طائر المساء يناديني
باسم لا تعرفه سوى جدتي
وامرأة تأتيني
عندما أغط عميقا في النوم «1»
***
ان قراءة أي عمل من أعمال الشاعر الأرمني ليوناردو أليشان (LEONARDO ALISHAN)، تصيب قارئها بشيء من الاستلاب الجميل بالإضافة إلى الشعور بخلق ذائقة جديدة للمتلقي، اليشان أميركي من أصل إيراني أرمني، شاعر وقاص وبروفيسور جامعي متخصص في الأدب المقارن والأدب الفارسي، توفي في التاسع من يناير عام 2005 اثر حريق منزلي عن عمر يناهز الثالثة والخمسين في ولاية يوتاه في الولايات المتحدة. معظم أعماله الحداثية تحمل الموروث الأرمني برموزه وآلامه وظلال الماضي الحزين رغم أن لغة أدبه هي الانكليزية، أليشان المولود في طهران عام 1951، هاجر للولايات المتحدة عام 1973 لاكمال دراسته في الأدب المقارن، وعمل في التدريس بجامعة يوتاه لمدة عشرين عاما، لديه ثلاثة أبناء من نيللي زوجته التي انفصل عنها عام 1993.
الغريب والصادم أن الشاعرة والمترجمة جمانة حداد في كتابها (سيجيء الموت وستكون له عيناك) في طبعته الأولى الصادرة عام 2007 عن دار النهار للنشر، وهو عن مئة وخمسين شاعرا انتحروا في القرن العشرين، زجت باسم اليشان كأحد الشعراء المنتحرين دون تحري الدقة المطلوبة، وضعت اسمه في القسم الأول من الأنطولوجيا وهو القسم الذي يشمل خمسين شاعرا أفردت لكل منهم مساحة كبيرة في تقديم النصوص التي قامت بانتقائها، وترجمتها بطريقة جذابة، إلا أن اليشان لم يكن أساسا من المنتحرين!
ما أعرفه جيدا أنه توفي اثر حريق شب بعد منتصف الليل في الدور الأرضي من شقته الدوبلكس، وهو نائم في السرداب حاصرت النيران المكان والرجل توفي وهو على سريره متأثرا بحطام وأنقاض الحريق، حادث مؤسف وتراجيدي ليس به أي شبهة انتحار، تم نشر الخبر حينها في أكثر من مكان أبرزها الموقع الالكتروني لجامعة يوتاه وموقع جمعية الأدب الأرمني في أميركا وبعض الصحف آنذاك، عندما تأكدت أن جمانة حداد أقحمت اسم اليشان في انطولوجيا الشعراء المنتحرين، شككت في أن معلومات جديدة استندت عليها المترجمة قد تكون ظهرت أخيرا تخالف تلك الموثقة والمعروفة لكل من يعرف الشاعر، بحثت طويلا ومجددا عن خيوط الحكاية المفقودة، ولم أجد أي معلومة حديثة تشير من قريب أو بعيد لانتحاره المفترض!
هل عولت الكاتبة على عدم اطلاع القارئ العربي على تجربة اليشان وسيرته؟ هل كان ينقص الانطولوجيا العظيمة اسم واحد لأي شاعر غادر الحياة كي يكتمل العدد ولتستكمل الصورة ملمحها الجنائزي المهيب؟ هل زارت جمانة أقارب الشاعر والسلطات الرسمية في يوتاه ونقبت عن معلومات لم تكشف من قبل، واتضح لها انه انتحر؟! إن حدث ذلك كيف توصلت لهذه النتيجة، التي لم يتوصل إليها حتى المحققون والشرطة ورجال الإطفاء؟!
هل من السهولة أن نعبث عند تدوين سيرة ونهايات البشر، ونختار المصير المناسب لأمزجتنا ومشاريعنا الإبداعية متغاضين عما تتطلبه مهنة الكتابة من تحري الدقة والأمانة الأدبية؟! هل استسهلت جمانة الموت إلى درجة خلط الأوراق بفوضى على طاولة الحياة، المستندة على الوقائع لا التخمينات والظنون الهلامية؟!
صورة اليشان والنبذة المختصرة عنه، التي تمت ترجمتها حرفيا من أحد مواقع الانترنت دون أى إضافة تذكر من جانب الكاتبة، سوى العبارة غير الصحيحة (وانتحر بإحراق نفسه في بيته)، لم تقنعني كقارئة اعرف من هو اليشان جيدا!
المثير للدهشة أن شاعرين فقط من المئة وخمسين- الذين ضمتهم الانطولوجيا - ماتوا بحريق، أظنها وسيلة غير شائعة وغير محببة للانتحار، الغريب أن هناك حالات اعتبرتها المترجمة حالات انتحار، وهي ببساطة كانت تناول جرعة زائدة من المخدرات أفضت إلى وفاة صاحبها دون تعمد ذلك!
الأغرب - وهي ملاحظة لا علاقة لها بموضوعنا- انه لا يوجد أي شاعر خليجي انتحر في القرن العشرين، يبدو أنهم الناجون الوحيدون من لعنة الموت المهزوم!
عموما إن كانت جمانة لم تنتبه أن أليشان مات ليلا في حريق منزلي لم يشعر به، وهو نائم على سريره- كما وجدوا جثته صباحا- نرجو منها في الطبعة الثانية من الكتاب، أن تستثنيه من قائمة المنتحرين الذين لاحقوها ونادوها ودوخوها:
« نابشة القبور أنا، قبور الشعراء المنتحرين
مئة وخمسين نعشا فتحت، نعم...
وإلى مئة وخمسين جهنم نزلت.
مئة وخمسين جثة أنعشت بماء الزهر.
ومئة وخمسين شيطانا روضت.
مئة وخمسين دمعة رشفت
وبمئة وخمسين نارا احترقت.
مئة وخمسين حكاية حكيت...
ومئة وخمسين مرة سألت، بحسرة سألت، وقهرا، وعارفة سألت:
لماذا ينتحر من ينتحر؟» «2»
أما أنا فمنذ قرأت أن جمانة أجبرت اليشان على الانتحار، وصورته تحاصرني، تتعقبني، وهي تتذمر، روحه القلقة بزغت تتوسلني أن أخبرها أنه أحب الحياة، ولم يرغب أن يغادرها بقرار شخصي أو مشروع نهاية باهتة لا تليق بمن يملك شجاعته وتألقه، شبحه الواجم كان يحوم حولي لأيام ولم يهدأ حتى بعد ترجمتي لرائعته القصصية (The black city).
عزيزتي جمانة... أرجوك أخرجيه من رعب صندوق الانتحار البارد، وابحثي عن بديل آخر لترتاح روحه الجميلة ولتزداد المصداقية بين دفتي إصدارك، الذي أمضيت اربع سنوات في إعداده حسب قولك، وكي لا يندم القارئ على المبلغ الذي أنفقه في شراء الكتاب!
«1» من نص التنين للشاعر ليوناردو أليشان.
«2» (سيجيء الموت وستكون له عيناك)جمانة حداد 2007.