هكذا امتزج التراث مع التاريخ والموسيقى مع الحجر بلوحة ربط خيوطها الفنان نصير شما عازف العود المعروف من خلال المقطوعات الموسيقية التي قدمها على آلة العود في أمسية موسيقية على مدرج جبلة الأثري بإطار مهرجان جبلة الثقافي الثالث ، حيث استطاع الفنان أن يخطف انتباه الجمهور الذي ملأ المكان ، وأن يشد أنظارهم إلى أصابعه وهي تتلاعب على أوتار العود بخفة وفنية عالية وبإحساس مرهف وشفاف .
تصفيق مدوي
قدم خلال الأمسية الموسيقية مجموعة من المقطوعات الجميلة كانت تنتهي بتصفيق مدوي ، خاطبت وجدان الحاضرين في الأعماق وانتزعت الصمت منهم على اختلاف أطيافهم صغاراً وكباراً ، فلكل مقطوعة قصتها وأثرها وانعكاسها فرقصة الفرس جعلتنا نشعر وكأن فرساً حضرت من بين الأوتار لتتراقص على المسرح ، كما قدم مقطوعة لمبتوري اليد وعلق حولها قائلاً : في عام 1986 أثناء السنة الأخيرة من دراستي للموسيقى ببغداد وضعت طريقة لمبتوري اليد كي يصبح بمقدورهم العزف والتعلم على آلة العود ، واليوم كل طلبتي في بيت العود في القاهرة والجزائر وأبو ظبي يعرفون العزف بيد واحدة وأقدمها على المسرح لا لغرض الاستعراض بقدر ما هو فتح المجال للشباب الذين يحتاجون ذلك ، و عزف مقطوعات أخرى منها "هناك في الجنة" ، "من وحي دجلة" ، "العراق مقام واحد" ، "للطفولة " ، " بين النخيل" والتي أهداها للشاعر الكبير أدونيس الذي كان يحضر هذه الأمسية ويتمايل طرباً لما يسمع ، وختم بمقطوعة "هكذا حدث في العامرية " عند سماعها يخيل إليك وكأنك في حرب ، فقد استطاع الفنان من خلال أوتار العود أن يعطي تمثيلاً لما يحدث في المعركة من قصف وضرب وأصوات إنفجارات ودبابات وصفارات الإنذار و سيارات الإسعاف ، وقال عنها : تلك الحادثة التي حصلت في عام 1991 وقصف خلالها الأمريكان أيام بوش الأب ملجأَ للأطفال في العامرية ، وقتل خلالها مئات الأطفال وحرقت جثثهم ، والآن يواصل نفس المجرم الأمريكي أيام بوش الابن القتل والتدمير في بلدنا وتقطيع أوصال شعبه ، الآن قرابة 5 ملايين عراقي مشرد يتوزعون في العديد من أجزاء العالم ، ومازالت العامرية تحصل كل يوم ، حيث يذهب يومياً مئات القتلى والجرحى الأبرياء . وأهدى تلك المقطوعة لكل الأرواح التي ماتت وتموت كل يوم في العراق .
جمهور استثنائي
وفي لقاء مع الفنان نصير قال حول المهرجان : هذه المرة الثانية التي أشارك في المهرجان ، وفي كل مرة أرى جمهور جديد وإقبال شديد ، هنالك شباب بأعمار صغيرة وهذا مهم جداً لتلقي الموسيقى ، لأنه عندما نريد أن نبني المستقبل يجب أن نبنيه مع الشباب الفتيان ، وأضاف أن مهرجان جبلة خطا في هذه الدورة خطوة كبيرة نحو المكان( مدرج جبلة الأثري ) ونحو النوعية بكل فعالياته ، لقد بدأت جبلة تعطي صدى عالمي لوجودها الجغرافي وبنفس الوقت لإشعاعها الحضاري .
أما عن جمهور جبلة قال : في المهرجان الأول أتيت من أجل أدونيس لكن اليوم أتيت من أجل هذا الجمهور ومن أجل صديقي أدونيس و يرى نصير في هذا بأنه استثنائي وخاص بكل أجياله وهذه ميزة ليست متوفرة في الكثير من أرجاء العالم ، فالآن هنالك انحسار في فئات مختلفة من الشعب في كل مكان من العالم من التوجه نحو الموسيقى والثقافة ، لكن في سوريا مازالت الثقافة بخير ومازال الجمهور يتواصل ويكبر كل يوم . وأنا أعتبر أن أفضل جمهور لي هو في سوريا ، وأفضل ناس أحب أن أعزف لهم هم في سوريا .
ورأى نصير في المكان أي مكان المهرجان في مدرج جبلة الأثري أنه ساحر ويعطي للفنان دافعاً كي يقدم أفضل ما يمكن ، وأول ما دخلت إلى المدرج أحسست بأني سأقدم عرضاً مهماً لأنه المكان الملائم لي ولعودي .
أما عن العود وماذا يعني له ذكر : إنه ذارع نبت لي ، وهو واجهة اطل منها على العالم ، وهو لساني فأحياناَ لا أستطيع النطق بشكل عملي فأنحاز إلى العود لأقول ما لا أستطيع قوله كلاماً .
بيت للعود في دمشق
كما أشار أن لديه مشروعاً خاصاً في سوريا حيث جرى الاتفاق مع وزير الثقافة الدكتور رياض نعسان آغا لافتتاح " بيت العود " في دمشق ومازالت الكرة في ملعب وزارة الثقافة لتأمين المكان المناسب من البيوت العربية القديمة في باب توما ، وأكد أنه حالياً مهتم ببيت العود في المدرسة التي أسسها في القاهرة ولها فروع في عدة دول، وفيه طلبة شباب عازفين وعازفات على مستوى عال جداً ، ومن بينهم مجموعة من السوريين الذين تخرجوا من هذا البيت وستسمعون بهم تباعاً ، وفي تعليقه حول الموسيقي الملتزم قال : كل إنسان عنده هدف بالحياة ،هناك من التزم الهبوط وهنالك من التزم الشعب وآخرون التزموا المبادئ لكن الأهم أن يمتلك الشخص قدرة فنية عالية وأن يتبنى قضية ، أي أن لا يركب على قضية كي ترفعه ، بمعنى أن يطلع بالقضية إلى حيث يريد . و أنا مؤمن بأن الموسيقي أو الفرد إذا أتقن أدواته وأتقن عمله أي كان ذلك العمل فهو سيقدم صورة مشرفة عن ثقافته وبلده ومهما كان انتماؤه .