حتى يتسنى معرفة ماهية ما يجري بين إسرائيل والفلسطينيين اليوم يتعين أولا فهم ما حدث في حرب الشرق الأوسط عام 1967.
ففي ستة أيام فقط تمكنت إسرائيل من تحطيم القوات المسلحة لمصر والأردن وسوريا، غير أن الصراع الجاري اصطبغ بإرث تلك الحرب على مدى الأربعين عاما الماضية وحتى يومنا هذا.
فقد خلفت تلك الحرب ربع مليون لاجئ فلسطيني آخر - إضافة إلى 100 ألف سوري، ولا سبيل لسلام في الشرق الأوسط دون حل مشاكلهم.
وأصبحت إسرائيل قوة احتلال.
فقد استولت إسرائيل على شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة من مصر، ومرتفعات الجولان من سوريا، والضفة الغربية والقدس الشرقية من الأردن.
كما خاضت إسرائيل حربا أخرى شديدة الخطورة مع سوريا ومصر في عام 1973، غير أنه مع مرور الوقت أصبح الضغط العربي الأساسي على إسرائيل آتيا من جانب الجماعات الفلسطينية، بزعامة منظمة التحرير الفلسطيني تحت قيادة ياسر عرفات.
وبالنسبة للفلسطينيين فقد كان الدرس المستفاد من الهزيمة المهينة التي لحقت بالدول العربية المحيطة بإسرائيل في عام 1967 هو أنه لا أحد سيضطلع بعبء القتال نيابة عنهم.
كما كان فشل القومية العربية في عام 1967 عاملا رئيسيا في النشوء المبكر للإسلام السياسي، إذ بدأت المساجد توفر إجابات لأسئلة لم يستطع الزعماء العلمانيون المهيمنون توفير إجابات مقنعة لها.
التحرق شوقا للقتال
لقد كانت أسطورة حرب 1967 هي أن داود الإسرائيلي أوقع "جليات" العربي - في إشارة إلى القصة الواردة في العهد القديم. إذ يروي العهد القديم أن النبي داود، وبينما مازال صبيا تمكن من إيقاع رجلا عملاقا متمرسا في الحرب ومدججا بالسلاح، لا بشيء إلا بقوة الله وحجر مقلاع أصابه بضربة قاتلة في جبهته.
ليس لدينا أي شيء مع إسرائيل سوى الحرب
أحمد سعيد - مذيع صوت العرب قبل الحرب
ولكن من الأكثر دقة القول إن الشرق الأوسط كان به عملاقان في عام 1967، فالعرب مجتمعين كانوا يملكون قوات مسلحة ضخمة، ولكنهم لم يكونوا على استعداد للقتال.
أما "جليات" اليهودي فقد كان في أفضل لياقته على الإطلاق، وكان قادته يعرفون ذلك. ففي عام 1967 كانت إسرائيل مجتمعا حصينا بشكل ليس عليه اليوم، إذ لم يكن التلفزيون بالانتشار الذي عليه اليوم، وما كان الجنرالات ولا السياسيون يسربون ما لديهم من أخبار لصحفييهم المفضلين كما يفعلون اليوم.
وكان المدنيون الإسرائيليون، خاصة خلال الأزمة التي قادت إلى الحرب، متروكين لمخاوفهم، والتي كانت هائلة بالنسبة للكثيرين.
فالدولة اليهودية لم تكن قد تجاوزت عامها التاسع عشر وكان الأطفال الناجون من الهولوكوست في العشرينات لا أكثر. وقد غذت إذاعة الزعيم المصري جمال عبد الناصر، صوت العرب، مخاوفهم ببث التهديدات المريعة.
وكان مذيع المحطة، أحمد سعيد، هو صاحب الصوت الأشهر في العالم العربي في الستينات وذلك بعد صوت ناصر نفسه، وصوت أم كلثوم.
واشتهر سعيد بعبارات مثل " ليس لدينا أي شيء.. أي شيء مع إسرائيل سوى الحرب.. حرب شاملة، هدفنا هو تدمير الأسطورة الإسرائيلية التي تقول أن إسرائيل باقيةٌ هنا، كل واحد من بين المائة مليون عربي قد عاش مدة الـ 19 سنة الماضية على أملٍ واحدٍ ووحيد وهو: أن يموت ليعيش وأن يعيش ليموت في اليوم الذي يتم القضاء على إسرائيل".
ولا غرابة في أن الكثير من الإسرائيليين وأصدقائهم والمقربين منهم في الخارج كانوا يشعرون بخوف عارم.
وقد أقنعت البيانات التي كان يذيعها سعيد، وحتى العبرية الركيكة التي كان تبثها الإذاعة المصرية من القاهرة موجهة نحو إسرائيل، الكثير من المدنيين الإسرائيليين أنهم إذا واجهوا أعداء على أتم استعداد لمحقهم محقا، فلا مفر لهم سوى القتال، والقتال بكل ما أوتوا من قوة.
وكانت المشكلة هي أن العرب أيضا صدقوا أحمد سعيد وزملاءه، وأقنعوا أنفسهم بأن نصرا سهلا يلوح في الأفق.
ساعة الجنرالات
أما جنرالات إسرائيل فلم ينخدعوا بهذا، إذ أدركوا أن إسرائيل لن تنهزم إلا إذا بقي جنرالات "جيش الدفاع" في بيوتهم.
جنرالات إسرائيل .. تدربوا أغلب حياتهم المهنية لإتمام العمل الذي لم ينته خلال "حرب الاستقلال" عام 1948
وكذلك أدرك العاهل الأردني الملك حسين، ومعظم كبار رجال الجيش المصري - باستثناء المشير قائد الجيش المصري عبد الحكيم عامر الذي كان يفتقر إلى الكفاءة ويتهم بالفساد.
لقد دمر سلاح الجو الإسرائيلي سلاح الجو المصري وهو مازال على الأرض صبيحة الخامس من يونيو/حزيران 1967 في هجوم خاطف.
وخلال الأيام الخمسة التالية حققت إسرائيل نبوءات استخبارات البريطانيين والأمريكيين.
فقبل ذلك بستة أسابيع خلصت لجنة الاستخبارات البريطانية المشتركة أن تحقيق العرب نصرا في هذه الحرب "أمر لا يمكن تصوره".
وإبان الوقت ذاته، قال رؤساء الأركان المشتركة للولايات المتحدة أن الجيوش العربية مجتمعة "لن تكون في وضع يمثل أي تحد عسكري (لإسرائيل) على الأقل خلال السنوات الخمس المقبلة".
فجنرالات إسرائيل، الذين كانوا يتمتعون بثقة عارمة في النفس، وأغلبهم من "الصابرا" (وهو الاسم الذي يطلق على من ولد من اليهود في إسرائيل وليس خارجها) في الثلاثينات وأوائل الأربعينات من عمرهم، كانوا يتدربون أغلب حياتهم المهنية لإتمام العمل الذي لم ينته خلال "حرب الاستقلال" أو "النكبة" عام 1948.
وحينما حاول قادتهم السياسيون، وأغلبهم من المهاجرين الأكثر حرصا الذين يكبرونهم بعشرين عاما على الأقل، اللجوء إلى الدبلوماسية لإنهاء الأزمة التي قادت إلى الحرب، أصيب كبار الجنرالات بخيبة أمل لا حد لها.
فقد أيقن الجنرالات أن الإرجاء لا يعني سوى مزيد من الخسائر، والتأجيل غير اللازم لحرب لا مناص منها ولنصر حتمي ظلوا يتأهبون إليه منذ فترة.
المنتصرون
ومازالت دوافع ناصر للمخاطرة بخوض حرب 1967 مجالا خصبا للجدل.
من التفسيرات الأخرى أن ناصر كان مستعدا لأن يدفع بإسرائيل نحو الحافة ليعزز مكانته باعتباره البطل العربي الأوحد
فقد أشار مؤرخان إسرائيليان مؤخرا إلى أن الاتحاد السوفييتي ظل يشجعه ويشجعه على خوض الحرب، إذ أرادت موسكو تدمير برنامج الأسلحة النووية الإسرائيلي في ديمونة.
ومن التفسيرات الأخرى أن ناصر كان مستعدا لأن يدفع بإسرائيل نحو الحافة ليعزز مكانته باعتباره البطل العربي الأوحد.
فقد افترض أنه إذا تخطت إسرائيل الحد، فسوف تتدخل القوى العظمى لإنقاذه وتقديم نصر سياسي له، كما فعلت في حرب السويس "العدوان الثلاثي" عام 1956.
وحينما جاء النصر، صدق المدنيون الإسرائيليون، الذين لم يطلعوا قط على مدى قوة إسرائيل، أنهم نجوا من مصير محتوم.
لقد كان ديفيد روبينجر، المصور الإسرائيلي الذي أخذ الصورة التي تناقلتها صحف العالم وأصبحت الأكثر شهرة لتلك الحرب، من قوات المظليين للجيش الإسرائيلي حينما سيطر الجيش على الحائط الغربي "حائط المبكى"، وقال وهو ما كاد يتحكم في انفعالاته:
"أجهشنا بالبكاء، لم يكن بكاء دينيا، بل كان بكاء الفرح والتقاط الأنفاس، إذ كنا نشعر أن مصيرنا محتوم وأننا محكوم علينا بالموت. وإذ بمن يرفع المقصلة ويقول لستم طلقاء فحسب، بل أنتم أمراء، لقد بدا الأمر معجزة!".
ومازالت القناعة بأن ما حدث كان معجزة، وأن الله أنقذ الشعب اليهودي وأعاده إلى أرضه التاريخية في "يهوذا والسامرة"، هو المحرك الدافع للقومية الدينية الإسرائيلية.
وحينما التقت لحظة النصر التي اعتبرت "فداء إلهيا" لإسرائيل بالنزعة الكامنة في الصهيونية للاجتراء على اكتساب أرض جديدة، كانت النتيجة هي حركة الاستيطان.
محتلون
وكانت مكافأة إسرائيل، فضلا عن النصر ذاته، هو علاقة استراتيجية جديدة بالولايات المتحدة.
استوطن قرابة نصف مليون يهودي الضفة الغربية منذ عام 1967
ولكن حتى قبل أن ينتهي القتال، ومع استكمال إسرائيل لسيطرتها على القدس والضفة الغربية، حذر الرئيس ليندن جونسون، أحد أرسخ الأصدقاء الذين تمتعت بهم إسرائيل على الإطلاق في البيت الأبيض، بأنه بحلول الوقت الذي ينتهي الأمريكيون فيه من كافة "المشكلات المتفاقمة"، سيتمنون لو "لم تقع تلك الحرب على الإطلاق".
وبعد أربعة أيام من انتهاء الحرب، حذر وزير الخارجية الأمريكي دين راسك من أنه إذا احتفظت إسرائيل بالضفة الغربية، فإن الفلسطينيين سيمضون بقية القرن في محاولة استعادتها.
والآن وبعد مرور أربعين عاما، وطنت إسرائيل نحو 450 ألف شخص في الأراضي التي احتلتها عام 1967، في تحد لتفسيرات الجميع للقانون الدولي ما عدا تفسير إسرائيل ذاتها له.
فالمستوطنون يتمتعون بكافة موارد الدولة بما في ذلك موارد الجيش الإسرائيلي لحمايتهم من شعب متمرد على القمع يعتقد الكثيرون من أبنائه أن العنف القاسي الذي يستهدف المدنيين والجنود على حد سواء ليس إلا ردا مشروعا على الاحتلال.
فبالنسبة للفلسطينيين، فإن الاستيطان كارثة تتفاقم كل يوم مع استمرار النمو السرطاني لتلك المستوطنات.
وبعد 40 عاما من الاحتلال لم يعد بإمكان إسرائيل أن تعتمد على الدعم الدولي الذي تمتعت به عام 1967.
وينظر المستوطنون إلى وجودهم باعتباره رصيدا وطنيا هاما وضرورة وواجبا في الوقت ذاته، غير أن الكثير من الإسرائيليين، بدرجات متفاوتة، يعتقدون أن المستوطنات، وكافة ما خلفه إرث 1967 والذي عمق الصراع مع الفلسطينيين، كارثة وطنية.
ويشتكي ديفيد روبينجر بمرارة قائلا "بدأ الإصبع في تحريك اليد بدلا من تحريك اليد للإصبع، وزادت قوة الإصبع حتى أن اليد باتت غير قادرة على الحركة".
SF-OL