السونيت 13
حالما ظننتك منسجمة معي،
نطقتُ كلاما
يصف ما نفعل
كان منحطا وبذيئا.
ورأيتك خائفة
كما لو لم تعي ما نفعل إلا الآن،
رقدنا سوية منذ أسابيع
ما علمتك خلالها سوى كلمتين نابيتين.
حين أكرر هذه الكلمات أسترجع خوفا
مَسّني، إذ ضاجعتك للمرة الأولى.
الآن لم يعد هناك ما يخفى:
وها أنت ترين كل شيء!
وها قد وصلت لما أريد:
الكلمة التي تقول ما نفعل هي
للشاعر والمنظر المسرحي برتولت بريشت (1898-1956) وجوه عديدة، قد يعثر عليها المرء في طيات أعماله الكاملة التي نشرت في شرق وغرب ألمانيا في طبعات أنيقة قد تختلف في التفاصيل تبعا للتوجهات الإيديولوجية لكل من "المانيا الديمقراطية" سابقا و"المانيا الإتحادية"، غير أنها تعكس إجماعا على أهمية هذا الأديب المثير للجدل وموقعه المتميز في الأدب الألماني. فنحن نعرف بريشت شاعرا سياسيا، ومسرحيا متميزا أسس لثلاث مراحل في تاريخ المسرح المعاصر الا وهي المسرح التعليمي (على سبيل المثال "القاعدة والإستثناء") والمسرح الملحمي ("أوبرا القروش الثلاثة" مثالا) والمسرح الديالكتيكي ("حياة غاليليو")، كما نعرف عنه الكثير من مغامراته الجنسية مع حسناوات كان لهن تأثير كبير على عمله (اليزابيث هاوبتمان (1897-1973)، روت بيرلاو (1906-1974) وسكرتيرته الشخصية مارغاريته شتيفن وغيرهن إضافة الى زوجته الممثلة الكبيرة هيلينه فايغل (1900-1971))، وربما سيكون بين القراء من عثر على إسم بريشت في واحد من أفلام هوليوود القديمة، حيث وجد نفسه أثناء لجوئه في الولايات المتحدة مضطرا للمساهمة في كتابة بعض سيناريوهات افلام لا أهمية تاريخية لها. كما يوجد بيننا من عثر على بعض الإشارات الإيروسية في هذه المسرحية أو تلك أو في بعض قصائد الحب التي كتبها بريشت أثناء تأثره بالحركة التعبيرية في بدايات القرن الماضي، غير أن دار نشر "انسيل فيرلاغ" فضلت، الى جانب ما نشر من هذه القصائد في "الأعمال الكاملة لبرتولت بريشت" -طبعة فرانكفورت وطبعة برلين- البحث عن قصائد أخرى لم تكن متوفرة سوى لأقرب أصدقاء بريشت، وهي قصائد مكتوبة بخط اليد كان يرسلها الشاعر لهؤلاء الأصدقاء، فهو لم يكن على مايبدو راغبا في نشرها - رغم ما عرف في حينها عنه من ميول إستفزازية ضد المجتمع البرجوازي المحيط به، لعلمه بما تحتويه هذه القصائد من إشارات أباحية تمس العلاقة بين المرأة والرجل-، وذلك رغم تضمينه لعدد منها في أول نص مسرحي تعبيري له وهو "بعل" -1918-.
تحتوي هذه المجموعة التي تقع في ست وثمانين صفحة من الحجم المتوسط على 29 قصيدة ( من مجموع ما يقارب 100 قصيدة إيروسية كتبها الشاعر) تزينها تخطيطات ايروسية لبابلو بيكاسو الذي كانت تربطه ببريشت صداقة متينة، دفعت الأخير لإستخدام حمامة بيكاسو رمزا لـ "برلينر إينسامبل" دون علم الرسام الكبير، غير أنه صحح هذا لاحقا من خلال رسالة صداقية أوضح فيها سبب إهماله ضرورة إطلاع بيكاسو على مافعل.
اغلب القصائد التي يحتويها الديوان كتبت في عشرينات القرن الماضي، ولم يقم بريشت بنشرها في كتاب، الا أن هناك قصائد أخرى كتبت في مراحل مختلفة من عمل بريشت ونشر قسم منها في عدد من مسرحياته.
يلاحظ المتصفح للكتاب أن أغلب ما أحتواه من قصائد مبنية على نهج قصيدة التفعيلة، لذا نرى أن بعضها يحمل في عنوانه تعبير "أغنية"، كما يطلق بريشت على عدد منها تسمية "سونيت"، مما يكشف لنا بأن الشاعر أراد لها- رغم سريتها- أن تكون قابلة للإنتشار بين الجمهور، علما بأنها لم تجد من يلحنها، وذلك على العكس من الأغاني السياسية للشاعر التي أنتشرت بشكل واسع في الأوساط السياسية بعد أن قام بتلحينها موسيقيون كبار مثل هانس آيسلر (1898-1962) وباول ديساو (1894-1979) وكورت فايل (1900-1950). ومن المتفق عليه أن القصائد التي كتبها بريشت في بداياته الأدبية، وهذا ما أكد عليه هو الآخر، كانت متأثرة بالشاعر الفرنسي المتمرد فرانسوا فيون (1431-1463؟)، ويبدو تأثير فيون على بريشت كذلك في أعماله المسرحية الأولى وبشكل خاص في "أوبرا القروش الثلاثة" المأخوذة عن رواية الكاتب البريطاني جون غاي (1685-1732) "أوبرا الشحاذين"، إذ قام بريشت بإستخدام العديد من قصائد فيون، بعد أن أجرى عليها بعض التغييرات بما يتناسب مع مادته المسرحية. يلاحظ الباحث في هذه القصائد، أن أغلبها جاءت خالية من الرومانسية، بل أنها غالبا ما تمس الجدار الشفاف الفاصل بين الإيروسية وبين الأباحية (Pornografie ). رغم ذلك أعتبرها الكاتب والفيلسوف الألماني الكبير فالتر بنيامين (1892-1940) من أفضل ما كتب باللغة الألمانية في هذا المجال في ذلك الوقت، بل صنفها بانها من أفضل أعمال بريشت الشعرية.
تتحدث هذه القصائد في أغلبها عن العشق والرغبة الأزلية في إغراء الآخر، كما تبشر بإنتهاك المحرمات وتجاوز الحدود، فهي لذلك تقع أحيانا في شباك "الإبتذال"، إذا نظرنا اليها بمنظور القيم الأخلاقية السائدة، أو التحدي إذا تعاملنا معها من منظور أدبي متحرر من قيود الأحكام المسبقة. وحتى حين تبدو بعض القصائد كما لو كانت توجيهات ونصائح في ممارسة الجنس: "التغرير بملاك"، "الحبيبة ماريا، عروس الروح"، "حول الحيوية"، "نصائح عاهرة عجوز لعاهرة شابة" الخ..، يمكن للقاريء أن يعثر في طياتها على الروح الساخرة والهجائية التي ميزت المراحل الأولى لعمل الشاعر، وأستمر تأثيرها لاحقا حتى في آخر كتاباته.
ويحيط بهذه القصائد التي تتجاوز حدود اللغة جو من الإسراف والإغراق في نشوة اللحظة، إلا أنها تبقى في الغالب قصائد حب تتغنى بالإمتزاج مع الأنثى وسط حمى مبهمة قد تخيب الكلمات في الإحاطة بمدلولاتها. الى جانب ذلك نجد في المجموعة هنا وهناك قصائد ذات طابع ميلانخولي، يحررها من النكهة المباشرة التي تسود القصائد الأخرى:
"لم نكن نعرف البعض حين جامعتك،
ولما أحتضنتك،
كنت مني أبعد من القمر."
("قصيدة من زمن سيء")
ومن الجدير بالذكر أن الملحن والمغني والممثل الألماني بليكسا بارغلد، مؤسس فرقة "آينشتورزنده نويباوتن" -العمارات المتهاوية- سارع بعد صدور هذا الديوان الى إصدار قرص مدمج يحتوي على مجموعة من هذه القصائد الى جانب قصائد أخرى أختارها من مسرحيات بريشت المذكورة اعلاه، وأضاف اليها عددا من قصائد بريشت الملحنة من مسرحية "عرس البرجوازي الصغير"، وقد أنتشر هذا العمل بشكل واسع في الأوساط الثقافية الألمانية، إذ جاء مكملا لما قامت به دار نشر "انسل" في التعريف بهذا الجانب "شبه الخفي" من عمل بريشت، غير أن بارغلد أضاف على العمل من خلال معالجته الصوتية للقصائد مناخا يمنح المستمع أمكانية الغوص في الأجواء البوهيمية التي ميزت الفترة التي كتب فيها بريشت أغلبها.
ايلاف
صالح كاظم