا .
فقد تم مثلا عام 580 م أيام الامبراطور تيبريوس أن أخذ حاكمه على بعلبك من الأهالي عددا غفيرا منهم ..وصلبهم .
وتم تدمير معبد اسكلبيوس في مدينة أنجي قرب انطاكيا , وتدمير معبد عشتار في منبج والذي وصف بانه لا مثيل له.وأشار ليبانوس إلى تماثيل حديدية مخفية عن ضوء الشمس فيه. وهو ما يطابق ماورد في كتاب لوقيانوس (الربة السورية 37) حيث يتحدث عن الإرتفاع المعجز لتمثال النبي البابلي (نبو) في حيرا بوليس (منبج).
وفي بيزنطة أصبح معبد عشتار –أفروديت مرآبا لعربات قائد الحرس الإمبراطوري.
وفي أفاميا قدم الحاكم العسكري دعما عسكريا لمطران أفاميا مارسيلوس من أجل هدم معبد حدد- زيوس الكبير . وكانت أفاميا قد استمرت بالمقاومة وفي الحفاظ على عقيدة الخصب السورية .
وتم تدمير معبد أدونيس في أفقا (لبنان ).
أما في غزة والتي كانت إحدى المدن المهمة والكبيرة بين مدن سوريا ,فينقل لنا فودين ومارك أحوالها في ذاك الزمان :كانت معابدها قد استمرت على نشاطها المألوف ,وكان لها ميناء يسمى (موما) ..وكان السوريون قد كرسوا له عيدا يحتفلون به سنويا دعوه (عيد موما) أي عيد الموانىء .
ولم يستطع بورفير أول تسلمه لمنصبه الكنسي في غزة تجميع إلا مائتين وثمانين مؤمنا ..وحصل بورفير على الأمر بإغلاق معابد غزة .إلا أن معبد زيوس-مارناس أو مارينون استمر يمارس نشاطه سرا.
فحاول هذا أن يأخذ أمرا من الإمبراطور أركاديوس بتدمير معبد مارينون .إلا أن هذا أحجم عن ذلك في رسالة بعث بها إلى مطران غزة عام 401 م يقول فيها: أعلم أن المدينة مليئة بالأصنام لكنها تسدد ضرائبها وتساهم في خزينة الدولة .ولكن استغل بورفير وضع الإمبراطورة ولدا ذكرا كان قد تنبأ لها مسبقا بذلك ,وحصل على الأمر أخيرا ..وتم تدمير ثمانية معابد وسلب محتوياتها.وهي معبد الشمس وعشتار ومعبد سيدة التجار وربة الحظ ومعبد نبو ومعبد هيقاتي والمارينيون. وأقاموا محل الأخير الأجمل والأكبر كنيسة أسموها أدوكسيانا تيمنا بالإمبراطور.
ونورد ما ذكره إبن غزة المفكر البليغ بروكوبيوس عن الساعة الفلكية التي كانت تزين ساحة السوق في غزة ,وكان ذلك منسجما مع الذائقة الفنية السائدة آنذاك, حيث كانوا يعجبون بالتركيبات الآلية والتماثيل المتحركة .
ولم يكن الجانب الميكانيكي هو ما يثير اهتمام بروكوبيوس ,بل ما تتركه في النفس من أثر , وتلك الحيوية في الديكور الميثولوجي لذلك البناء الحافل : فهرقل(حفيد قدموس الفينيقي) يؤدي اثني عشر عملا على مدى اثنتي عشر ساعة ,والشمس تطوف بقرصها الدائري ,وهناك وجوه أقل شأنا كالرب بان وديوميد النافخ في البوق .
وكذلك عن الفسيفساء التي كانت تزين الساحات ومداخل البيوت ..كل ذلك دمر أو نهب.
لقد كان هذا الإرث الشاهد على أن العرب ليس كما أريد لهم أن يكونوا ..بدو دخلاء على الحضارة لا يعرفون سوى الغزو والقتل والترحال.
لقد دمروا هويتهم بأيديهم ...ولا زالوا...
وصلنا إلى رويحة والتي لا تبعد سوى 2 كم غرب جراده ..كان الإهمال هناك أكبر ..إلى الدرجة التي وجدت بضعة عائلات بدوية مستقرا لها ضمن الآثار والبيوت القديمة.بل وعدلت فيها لتلائم معيشتها..
نظر إلي عماد قائلا:أنكون هؤلاءالبدو...وهم من بنى هذة العمائر؟
لم أجب ..وقتها..
قد تجد في هذا الكلام الذي أوردته جوابا أيها العزيز ..
ولكن الذي سيجيب حقا , هو هذة الأرض نفسها..
وذلك بعد حين..
يتبع..