[b][size=medium][color=CC0000][font=Impact]رحيل الشاعر والأديب والكاتب الصحفي والباحث وليد قنباز عن عمر يناهز الواحد والسبعين عاما
د . محمود السيد الدغيم
باحث أكاديمي سوري جامعة لندن
كلية الدراسات الشرقية والإفريقية
SOAS
[/font][/color][/size][/b]
[b][size=medium][color=003300][font=Impact]لبست مدينة حماة السورية ثياب حدادها حُزناً على ابنها البارّ الشاعر والأديب والكاتب الصحفي والباحث وليد عبد اللطيف قنباز عن عمر يناهز الواحد والسبعين عاما، حيث كانت ولادته في مدينة حماة السورية سنة 1353 هـ/ 1934م، وكان الرحيل يوم الخميس العاشر من آذار/ مارس لسنة 2005م، وذلك بعد صراع طويل مع مرض عضال، وقد أحاطه الحمويون بالرعاية أثناء المرض، وراقبوا تدهور صحته، وارتقبوا الحدث الجلل، فَتَرَجُّلُ الفُرسان لا يشبه إلا نفسه.
كان أستاذنا وليد يرحمه الله فارِس الكلمة الحموية نثراً وشعراً، وهو من أبرز الشخصيات الثقافية والفكرية والأدبية المعاصرة في سورية بشكل عام رغم ابتعاده عن الأضواء الإعلامية، وهو فارسُ مدينة حماة الحزينة بشكل خاص، ولا سيما أنه قد خصَّ حماة بالكثير من بحوثه، وتغني بأفراحها وأتراحها في قصائده، وأرّخ لها في دراساته الكثيرة، وكان رئيس أمناء جمعية دار العلم والتربية العريقة في مدينة حماة، وقد عمل في تدريس اللغة العربية وآدابها في سورية والجزائر، وعمل مفتشاً في الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش في حماة ورئيساً لها، وألقى محاضرات أدبية وتاريخية وأثرية وفنية، وشارك في أمسيات شعرية في عدد كبير من المراكز الثقافية والنوادي الأدبية في سورية والجزائر والسعودية وغيرها، وساهم في برامج التلفاز السوري، وإذاعة دمشق، والعديد من القنوات الفضائية العربية والغربية.
ذكريات الماضي
صارت ثانوية أبي العلاء المعري منفىً للمدرسين بعد قيام انقلاب الثامن من آذار سنة 1963م، وفي سنة 1964م، التحق بثانوية أبي العلاء الراحل الكبير وليد قنباز قبل أربعين سنة من الآن، وراح يُدرِّسنا اللغة العربية وآدابها، وقدّم الأمسيات الأدبية في مركز أبي العلاء المعري حينذاك، وكان المركز بإدارة الشاعر الأديب عبد العزيز دقماق منارة ثقافيةً رغم الاضطراب السياسي، واستضاف المركز الشعراء والباحثين في حين لم تكن المراكز الثقافية قد سُيّست في ذلك الوقت، وكانت أمسياتنا المفضلة حينما يكون المحاضرُ في المركز الثقافي بالمعرة أستاذنا وليد قنباز يرحمه الله.
وكانت سياسة المدرسين التربوية الثورية حينذاك تعتمد العصا وخراطيم المياه، وغير ذلك من وسائل المدرسين البوليسية التي راجت في ظل القمع السياسي، ولكن الأستاذ وليد قنباز لم يستخدم تلك الوسائل، ولم يضرب أحداً من تلاميذه، وبأسلوبه الراقي رفع مستوى اللغة العربية وآدابها، ولم يتوقف عند حدود مقررات المنهاج المدرسي، بل تجاوزها، وأضاف إليها مختاراته الرائعة التي ما زلنا نحفظ منها الكثير.
تراث وليد قنباز
لقد اهتمّ الراحل وليد قنباز بأدب الطبيب الشاعر الحموي الراحل وجيه البارودي، واعتبره الكُتّاب والباحثون راوية البارودي وناشر شعره وأدبه، وقد أعدّ مقدمة طويلة وبليغة لديوان: سيد العشاق، شعر وجيه البارودي ، ومما أملاه علينا في المدرسة من أبيات البارودي التي مازلت أذكر منها قوله:
أنا لا أعبُّ الماءَ إلاّ من إناءٍ ممتلِ
من قمّة الينبوع لا من ذيله المتهدلِ
ومن السحاب الْحُرِّ لا مِمّا جرى في الجدول
أنا قد عزفتُ عن الجميل تعلُّقاً بالأجملِ
امتاز أستاذنا يرحمه الله بجمال إلقائه للشعر والنثر، فكان يسحر الطلاب ببيانه، ويحببهم باللغة العربية وآدابها، وكان يحفظ الكثير من النصوص الأدبية شعرا وثرا، ولكنه لم يكن راوية شعر ونثر فحسب، بل كان شاعراً فطحلاً، وعضواً في جمعية الشعر في اتحاد الكتاب العرب، وقد نُشر ديوان شعره الأول سنة 1994م بعنوان: من القلب، وقدم له عبد الرزاق الأصفر، وديوانه الثاني بعنوان: الحبيبة والعشيقة، وله ديوان ثالث بعنوان: ألوان، وديوان رابع بعنوان: سعوديات، وصدرت له خمس دراسات في الأدب، وكتاب في التراجم بعنوان: رجال من بلدي، وكتاب بعنوان: محمد العيد، أمير شعراء الجزائر، حياته وشعره، وله دراسة أدبية نقدية عنوانها: الدكتور وجيه البارودي كما عرفته.
ولم يقتصر نشاط أستاذنا على الشعر والنثر والفنون الأدبية بل ساهم في العديد من النشاطات والمحاضرات الثقافية داخل سوريا وخارجها، والدراسات التاريخية والأثرية والسياحية، وتجلت في البحوث المصوّرة التي نشرتها مجلة الفيصل السعودية في القرن الماضي عن تراجم المدن التاريخية، وفي مقدمتها بحوثه عن مدينة حماة، ومعرة النعمان، وقلعة المضيق (آفاميا عبر التاريخ)، وإنطاكية، وشيزر عبر التاريخ ، وجزيرة أرواد السورية، ونشر الكثير من إنتاجه في جريدة الفداء، ومجلة التراث العربي بدمشق، والصحف والمجلات السورية والعربية .
وكان الأستاذ شاعراً مُقلاً في نظم الشعر، وقد علل ذلك بقوله: الشعر لا يولد في الوقت الذي أريد، إنه لحظات انفعال ليس لها موعد، ولا حيلة لنا في إقبالها أو إدبارها، ربما تأتي في كلِّ العام مرّة، وربما تأتي في اليوم الواحد مرتين أو ثلاث مرات، وأنا لا أريد أن أكون ناظماً، أضع القلم والورقة أمامي، ثم أرصف كلمات موزونة مقفّاة أسميّها شعراً، وهي في الواقع أبعد ما تكون عن الشعر، في حياتي كلها لم أكتب إلاّ القليل من الشعر، ولكنه في رأيي هو شعر حقيقي، هو انفعال لا افتعال، هو قرض لا نظم، هو ولادة طبيعية لا قيصرية .
لقد رحل وليد قنباز المربي والشاعر والناقد والعلامة والأديب والباحث النادر الوجود في سوريا، ومع رحيله خسرت الساحات الأدبية والثقافية علماً من الأعلام المميزين، وترك بصماته الواضحة التي تشكل منارات لمن يريد أن يتابع طريق الشعر والأدب والبحوث الأكاديمية، فالأستاذ مبدع في الشعر والنثر والتأريخ والخطابة، وهو يمثل الجانب المنير للمشهد الثقافي الذي يغري العامة والخاصة بالمتابعة جراء الإعجاب بما وهبه الله له في عصر ندرة المواهب.
.[/font][/color][/size][/b]
[u][b][size=large][color=CC3300][font=Impact]مقتطفات من كتابات وليد قنباز[/font][/color][/size][/b][/u]
[b][size=medium][color=003300][font=Impact]
عندما رحل شاعر الشام الكبير نزار قباني رثاه الأستاذ وليد قنباز بقصيدة بعنوان: رسالة وداعية إلى الشاعر الكبير نزار قباني، ومما قاله فيها:
رَحَلَتْ بِمَوْتِكَ يا نِزارْ
أَشْهى الأَغاني وَالجِرارْ
وَالعِطْرُ جَفَّ، فَلَيْسَ في
نَيْسانَ زَهْرَةُ جُلَّنارْ
ذَهَبَ الّذي جَعَلَ القَصيدَةَ
أَنْجُماً وحُقولَ غارْ
الشّاعِرُ العَبِقُ الحُروفِ
مَضى وَغَابَ عَنِ الدِّيارْ
ماتَتْ عَصافيرُ الحُقولِ..
ومَاتَ فيها الاِخْضِرارْ
وَالرُّوْضُ أَقْفَرَ، ما زَها
وَعَراهُ في الصُّبْحِ اصْفِرارْ
ما عادَ لِلوَرْدِ
ابتِسامَتُهُ، ولاَ لَبِسَ السِّوارْ
مَنْ سوْفَ يَحْمي بَعْدَكَ
الشِّعْرَ الجَميلَ مِنَ الدَّمارْ
مَنْ سَوفَ يَكْتُبُ أَجْمَلَ
الأَشْعارِ في صَحْوِ النّهارْ
مَنْ سَوفَ يَنْهى عاشِقَيْنِ
عَنِ الخُصومةِ والشِّجارْ
مَنْ سوفَ يَقْبَلُ في المَسَاءِ
مِنَ الجَميلاتِ اعْتِذارْ
مَنْ سوْفَ يَصْطادُ
الَّلآلئَ خَلْفَ أَمْواجِ البِحارْ
مَنْ سَوْفَ يَرْمي الورْدَةَ
البيْضاءَ في عِيدِ الصِّغارْ
مَنْ سَوْفَ يَدْفَعُ عَنْ
نِساءِ الشَّرْقِ غَائِلَةَ العِثارْ
مَنْ سَوْفَ يُنْبِتُ نَجْمَةً
وَحَمامَةً في كُلِّ دَارْ
مَنْ سوْفَ يَصْرَخُ غاضِباً
وَحُروفُهُ كَلَهيبِ نارْ
*
يا شاعِرَ الشّامِ المُقاتِلَ
كُلَّما حَرْبٌ تُدارْ
خَلَّدْتَ مَجْدَ الشّامِ حِيْنَ
عَرينُها هَزَمَ التَّتارْ
يا واهِبَ الشُّعراءِ مَجْدَ
الشِّعْرِ في زَمَنِ البَوارْ
يا مَنْ لَهُ لُغَةٌ
كَأَنَّ حُروفَها ذَوْبُ النُّضارْ
في الشِّعْرِ، أَوْ في النَّثْرِ
كُنْتَ مُحَلِّقاً رَحْبَ المَدارْ
وَعَطاؤُكَ العَذْبُ الأَصيلُ
كَأَنَّهُ رَجْعُ الكَنارْ
إنْ مَرَّ في دَرْبٍ
تَأَرَّجَ بِالبَنَفْسَجِ وَالبَهارْ
وَتَفَتَّحَ النَّوارُ في
زَهْوٍ يُدَلِّلُ حَيْثُ سارْ
*
أَنا منْ رَحيقِكَ يا نِزارُ
ما زِلْتُ أَشْعُرُ بِالخُمارْ
قالَتْ لِيَ السَّمْراءُ
أَوَّلُ ما تَفَتَّحَ مِنْ ثِمارْ
وَ النَّهْدُ في أَلَقِ
الطفولةِ قَدْ تَكَوَّرَ وَاسْتَدارْ
بَيْروتُ سَيِّدَةُ العَواصِمِ
وَالهَوى، رُغْمَ الدَّمارْ
أَمّا الهَوامِشُ فهي
صيْحاتُ التَّمَزُّقِ والأُوارْ
وَ الهَرْوَلاتُ ولَيْسَ
فيها أَيُّ ثأْرٍ وَانتِصارْ
*
زَعَموا بِأنَّكَ كَالحِجارَةِ،
لا تُحِسُّ، وَلا تَغارْ
وَبأنَّ صَوْتَكَ كاذِبٌ
وَبِأَنَّ ثَوْبَكَ مُسْتَعارْ
ورَماكَ بِالإِلْحادِ مَنْ
زَعَموا السَّماءَ لَهُمْ قَرارْ
بِالشِّعْرِ صَوَّرْتَ العَذارى
وَهْيَ كاشِفَةٌ عَوارْ
وَرَسَمْتَ أُنْثى الشَّرْقِ
تَلْظى بيْنَ كَبْتِ وَانْفِجارْ
صَوَّرْتَها جَسَداً
تَبَدّى دونَ روحٍ وَاعْتِبارْ
وَرَماكَ بِالفَوْقِيَّةِ
العَمْياءِ تُجّارُ اليَسارْ
قالوا: هَجَمْتَ عَلى
العُروبةِ واتَّهَمْتَ بِلا وَقارْ
ورَأَيْتَ كُلَ العُرْبِ
كَالأغنامِ تَسْرَحُ في القِفارْ
وَرَأيْتَ كُلَّ العُرْبِ مَوْتى،
أَوْ هُمُ رَهْنُ احْتِضارْ
لا فَرْقَ عِنْدَكَ بَيْنَ
مَنْ صانَ الحُدودَ أَوِ اسْتَجارْ
الكُلُّ عِنْدَكَ خائِنٌ
مُتَجَلْبِبٌ بِثِيابِ عارْ
*
ظَلَموكَ فيما يَزْعُمونَ
فَأَنْتَ في الشَّرْقِ الفَخارْ
لَمْ تَظْلمِ الأُنْثى، وَلَمْ
تَكْشِفْ عَنِ القِيمِ السِّتارْ
وَهَوى العُروبَةِ في
ضَميرِكَ مُسْتَقِّرٌ في القَرارْ
وأَرَدْتَ أن يَبْقى الكِبارُ
بِمُعْجَمِ الفُصْحى كِبارْ
حاوَلْتَ أَنْ تَمْحو بِشِعْرِكِ
ما عَراهُم مِنْ صَغارْ
وَالشّاعِرُ الغِرّيدُ لَيْسَ
لَهُ بِما يُعانيهِ خِيارْ
فَحَذارِ أَنْ تَشْكو جَهالَتَهُمْ
بِما زَعَموا... حَذارْ
*
ماذا سَأَحْكي يا نِزارْ
وَلَدَيَّ أَشْجانٌ كِثارْ
وَلَديَّ فَيْضُ مَشاعِرٍ
لا يَرْتَضي بِالاخْتِصارْ
لَكِنْ أَقولُ مُوَدِّعاً
بِهَوَىً تَوَقَّدَ وَافْتِخارْ
سَيَظلُّ شِعْرُكَ نَشْوَةَ
الخَمْرِ المُعَتَّقِ في الجِرارْ
وَيَظَلُّ شِعْرُكَ دُرَّةَ الغَوّاصِ
في قاعِ البِحارْ
وَتَظَلُّ صَوْتَ الحَقِّ في
زَمَنِ الهَزيمَةِ وَالحِصارْ
وكان الأستاذ وليد قنباز اجتماعيا يشارك الأصدقاء أفراحهم وأتراحهم، ويساهم في المطارحات والمعارضات الشعرية الإخوانية، وذات يوم أرسل غياث عياش قصيدة إلى أخيه غازي عيا ش في حماه مُستخفّا بمجلس فرقة ((منتدى الإثنين)) الموسيقية الحموية العامرة بالفن والأدب والشعر والأنس، ومما جاء فيها:
يا ساطعَ الخُلقِ كالأنوارِ كالذَهَبِ
شوقي إليك يُضاهي حُرقة اللهبِ
قد كنـتَ بالأمسِ مفتوناً بطاولةٍ
علماً بأنك تشكو قلة اللعبِ
فالشيشُ و البيشُ والتحريكُ
معرفةٌ لا تحتويها كنوزُ العلمِ والكتبِ
مهما جهدتَ فلن تخطو بها قَدَماً
دعْ عنك خبرتها واجْنح إلى الطربِ
أخذت مجدك في بُعدي وفي سَفري
في غيبةِ الصقرِ يزهو ناعم الزَغـبِ
فعارضه الأستاذ وليد قنباز بقصيدة جاء فيها:
أخي غياثُ حسبي اليومَ مُغتربي
أعدتَ لي هاجساً كالنارِ تعصفُ بِيْ
أعدتَ لي ماضياً ما كان أعذبـهُ
أنا وأنت وبوحُ المعطياتِ صبي
أيامَ كنا نرودُ العيشَ في وَلَـهٍ
وننتضي سبباً يُدني إلى سَببِ
نَحبو وندرجُ والآمالُ تَجمعنا
فننثني والهوى يختالُ في العَسبِ
كمْ ذا بنيتَ من الأحلامِ صرحَ مُنىً
وكمْ بنيتُ أنا قصراً على السُّحبِ
وفرَّق الدهرُ قلبينا ومزَّقنا
قلبٌ يعاني و قلبٌ في لظى النصَبِ
ففي الجزائر قلبٌ جـدَّ مُلتهـب
وفي حماة فؤادٌ ألفَ مُلتهبِ
ومن أحبَّ أخاهُ حبَّ ذي دَنَفٍ
فإنه في كتابِ الكائناتِ نبي
وذا كتابك يزجي الشوق يهتفُ بي
ياساطعَ الخلقِ كالانوارِ كالذهبِ
اللهَ ، ما اعذبَ الحرفَ الذي صدحتْ
بهِ اللحونُ وكأسٌ حفَّ بالْحَبَبِ
لكنه قد أتى إثْماً وفاحشةً
بأنني لاعبٌ بالأمسياتِ غبي
وأنني الأمس مفتونٌ بطاولةٍ
وأنني الحقَ أشكو قِلةَ اللعبِ
وقال لي الحدفُ، والتحريكُ معرفـةً
لا تحتويها كنوزُ العلمِ و الأدبِ
وأنني الغِرُّ لم أضلعْ بها قَدَمـاً
وينبغي هجرها و الميلُ للطربِ
وقال: خُذْ لمحةً من زوج دُرتِنا
حتى أجاري زعيمَ النردِ والأدبِ
فاقْبل حنيني و شوقي يا أخا عُمري
وكنْ هنيئاً فهذا منتهى أربي
فأنتَ في خاطري طيفٌ رنا فمتى
متى أراكَ بعيني بعد مُغتربِ
ومن قصائد وليد قنباز قصيدة ألقاها في مدينة الرياض سنة 2000م بمناسبة اختيارها عاصمة للثقافة، ومما قاله:
أنا بين مكة والعقيق ويثرب
في ظل عاصمة الشموخ اليعربي
أنا في حمى التاريخ أشهد عالما
أغفى الزمان على شذاه الطيب
أنا في الرياض وراء كل ثنية
رايات اجدادي وخيل بني ابي
واختتم القاءه بقصيدة كذا الدنيا التي يقول فيها:
جربت الحلوة والمره
وحييت شقاء ومسره
فالعالم حزن وهموم
والحسرة من بعد الحسره
وأناس كنت أخاً لهم
ما كانوا جنبك في العُسره
كم يُخدع إنسان فطن
بثغور الناس المفترّه
من يلقى الناس ليرشدَهم
كالقابض في كفٍ جمره
فالجيل الصاعد وا أسفي
لا يعرف للماضي قدره
ومن قصائد أستاذنا وليد قنباز قصيدة بعنوان: ما زلت حياتي، يقول فيها:
أنْتِ أغلى ذكْرياتي وربيعٌ في حياتي
ما تزالينَ كما كُنْتِ شُعاع الظلماتِ
ما تزالينَ نَشيداً أبديّاً في لَهّاتي
كلِماتي.. أنْتِ عَطّرْتِ بِنَعْمى كلماتي
أنتِ غرّدْتِ كعُصْفورٍ جميلٍ في فَلاةِ
أنتِ بَوحُ الحُبّ في قلبي وفي أعماقِ ذاتي
أنتِ يا قلبي بقلبي مثْلُ ترْجيعِ صلاتي
أنْتِ روضٌ عطْرُها عنْدي زَكيُّ النَّفَحَاتِ
أنْتِ تأتينَ إلى روحيَ منْ كلّ الجهاتِ
أنْتِ نَشْوى جَمَعَتْني بَيْنَ ماضيّ وآتِ
كَمْ تَلاقَينا وضّجّتْ بالتّلاقي قُبُلاتي
كَمْ تَعانَقْنا كَغُصنَينِ بمَرّ النّسَماتِ
كَمْ تناجينا وأسْكَرنا حُروفَ الهَمَسَاتِ
كَمْ تواعدْنا ولمْ نحفِلْ بأقوالِ الوشاةِ
كيفَ أنْسى ما سمعنا من رفيفِ الأغنياتِ
وأنا أبْحِرُ في عينيكِ مِنْ غيرِ التفاتِ
**
جنّتي أنْتِ وما في الخلدِ مِنْ ماءٍ فُراتِ
أنْتِ في حلّي وترحالي وصَحْوي وسُباتي
رُبما تَحْيا غُصُونُ الدّوحِ مِنْ بَعْدِ المَماتِ
رُبّما يَجتَمِعُ الرّوحانِ يا قلبيَ مِنْ بَعْدِ الشّتاتِ
وسَنَبقى نَغْمَةَ الحُبّ بأفْواهِ الحُداةِ
يا حَياتي كَيفَ أنْساكِ وما زلتِ حَياتي
تحدث أستاذنا عن نواعير حماه في مقال بعنوان : النواعير ، الرمز وقصة التصنيع، ونشرته مجلة الفيصل في العدد 237 - آب 1996م، فقال: تشرق الشمس على مدينة حماه ، وتنساب أشعتها من خلال النواعير وأضلاعها المغتسلة بمياه نهر العاصي صباح مساء تعانق الحياة السرمدية ... وتبرز السحر ... وترسم هالة الحسن والفتنة والألق والإبداع .
ويتابع نهر العاصي انسيابه الهادئ المطمئن في مدينة النواعير موزعاً في أرجائها لوحاته الخالدة بأمواهها وضفافها وشلالاتها ونواعيرها التي وهبت اسمها مدينة حماه فامتزجا معاً ... وأصبحتا رمزاً للفتنة والجمال.
حقاً. إن النواعير عنوان الطابع اللازمني ... إنها تدورمنذ فجر التاريخ، ولا تزال حتى يومنا الحاضر... وهي دائماً وأبداً تبغي مصافحة السماء إذا علت فيردها شوقاً إليه غدير، ولهذا فإذا ما تجولت خلال مدينة حماه، ونقرت ظلالها، صافحت عيناك لوحات طبيعية نادرة في العالم كله ... وفي مقدمتها لوحة النواعير الأربع، وساحة العاصي، وجسر بيت الشيخ، وتحت القلعة، وباب النهر.. وغيرها الكثير.
ولعل أقدم أثر تاريخي عن النواعير هو لوحة فسيفسائية للناعورة نفسها، تم العثور عليها في شارع الأعمدة في مدينة أفاميا الأثرية، وهي تقبع الآن في حديقة متحف دمشق..
إن للنواعير ثلاثة مسميات في تراثنا، فهي الدولاب وهذا عائد إلى شكلها، والساقية وهذا ناجم عن عملها، وهي الناعورة والناعور وهذا نابع من صوتها.
شاعت كلمة ناعورة، ونواعير، على هذه الآلات الخشبية الكبيرة المنصوبة على نهر العاصي وخاصة في مدينة حماه وضواحيها، ومادة النواعير الأساسية هي الأخشاب، ومن أهمها ما يؤخذ من أشجار: الجوز، والحور، والتوت، والكينا والسنديان والمشمش .. ثم غيرها، ومن الطبيعي أنها تؤخذ من الأشجار غير المثمرة أو الهرمة عديمة النفع والموجودة في بساتين المدينة وضواحيها، وسواها من المدن السورية إن لزم الأمر.
يسأل البعض عن سبب تسمية حماه بمدينة النواعير وكأنه لا توجد في العالم غير نواعيرها . حقيقة أنه توجد نواعير بجرار فخارية عوضاً عن الصناديق الخشبية ، وأنه توجد نواعير بعض أجزائها أو أكثرها من الحديد ولا تزال تعمل في اسبانيا والبرتغال واليونان والصين والمغرب ومصر ، لكنها - كما قال جان هيرو في كتابه : سوريا اليوم - لا يمكن أن تضاهي أبداً نواعير حماه ، إذ يبلغ قطر أصغر ناعورة في مدينة النواعير ثمانية أمتار في حين يتجاوز قطر أكبرها واحداً وعشرين متراً ، وليس حجمها الكبير فقط هو السبب أو صلابتها أو الشكل المعقد لهيكلها ..... بل جمالها البسيط الساحر من خلال تمازجها مع المياه وحركتها الدورانية الشجية المنتظمة بسحر قوة دفع المياه ...... وفي ذلك الطابع اللازمني لقوتها الدائمة العمياء والتي تبدو بها وكأنها هي من يحرك ماء العاصي بينما العكس هو الصحيح ...... وفي صوتها الشجي الساحر الذي هو مزيج من أنين وغناء الخشب مع الحجر مع النهر مع الشلالات ، والذي يبدو وكأنه آت من غياهب الأزمنة السحيقة ، والذي يطلق عليه اسم عنين ..... والذي أبداً يتعالى منادياً :
انزلْ حماه التي ما مثلها بلدٌ
بكلِّ دانٍ من الأهلينَ أو قاص ِ
ترقُّ قلباً لأحوالِ الغريب بها
حتىّ نواعيرها تبكي على العاصي
تكريم وليد قنباز
كان وليد قنباز مفخرة للرجال، وقد عبر عن ذلك الشاعر الحموي محمد عدنان قيطاز بقصيدة عنوانها: دعاء في يوم الوفاء، وقد ألقاها في يوم تكريم الأديب وليد قنباز، ومما جاء فيها:
أدام الله فضل (وليد) فينا
أليس (وليد) مفخرة الرجال؟
ومتّعه بعافية ونفس
معودّة على شرف الفعال
فإنّ نجاته من كلّ شرٍ
نجاة الحق من كيد الضلال
وإن حياته نُعمى علينا
وبُشرى لا تقاس بكنز مال
ولمْ.. لا.. وهو في الآداب فذٌّ
أخو عزمٍ وحزمٍ واحتمال
مقالات هي الأدب المصفّى
وشعرٌ زاهرٌ كالروض حال
سما نحو المعالي باعتدادٍ
كما تسمو شماريخ الجبال
ويعلم أن صرح المجد غالِ
وأن مناله أغلى منال
ومن علقت بهمته الثريّا
كمن يلهو ويحلم بالوصال
إذا سلَتِ الرجال عن المعالي
فما خطر السلوّ له ببال
ولم يخشعْ وربّ أخي هوانٍ
عقيم الزند من فرط الهزال
زكا أصلاً وطاول كل عالٍ
بإخلاص وتقدير مثالي
وعارفةٍ يقصّر عن مداها
أخو حذقٍ تمرّس بالنضال
و(صالح) عمُّه السامي مقاماً
شهيد الحق في يوم النزال(1)
وأنت (وليد) حافظ إرثِ ندبٍ
بما أُوتيت من كرم الخصال
إذا عوفيت عوفيَ كل قلبٍ
من التبريح والداء العضال
وبي من لهفتي أبداً حنينٌ
إليك.. وألفُ نجوى وابتهال
تكاد العين تسأل وهي حرّى
وقلبي مثل عيني في السؤال
منحت (حماة) كل هواك حتى
غدت تختال في عرس الجمال
فكم لك من يد بيضاء فيها
حقيقتها تفوق رؤى الخيال
فمن فنّ إلى أدب رفيع
ومن حسنٍ إلى سحرٍ حلال
وتبسم عن حدائقَ وارفاتٍ
تبرّجُ في مفاتنها الحوالي
وما جاوزتَ ما تبغي اقتداراً
ولكنْ قد قربتَ من الكمال
وفي تكريمك الميمون يعلو
دعاء المخلصين مدى الليالي
وفي يوم الوفاء يطيب شعري
كما طابت معطّرةُ الظلال
فخذ ما شئتَ من فتنٍ سوابٍ
ودعْ ما شئتَ من متعٍ غوال
ودعني من حسودٍ أو حقودٍ
فإن الجاحدين إلى زوال
وقل للشامت المرتاب: أقصرْ
فقد أسرفتَ في طلب المُحال
***
فدتك النفس يا أملاً مرجّى
وقلّ فدايَ من نفسي ومالي
سيحميك المهمين ذو الجلال
من الكُرَبِ الشداد فلا تبال
حياتك يا (وليد) لنا حياة
فأبشرْ بالشفا يابن المعالي
الهوامش: (1)-هو الدكتور صالح قنباز عضو المجمع العلمي العربي بدمشق وشهيد الثورة السورية ضد الفرنسيين عام 1925 م.[/font][/color][/size][/b]