قصة الهندسة(15)
عاش جوفاني ساكيري Giovanni Girolamo Saccheri في إيطاليا ما بين عام
1667 و عام 1733. و يعتبر ساكيري بحق أول مؤسسي الهندسة اللاإقليدية،
طبعا مع أنه كان يجهل ذلك تماما! فمثله في ذلك كمثل السيد جوردان في
مسرحية البرجوازي النبيل الذي كان يكتب النثر بدون أن يعرف ذلك.
دعني أحدد ما أعنيه بالهندسة اللاإقليدية: هذه الهندسة تنطلق من القول:
فماذا لو لم تكن هندسة إقليدس صحيحة؟ ماذا لو كان مجموع زوايا المثلث
أصغر من قائمتين؟ فيبدأ عندها الرياضي بالبحث عن تناقض، فإما أنه يتوقف
سريعا ظانا أنه حصل على تناقض ما، و هذا ما فعله بروكلوس و ابن الهيثم
و عمر الخيام، أو أنه يتابع البحث و ينشئ نظريات الهندسة اللاإقليدية،
و هذا ما بدأ بفعله ساكيري.
فبعد أن أخذ الجزء الأول من عمل عمر الخيام، اعتمد ساكيري الشكل
الرباعي الذي اعتمده عمر الخيام و ابن الهيثم من قبله (فهو شكل رباعي
يتضمن ثلاث زوايا قائمة). ثم إن ساكيري نظر للزاوية الرابعة و لاحظ
أنها إما منفرجة، أو قائمة، أو حادة.
فبعد أن برهن ساكيري استحالة الزاوية المنفرجة (و هي الفرضية المكافئة
للقول أن مجموع زوايا المثلث أكبر من قائمتين، و قد سبق لنا برهان
استحالة ذلك حين برهنا التكافؤ بين مسلمة ساكيري و مسلمة إقليدس)، بقي
لديه فرضيتان:
- فرضية الزاوية القائمة، و ينتج عنها هندسة إقليدس.
- فرضية الزاوية الحادة، و ينتج عنها الهندسة اللاإقليدية، يعني هندسة
لوباتشيفسكي.
يعود الفضل لساكيري بصياغة هذا المصطلح: "فرضية الزاوية الحادة"، فمنذ
ذلك الوقت تعرف الهندسة اللاإقليدية باسم "فرضية الزاوية الحادة".
ثم إن ساكيري تابع العمل و استنتج عددا لا بأس به من نظريات الهندسة
اللاإقليدية حتى وصل للنظرية التالية:
للأسف توقف ساكيري عندها عن متابعة عمله. و لو لم يفعل، لو أنه تابع
العمل دون أن ينزعج من "قبح" فرضية الزاوية الحادة، لكان أنجز بناء
الهندسة اللاإقليدية... و لكان اسم الهندسة اللاإقليدية هو "هندسة
ساكيري" عوضا عن "هندسة لوباتشيفسكي"!
لكن ساكيري لم يمتلك هذه الشجاعة، فتوقف عند هذه النقطة. و هذا ما
سأفعله، فسأتوقف هنا عن الحديث عن ساكيري و سأعود للحديث عن عمالقة
الهندسة اللاإقليدية: بولايي، غوص و لوباتشيفسكي.
فلي عودة.