، حفيد المفكر العربي الرائد عبد الرحمن الكواكبي ، و الأستاذ سعد زغلول من مواليد عام 1924،و كان قاضياً منذ عام 1952 ثم تقاعد و يعمل الآن محامياً ، و كان أمينا عاما لاتحاد الجمعيات الأثرية العربية و رئيساً سابقاً لمدة ثلاثة عشر عاما لجمعية العاديات ،و له أبحاث و ندوات و كتب في الأدب و التراث و القانون و التاريخ و الآثار داخل القطر و خارجه ، و أسعدني الحظ بأن أكرمني الأستاذ سعد وأطلعني على أوراقه و مذكراته و مخطوطات كتبه و مجموعة صوره القديمة التي لم تنشر ، و اخترت منها للقراء الكرام بمناسبة أعياد الجلاء في نيسان، هذا القسم من مذكراته :
اندلعت الحرب العالمية الثانية في 3 أيلول 1939 ،و استولى الجيش الفرنسي المتواجد على الأرض السورية على المؤن ، و كثير من الوسائل المعيشية في البلاد لدعم جيوش فرنسا في الشرق ، و حُكمت البلاد بقبضة حديدية ، إذ مُنعت الصحف و المنشورات و الاجتماعات و الجمعيات و الأحزاب ، مما سبب ازدياد النقمة و التهيؤ للقيام بانتفاضة شعبية .
و في بداية عام 1941 اندلعت المظاهرات ، و كانت حلب على موعد مع هذه الانتفاضة ، و خرجت المظاهرات ضد فرنسة مبتدئة من حي المشارقة بحلب ، شارك فيها طلاب مدرستنا ( مدرسة التجهيز ) التي سميت فيما بعد مدرسة المأمون ، و خرجوا بمظاهرة كبيرة شاركت فيها إذ كنت في الصف العاشر و كنت ابلغ من العمر حينها سبعة عشر عاما ، و اصطدمنا مع الشرطة و الدرك الفرنسي .
خرجت المظاهرة من مدرسة التجهيز في صباح يوم الأحد التاسع من آذار 1941 و كنا نبلغ حوالي المائتي طالب ، و كان يوماّ مشمساً ، و ما كدنا نخرج من باب المدرسة لنلحق بالمظاهرات في شوارع المدينة ، حتى طوقتنا قوة الدرك الفرنسي عند مخفر الكتّاب ، بقيادة الكوماندان الفرنسي كوردييه مع رجاله ، واحتدمت المعركة بيننا و بينها ، معركة باسلة ، واجهت فيها الحجارة .. المصفحات و الرصاص و الهراوات .
فتراجع الطلاب تحت الضغط باتجاه المدرسة ، و ذهب قسم آخر إلى المقبرة المجاورة التي سميت فيما بعد مقبرة هنانو ، و احتموا من الرصاص بين القبور ، و فجأة سقط زميلي " مصطفى النعساني " برصاصة استقرت في رأسه ، ففقد الوعي ، فحمله رفاقي محمد السيد و عمر رشدي رفاعي إلى قاعة الإسعاف في المدرسة ، و لكنه اشرف على الوضع الخطير جداً .
و أقنع المسيو غولمييه و كان مستشار فرنسي للمعارف و صار فيما بعد مستشرقا معروفا، المقدم " كوردييه " بالسماح بنقل زميلنا مصطفى نعساني الذي ساءت حالته كثيرا ، إلى مستشفى الرازي فنُقل ، و هناك أجرى له عمه المرحوم الطبيب أحمد النعساني عملية جراحية خطيرة استأصل بها الرصاصة الملاصقة لدماغه بنجاح ، و بقي فاقدا للنطق فترة طويلة بعدها .
و تدخل أستاذ الأدب الفرنسي في المدرسة " المسيو غولمييه" ، و جمع بعض الطلاب و أوضح لهم أن الفرنسيين سيدخلون المدرسة بالمصفحات ، و نصحهم بالتوقف عن رمي الأحجار فلم يستجب له الطلاب .
و تضاعفت قوة العسكر فلم نتمكن من مجابهة الرصاص و الهراوات ، فتراجعنا إلى داخل المدرسة ، و أغلقنا الباب الخارجي ، و رحنا نقذف القوة العسكرية بالحجارة من خلف سياج المدرسة الحديدي .
و لما أدركنا أن الرصاص قد يصيبنا، إذ رأينا بأم العين الضباط الفرنسيين يمدون أيديهم من خلال أعمدة السياج الحديدي ، و يطلقون الرصاص علينا صعدنا إلى الأسطحة ، و كنت مع الصاعدين إلى السطح المطل على بيت " الجنرال" الحاكم العسكري المجاور لمدرستنا ، و من هناك كنا نلقي الحجارة التي كان يحملها على رأسه أستاذنا المرحوم عبد الجبار أبو الشامات و أستاذنا المرحوم وهبي الحريري .
حتى إذا تمكنت من إسقاط حجر كبير مرّ بجانب كتف " الكوماندان كورديي" قائد الدرك الفرنسي المحتمي في ظل أسفل الجدار ، و لم تمس رأسه بسبب تحركه ، رفع رأسه إلى الأعلى ليرى مصدر الحجر فشاهدني، و قد صاح أحد رجال الشرطة السوريين و الذي أعرفه سابقاً من مخفر باب الفرج يقول : " هاهو صاحب الصدرية الحمراء " فأدركت خطورة ما فعلت ،إذ لم يبق بين الحجر و بين رأس المقدم الفرنسي إلا بضع سنتمترات ، فكادت تودي بحياته .
فرجعت عن حافة السطح متوارياً ، و نصحني زميلي بخلع الصدرية الحمراء فخلعتها ، و تركتها على السطح ، و هرعت نازلا من السطح إلى باحة المدرسة لأشارك في رمي الحجارة من خلف السياج .
و أذكر ان صديقي محمد السيد كان أحد رماة المقلاع من على سطح المدرسة باتجاه الدرك ، و جُرح الكثير من رجال الدرك من ضرب المقاليع ، و قام موجه الطلبة المرحوم عمر بكور السيد ( صار قاض لاحقا ) بإخفائه في مستوصف المدرسة إلى جانب المرضى بعدما طالب به الفرنسيون .
و اجتاحت مصفحة فرنسية الباب الخارجي للمدرسة ، و معها الضابطين الفرنسيين " موريتي " و الضابط " حصيرة" كما كان يسميه أهل حلب و لا أعرف اسمه الفرنسي ، و خلفها الدرك الفرنسي ، و أخذوا بضرب الطلاب بأعقاب البنادق ، و تصدى لهم أستاذ الأدب العربي المرحوم الشيخ الجليل طاهر الكيالي ، فضربوه و سقطت عمامته على الأرض ، بعدما صرخ بوجه الفرنسيين بالفرنسية ...( أيها القتلة) ، و كان معه الدكتور شكيب الجابري أستاذ الكيمياء ، و داخل الباب كان إلى جانب الطلبة الأستاذ غفريل كحالة أستاذ اللغة الفرنسية و الأستاذ ثابت عريس أستاذ الأدب الفرنسي ( السفير و الوزير اللاحق ) ، و معهم أستاذ مادتي الفرنسي و الإنكليزي اسعد محفل.
و تراجع الطلبة خشية التعرض للضرب بالهراوات و الرصاص و إلقاء القبض عليهم ، فدخلنا إلى القسم الداخلي من بناء المدرسة ، و أغلقنا الباب الحديدي الكبير الداخلي و لجأنا إلى غرف الدراسة.
و بقي زميل صفي المرحوم " وجيه لبنية " خارج الباب يرفض الدخول مثابراً على قتال الجنود رغم كونه معاقا في سيره ، و رغم نصيحة أستاذنا المرحوم " داود صليبا " له بالدخول قبل إقفال الباب ، فأوسعوه ضربا و سقط أرضاً ، و طار طربوشه بعيداً .
واستمرت المعركة ، و سقط أستاذنا المرحوم شكيب الجابري محطم الجبهة ، فنقل إلى مستشفى الطبيب المرحوم الدكتور خالص الجابري ، الذي استأصل الشظايا العظمية المستقرة تحت عظام جبهته بالقرب من دماغه بنجاح.
و أقنع مستشار المعارف غولمييه مدير المدرسة هاشم الفصيح بفتح الباب الداخلي أمام الفرنسيين الذين تعهدوا بأنهم لن يؤذوا الطلبة ، و خُدع المدير ، ففتح الباب بما أسميناه خيانة وطنية ، و دخل الجنود مع المقدم و الضابطين الفرنسيين ، فتصدى لهم أستاذنا المرحوم وهبي الحريري و راح يؤنبهم و يذكرهم بالتبجح بثورتهم الفرنسية ، فما هم إلا كاذبين ، فجره المقدم من رقبته و أصعده إلى السيارة العسكرية ناقلة الجنود التي استقرت و ظهرها قبالة الباب الداخلي لحشرها بالمعتقلين من الطلاب ، الذين كانوا ينتقونهم من داخل صفوف الدراسة التي التجأوا إليها عشوائياً .
و هنا تدخل المستشار الفرنسي غولمييه ، و أفهم المقدم أن هذا الرجل أستاذ في المدرسة و لا يجوز اعتقاله ، فأنزلوه قبل انطلاق السيارة .
وكان في جملة المعتقلين أخي المرحوم عبد الرحمن الكواكبي ( الذي صار وزيراً للأوقاف لاحقا في وزارتين و المسمى على اسم جدي عبد الرحمن الكواكبي ) ، لكنهم أنزلوه أيضا مع الأستاذ الحريري إذ وجده الضابط صغير السن ??.
و راح الشرطة يفتشون عن صاحب الصدرية الحمراء التي وجدوها ملقاة على السطح أثناء تفتيشهم ، في وقت كنت فيه قد تمكنت من تمويه مظهري إذ سرحت شعري و بللته بالماء و مسحت حذائي بالماء أيضاً ، و استعرت سترة من أحد رفاقي فكانت تلفني كالعباءة !
و التجأت إلى صف التلامذة الكبار بالسن ، اعتقاداً مني بأن الجنود يخشون من اقتحام غرفتهم ، و جلست القرفصاء في زاوية شباك الغرفة.
فلما دخل الضابط " موريتي " مع شرطي سوري أعرفه من أسرة تسكن بحي السويقة ، غرفة صف التلاميذ الكبار ، صاح به الشرطي : يا سيدي النقيب ، هنا الزعماء.
فانهال عليهم الضابط " موريتي" قرعاً بالهراوة و اللكمات على وجوههم ،حتى أنني لم أتمالك نفسي من الصياح ، حينما شاهدت لكمة على وجه زميل لنا شركسي فوق عينيه حطمت نظارته .
ثم أمر الجميع بالخروج لاقتيادهم إلى السيارة ، فنزلت من الشباك فطردني النقيب قائلا : أنت صغير ، اقعد مكانك .
و لم يدرك و الحمد لله أنني صاحب الصدرية الحمراء ?.
و تابع الجنود ضربهم و ركلهم للطلاب غير مكترثين بجراح بعضهم ، و أذكر منهم مصطفى رام حمداني ( محافظ حمص لاحقا ) و أمين الحافظ ( رئيس الدولة لاحقا) ، و المرحوم الأديب حسيب الكيالي ، و المرحوم عبد اللطيف سليلو ( مقدم طيار لاحقا ) ، و المرحوم غالب بلانه ( القاضي لاحقا ) ، و المرحوم عبد السلام عويدان (سكرتير أمين عام الجامعة العربية لاحقا)، و المحامي مظهر العنبري ( وزير العدل لاحقا ) ، و أخي إياد الكواكبي ( مدير الجمارك لاحقا ) ، و سليمان محمود ( العقيد في الجيش لاحقا ) ، و المرحوم ثابت المدلجي ( أحد المحامين الكبار في حلب لاحقا ) ، و عبد الرحمن حميدة ( عميد كلية الآداب لاحقا ) و المرحوم صدقي اسماعيل ( الأديب الكاتب و الشاعر و صاحب جريدة الكلب لاحقا ) ، و المرحوم ضياء الدين إبراهيم باشا ( الذي أصبح قاضياً و محامياً لاحقا ) ، و محمود رستم ( المهندس الكيميائي الأستاذ في الجامعة لاحقا ) ، و شقيقه المرحوم محمد رستم ، و عبد الله جسومة ( الضابط و محافظ اللاذقية لاحقا) ، و هؤلاء بعض من رفاق صفي و رفاقي الذين اشتركوا في المعركة .
و بنتيجة التفتيش اعتقل حوالي ثلاثين طالبا ، و نقلوا إلى خان استانبول و هو السجن العسكري حينها في السويقة و أُخلي سبيلهم بعد أيام .
حتى حل المساء ، فأعلنوا في مآذن المساجد أن من له ولد في المدرسة فليأت ليكفله بألا يعود لمثلها ، و يخرجه من المدرسة و إلاّ سيظل سجينا فيها .
و لم يقبل والدي رحمه الله بكفالتي أنا و أخي ، أن لا نعود إلى الشغب معتبرا أن ما فعلناه واجب وطني ، رغم رجاء خالي المرحوم الدكتور عمر الجابري ، فاضطر هذا إلى المجيء إلى المدرسة عند حلول الظلام ، و التوقيع على كفالتنا و إخراجنا .
و أغلق المندوب الفرنسي المدرسة ، و أمرت إدارة المدرسة بطرد مجموعة من الطلاب لمدة خمسة عشر يوما ، فكنت من جملتهم , و أرسل مدير المدرسة كتابا للمرحوم والدي يعلمه بذلك و ينصحه بتهذيب سلوكي .
و رد عليه والدي محتجاً و أعلن موافقته على مشاركتي في المظاهرات الوطنية ،إلا أن إدارة المدرسة لم تجرؤ على طردي مرة أخرى ، لا أنا و لا أي من زملائي.
و بعد اثنين وستين عاما من ذكرى تلك المعركة صادف التاريخ يوم الأحد التاسع من آذار ، فرحت أدعو من بقي حياً من رفاق مدرستي للاحتفال بهذه الذكرى ،بزيارة لمدرسة التجهيز ، ثانوية المأمون حالياً ، و اتصلت مع مصطفى النعساني ( رئيس دائرة متقاعد ببلدية حلب) ،و عبد الهادي ناشد ( مدير مدرسة متقاعد ) ،و محمد السيد ( أمين عام غرفة التجارة العربية اليونانية و مندوب الجامعة العربية في أثينا ) ،و أخي إياد الكواكبي (مدير متقاعد للجمارك ) ، و قدري الجزماتي ( المحامي و التاجر ) ، و عمر الكركوكي ( القاضي المتقاعد ) ، و الدكتور مصطفى الحريري ( الطبيب المعروف ) ،و المهندس محمود رستم ، و يحيى رائف ( المدير المعاون المتقاعد بالشؤون الإجتماعية ) ،و الأستاذ صلاح الدين الخطيب ( قائد الكشافة و مدير المكتبة الوطنية ) و اخي المرحوم عبد الرحمن الكواكبي ( الوزير لاحقا ) ، و ذهبنا جميعاّ و منا القاضي و المحامي و الطبيب و التاجر و المهندس و الوزير ، وكلهم متقاعدون ، و رحنا نتجول في زوايا المدرسة و نتذكر المعركة و نَصِفها للأساتذة و الطلاب الذين كانوا ينصتون إلينا بشغف كبير ، و هم ينظرون إلى الشهيد الحي " مصطفى النعساني " فيريهم مكان الرصاصة في جمجمته .
فلما دخلنا صف الشهادة الثانوية تقدمت لألقي كلمة على الطلاب فشرقت بالدمع ، و لم أتمكن من المتابعة ، فأسعفني زميلي الأستاذ محمد السيد .
و أكدنا للطلاب أن هذه المعركة كانت الخميرة الصالحة لجلاء الفرنسيين يوم الجلاء الأكبر 17 نيسان 1945 ، حيث جرى أول احتفال بذكراه في العام التالي 1946 و خرج الضباط السوريون في الاستعراض الكبير فوق المصفحات الفرنسية التي استولوا عليها عنوة من الجيش الفرنسي قبيل الجلاء .
فكان هذا العيد هو العيد الوطني الثاني بعد عيد 8 آذار 1920 يوم التخلص من الاستعمار العثماني و استقلال سورية العربية .
و قد نظمت - بمناسبة زيارتنا هذه القصيدة التالية :
ذكرى وقعة الأحد 9 آذار 1941 في مدرسة التجهيز بحلب مع الجيش الفرنسي
يا معهداً للصبا هيجت بي شجني
ذكّرتني عِشرةً بانوا فيا أسفي
لهفي على ملعب لهوت في روضه
طفقت ألمس جدرانا له انطلَقَتْ
أيام عهد نِضالٍ ضد مستعمرٍ
يا يوم تاسعِ آذارٍ شمختَ بنا
نُحَدِّثُ الوِلْدَ و الأحفادَ عن وقعةٍ
في ذلك البوم أطفالَ الحجارة كنـ
و حقدها حقد عبدٍ السوء سادَتُه الـ
حصىً تجابه ناراً كان يأمرها
و الجابريُّ شكيبٌ كان أستاذنا
و مصطفى آلُ نعسانيِّ من صفنا
نالا رصاصا و تحطيماً بجمجمةٍ
كذا الحريري وهبيي بات مستنفِراً
ثلاثة من أساتيذ البلاد قضوا
ألا اذكروا أيها الطلاب أيامنا
أنا الذي كنت تلميذا و أستاذا هنا
ذكَّرتَني ما مضى من سالف الزمن
و لهْف نفسي على الأيام وا حََزَني
و اليوم زرته مع أحياء من زمني
و حدَّثَتنيَ عن مصارعِ الوطن
سعى إلى قهرنا بسائر المِحَنِ
فكيف ننساك و الأرواح في البدن
عنها التذكر لم يمح و لم يبن
ـا و سلاح فرنسا باهظ الثمن
ـألمان داسوا على شعاره الأسِن
مقدَّمٌ" كوردِيي" من منبت نتن
يرمي الحجارة في العراك لم يهن
مشارك في النضال و البلا الحسن
و صارعا ميتةً بالله لم تحِن
طلابَه و أبو الشامات ، بالعلن
بعد الجلاء و كلّ بالـثناء غني
فقد سطرْت لكم تاريخَنا الوطني
يا فخر معهدنا لآخر الزمن
سعد زغلول الكواكبي