آخر الأخبار

العملية رقم سبعة-من ملفات المخابرات

مدخـــــــــل

في الستينيات من القرن العشرين، كان الصراع على أشده بين القوتين العظميين، الاتحاد السوفييتي وأمريكا، ولم تكن هناك فرصة، ولو ضئيلة، لالتقاط الأنفاس داخل أجهزة مخابرات البلدين.

كان هناك أيضاً سباق محموم في تكنولوجيا التسلح، لأجل السيطرة، والتفوق، والتميز، والهيمنة.

فالسوفييت يلعبون بأوتار أحلام دول العالم الثالث، وتطلعاتهم نحو الاستقلال الاقتصادي والرخاء. والأمريكان، والغرب من خلفهم، يسعون للحد من المد الشيوعي، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، ويعملون على التغلغل داخل رؤوس قاطني الكرملين، هؤلاء الكهول ذوي الوجوه الجامدة الغامضة.

وكان من المنطقي، تبعاً للعبة المصالح، أن يتحول التنافس بينهما الى حرب خفية، يديرها رجال أذكياء مهرة، لاستكشاف نقاط الضعف والقوة، وصنع المستحيل للوصول الى أسرار الخصم.

فمنذ أن ضرب الأمريكان اليابان بالقنبلة الذرية، والروس لا ينامون أو يستقر لهم بال، وسعوا بشتى السبل للحصول على أسرار تلك القنبلة، وتصنيعها، الى أن تمكن روز نبرج، الشيوعي الأمريكي، مقابل ألف دولار، وبمعاونة زوجته، من سرقة ملف كامل عن المعادلات الكيميائية المعقدة، وتصاميم القنبلة، وسلمه للروس عام 1953 إبان حكم ستالين، ووفر عليهم بذلك سنوات طويلة شاقة من العمل والبحث والتجريب.

ولكي نتخيل ماهية أجهزة المخابرات في الاتحاد السوفييتي وأمريكا، ومدى ضراوة الحرب السرية بينهما، وأخطبوطية القوة فيهما، يجب أن نتعرض أولاً لإمكاناتهما البشرية والتقنية، وقدرة كل منهما على اختراق الآخر، وبالمقارنة بينهما ستتضح لنا الرؤية الحقيقية في النهاية.

فجذور المخابرات السوفييتية ترجع لأيام القياصرة، الذين أنشأوا ما يسمى بـ"البوليس السري" القيصري - شيبيكا - لحماية العائلة والنظام ضد الأعداء، وهم الشيوعيون، ثم انقلب الأمر بعد الثورة الشيوعية عام 1917، إذ انحصرت مهمة "شيبيكا" في مطاردة بقايا الأسرة القيصرية، وأعداء الشيوعية في الداخل، ومعارضيها الذين تمكنوا من الهرب الى الخارج.

ففي الداخل، تحولت البلاد الى ما يشبه معتقل كبير، وفُرضت حياة ونُظُم ومبادئ وجب على الجميع احترامها، وغص سجن "لوبيانكا" بالمغضون عليهم، وفي أقبييته وسراديبه كان المسجونون يغرّزون بالإبر تحت الأظافر، وفي الأماكن الحساسة، وكذا تخلع الأسنان بالكماشات، ويحبسون داخل أقفاص حديدية تتحرك قضبانها بواسطة تروس، فتضغط الأجساد وتطحنها عصراً، وتُقذف أوصالهم للكلاب. . وكان الجلادون يفخرون بقدرتهم على انتزاع اعترافات السجين بسهولة، حتى ولو طلب منه أن يعترف بأنه "ملك السويد"، أو رئيس الولايات المتحدة.

وفي عام 1954 جرى تطوير جهاز البوليس السري وتطهيره، وتصنيف إدارته وأقسامه، وأطلق عليه جهاز المخابرات السوفيتية K.G.B.، وتضاعفت أعداد مخبريه وأفراده، للدرجة التي قيل أنه من بين خمسة أفراد كان يوجد "مخبراً"، وبلغ عدد الموظفين به الى نصف مليون موظفاً، وأكثر من مليون عميل وجاسوس. أما الميزانية السرية للجهاز فقد تجاوزن وقتها العشرة مليارات دولار، للإنفاق على العملاء والعمليات والتطور التقني المذهل.

لقد سبقت الـ K.G.B. سائر أجهزة المخابرات العالمية، وتفوقت عليها في تقنية التجسس، وأساليب التخابر، وفن الجاسوسية الذي يدرس في أكاديميات متخصصة، وكانت المخابرات الأمريكية C.I.A. دئماً تسعى للحاق بها، وتستنزف في مواجهة نشاطها المضاد، واختراقاتها الأسطورية، إذ كانت الـ C.I.A. تحظى دائماً بالاهتمام الأعظم، وبالأولوية في عمل ونشاط الـ K.G.B. التي زرعت بأمريكا نفسها آلاف الجواسيس والعملاء، الذين امتزجوا بالنسيج الأمريكي في مهارة، جعلتهم ينقلون لبلادهم ابتكارات وتقنيات وأسرار استراتيجية غاية في الخطورة.

ولسنوات طويلة، اشتعلت حرب المخابرات والجاسوسية بين القوتين العظميين، وكان لا يكاد يمر شهر دون أن تقوم واشنطن بطرد دبلوماسيين سوفييت، تبين تورطهم في عمليات تجسسية، فترد موسكو بذات الأسلوب. بل إن عواصم الدول الغربية، تحولت هي الأخرى الى ميادين حرب سرية بين الجهازين العملاقين، وبرع رجال الـ K. G.B في اختراق نظم السرية والأمن، للسفارات الأمريكية في العديد من الدول، بواسطة نساء جميلات بارعات ماهرات، أقمن علاقات مع الحرس الأمريكان، فتحولوا الى جواسيس على سفاراتهم.

وعملية اختيار الجواسيس في الـK.G.B. تعتمد على تفريخ عدة معاهدة متخصصة، تقوم بتأهيلهم نفسياً وبدنياً وتقنياً ولغوياً على أعلى مستوى، ويكون اختيارهم للعمل داخل الدولة، أو خارج حدودها، طبقاً للمؤهلات الثقافية والعصبية لكل عميل.

أما المخابرات المركزية الأمريكية C.I.A.، فلم يكن لها وجود قبل الحرب العالمية الثانية، إذ كان هناك ما يعرف بمكتب الخدمات الاستراتيجية، وكان دوره محدوداً وقاصراً، ويفتقد الى الرجال الأكفاء والخبرة والتقنية، للدرجة التي أدت باليابان الى ضرب الأسطول الأمريكي في "بيرل هاربور" عام 1941، فمرغت كرامة أمريكا، التي لجأت لاستخدام القنبلة الذرية انتقاماً لكرامتها.

حينذاك .. لم تكن هناك تقارير تحليلية، أو تنبؤات محتملة، أو حتى أجهزة إنذار مبكر، ولذلك، أصيبت أمريكا بشلل تام في العقول، والتفكير، على غرار ما حدث في 11 سبتمبر 2001، وجاء الرئيس الجديد هاري ترومان (1945 - 1953)، فأسس جهاز الـ C.I.A. ، في سبتمبر 1947، وولى "آلان دالاس" رئاسته، فقفز به في غضون سنوات معدودة، الى قائمة أشرس أجهزة الاستخبارات على سطح الأرض، وأقواها.

فماذا فعل دالاس (2) .. ؟

لقد تم اعتماد ميزانية ضخمة ، سمحت للجهاز بتوسل التكنولوجيا المتطورة العالية، واستيعاب 250 ألف موظف وعميل، انتشروا في سائر المعمورة فحسّنوا من فاعلية الجهاز وقوة تأثيره، ليُسقِطَ حكومات في جواتيمالا والكونغو وقبرص وإندونيسيا وإيران، وتندرج تحت أعماله "القذرة" تصفيات جسدية لرؤساء الدول، الذين "انحرفوا" عن الركب الأمريكي، فقد تم إعدام الرئيس الدومينيكاني "رافائيل تروجيللو" أمام قصر الرئاسة، بواسطة متفجرات حوتها الحقائب الدبلوماسية المغلقة، ومشى "هنري ديروبورن" القنصل الأمريكي - مخطط العملية - وراء نعش القتيل نيابة عن الرئيس جون كيندي، الذي في عهده أيضاً، اغتيل الرئيس الفيتنامي "نجودين دييم" بذات الوسيلة، بعد محاصرته في قصره، لأنه عارض تدخلات أمريكا في شؤون بلده.

الرئيس جون كيندي نفسه، لم يسلم أيضاً من جبروت جهاز مخابراته، إذ اغتيل جهاراً نهاراً وبتخطيط شيطاني، مازالت أسراره مكتومة الى اليوم. حتى الزعماء الذين نادوا بالاستقلال وبالحرية، طاردتهم المخابرات المركزية وتعقبتهم، وحدث ذلك في بوليفيا للزعيم الأشهر "تشي جيفارا" ، بينما نجا "فيدل كاسترو" من عشرات المحاولات لاغتياله، كذلك العقيد معمر القذافي الذي تحدى غطرسة الأمريكان والحصار الطويل.

ومن أبرز أعمال الـ C. I.A. القذرة، تعقب "العقول" وتصفيتها، كما جرى مع عالمة الذرة المصرية "سميرة موسى" عام 1952، والكاتب المكسيكي المشهور "إلما بويل بوينديا" الذي هاجم الدور الأمريكي المشبوه في أمريكا الوسطى، واشتراكها مع الموساد في اغتيال الطيار العراقي نقيب شاكر يوسف، وزميله حامد ضاحي، اللذين رفضا خيانة وطنهما برغم شتى الإغراءات. "سيجيء تفصيل ذلك بعد قليل".

وبامتلاك الاتحاد السوفييتي القنبلة الذرية، والرؤوس النووية للصواريخ عابرة القارات، وأسرار حربية يجهلها الأمريكان، سعت الـ C.I.A. لإماطة اللثام عن الابتكارات العسكرية السوفييتية، والوقوف على مراحل ومدى القدرة العسكرية والاقتصادية لروسيا، واشتدت حروب العقول السرية بين الدولتين لتصل الى الذروة في أول مايو عام 1960، عندما وقع حادث غريب هو الأول من نوعه.

ففي ذلك العام أسقط السوفييت طائرة تجسس أمريكية طراز U-2 (1)، التي تضم أحدث ما وصل اليه العلم من ابتكارات، أهمها كاميرات غاية في التعقيد، تلتقط الصور على ارتفاع آلاف الأميال بدقة متناهية وبوضوح مذهل، بينما تطير بسرعة ألف كيلو متر في الساعة.

كان قائد الطائرة - النقيب فرانسيس جاري بورز - مطمئن للغاية وهو يحلق في أجواء الاتحاد السوفييتي، فقد طمأنه رؤسائه أن لا الصواريخ ولا المدفعية المضادة تستطيع أن تلحق بطائرته الأذى. وبالرغم من ذلك، شملت أدواته الى جانب المسدس، كبسولة صغيرة معبأة بالسم، طلب منه أن يتناولها عند اللزوم. لكن بورز لم يفكر بالانتحار، وهو يقفز بالباراشوت ويمسك به الأهالي، ويعترف للسوفييت بأنه طار فوق أجوائهم مرات عديدة من قبل، وكانت مهامه الأساسية هي الحصول على صور لمواقع الصواريخ، والمطارات التي ترابض بها طائرات "ميج 21". . بالذات. (!!)