قراءة نقدية في ديوان مجمع الأهواء للشاعر أحمد العمراوي
"ما العالم في نفسه فليس إلا خيالا وحلما يجب تأويله لفهم حقيقته"
ابن عربي، فصوص الحكم , ص 27
المعنى
الشعر والمعنى
في الشعر سر لا يدركه إلا الشعراء لذ اعتبر الصوفية الشاعر مصنوعا على
عين لله.....جسمه في الأرض وقلبه في السماء يتسقط أخبار العالم العلوي
الذي يمده بوضمات إلهية بها يكون شعره نارا تهجم على الأفئدة بغير حجاب
.
والشاعر مؤتلف مع ذاته، بعيد عن تعقيدات الحياة .." وفطرة ...وجوهرة
قبل الصياغة ..وهو طفل كبير، أمه الحقيقية, وكعبته آمل خضر يشده إليها
حنين روحاني غامض .. وهو مكبل بتناقضات المادة والروح ..همه التعبير
عما يحس به، وغايته إرضاء نزعة النفس فيه ..وهو معيار الحقيقة، ونجم
يضيء ويهدي السائرين إلى الاتجاه الصحيح، والصراط الذي مده الله لعباده
الذين اصطفى
وما علم الشعر الذي يدعون إليه إلا صفات لن تنال من الشعر إلا ما
يظهره، أما سره فلن يستجيب للعلم لأنه لا يستقر على حال، وبذلك فإن
العلوم تنتهي عند عتبة الشعر لأنها علوم لا تدرك أن الشعر مجالسة، وذكر
وتذكر،حيث الجليس لا يستأذن ولا يستجير وإنما يرى كيف يعيد الشاعر
تشكيل الكلمات والأشياء : نارا ونورا، هما ووهما، ائتلافا واختلافا
.فمن دخل حضرة الشعر بالعلم عاد من حيث أتى، ومن قصده للمجالسة خرج
الشعر إليه وأدخله حضرته التي يمحي فيها العلم ويحترق العلماء بنار
الشعر، وهي نار محرقة ولكنها في الوقت نفسه نور، يقول هيدجر :" إن
الإنارة لا تقتصر على إضاءة الكائن، وإنما هي قبل ذلك تجمعه وتؤمنه في
الكينونة ...إن الآلهة والبشر لا يستضيئون فحسب بنور معين ..إن النور
يغمر ماهيتهم لأنهم مستنيرون أي مجموعون في حدث الإنارة . ولهذا السبب
فهم لا يحجبون أبدا بل يكشفون " وبذلك فإن في الشعر سرا لا تراه ولو
كان هذا السر مكشوفا ما طلب الشعر إلى الآن وما كان له عباد يستعظمونه
بهذا الفهم للشعر تندرج تجربة الشاعر المغربي أحمد العمراوي في ديوانه
" مجمع الأهواء " خاصة في النصوص الشعرية الآتية : شطحة - ريح الضوء -
مجمع الأهواء - أنا الآخر....وغيرها من النصوص؟ وهي نصوص تمتح في جزء
كبير منها من المتخيل الصوفي الإسلامي خاصة عند ابن عربي والنفري
والبوني وجلال الدين الرومي والقشيري وغيرهم جاعلا بذلك من الشعر مقام
إشارة حيث لا يدرك المعنى إلا بالتماهي والمجاهدة والمكاشفة والمحو
والتقلب، فهو لا يأتيك وإنما ترحل إليه، وعندما أقول إنه يمتح من
التجربة الصوفية فهذا لا يعني أنه يشحن النصوص الشعرية بالمعتقدات
الدينية بل إننا ننظر إلى هذه التجربة على مستوى الكتابة الشعرية
بوصفها تعكس رؤية غنية وتولد أسئلة تكشف عن العالم الخفي للإنسان
واللغة والوجود دون أن تتقيد بمعايير محددة أو تخضع لنظرية جمالية ما .
ونسعى من خلال هذه المقاربة النقدية إلى الوقوف على الحضور الصوفي في
العديد من نصوص ديوان "مجمع الأهواء " ليس بمعناه الديني التقليدي،
وإنما باعتباره تجربة جمالية في الكتابة تسعى إليه توسيع حدود الشعر
دون أن تقيده لأن هذه النصوص تجليات تتعذر الإحاطة بها واستنفاذها لذا
فما نقدمه من قراءة نعتبره إضاءة نحاول من خلالها الإنصات إلي هذه
النصوص عبر البحث والكشف والسفر في الحب والرؤيا الشطح والمعمار النصي
الحب والمكان
في الحب لذة لا لذة قبلها ولا بعدها لذلك اقترن الحب بالقلب لأنه يتقلب
مع أحوال المحبيين ولا يسمى الحب حبا إلا إذا أسكر صاحبه عن كل شيء إلا
عن محبوبه، والمحبة كما يقول ابن عربي مقامها شريف، وهي أصل الوجود،(3)
وترتبط بالقبول والرضى ورفع الكلفة، قال ابن عربي ( ترجمان الأشواق
وذخائره الأعلاق)
أدين بدبن الحب أنى توجهت ركائبه فالدين ديني وإيماني.
والمحبة عند العلماء بها والمتكلمين فيها من الأمور التي لا تحد،
فيعرفها من قامت به ومن كانت صفته، ولا يعرف ما هي، ولا يفكر وجودها،
ومن حد الحب ما عرفه، ومن لم يذقه شربا ما عرفه، ومن قال رويت منه ما
عرفه، والحب درجات ومراتب : إلهي وروحاني وطبيعي، ولمقام المحبة أربعة
ألقاب : الهوى والحب والود والعشق. وقد ارتبط ديوان الشاعر أحمد
العمراوي بالأهواء بدءا بعنوان الديوان : " مجمع الأهواء " حيث يحيل
لفظ المجمع على المكان والملتقى أي مكان التقاء الأهواء والجمع بينهما
حتى لا تتفرق وفي ذلك رغبة للقبض على هذا المقام خاصة وأنه مقام عظيم
فهو يشكل أول خطوة للوصول إلى اليقين أي حضرة الجمال المطلق ومنه مجمع
البحرين، أي ملتقاهما في قوله تعالى " إذ قال موسى لفتاة لا أبرح حتى
أبلغ مجمع البحرين " أي ملتقاهما، ويكون المجمع اسما للناس وللموضع
الذي يجتمعون فيه ( 4) وقد ربطه الشاعر بالأهواء أي بالميل والعشق
والقلب جاعلا منه مأوى الجمع وفي ذلك دعوة إلى المجاهدة والمكاشفة
وإشارة إلى ما يقذف في القلب من حب وعشق ومعرفة ( 5 ) ، فإذا أحب العبد
جعل قلبه لا عقله مجمع أهواء، فيكون بذلك جامعا لأول مرتبة من مراتب
الحب (الهوى ) حيث لا تتفرق أهواؤه، وإنما يجمعها لتصبح معبرة عن حاله،
فالهوى هو سقوط الحب في المحب، ويختلف الناس في هذا المقام بحسب تباين
أحوالهم ودرجة هواهم، فقد رأى بعضهم مجنون بني عامر في هذا المقام،
فقال ما فعل الله تعالى بك ؟ فقال : غفر لي وجعلني حجة المحبين .
ويستهل الشاعر أحمد العمراوي نص « مجمع الأهواء» (ص 52 - 58 ) ببيتين
شعريين للشاعر محمد الكتاني :
تفردت بي عيني بمهمه مهمه فما تم غيري ظاهـر في أنيتي
أنا كل كل الكل طلسم طلسم بذاتي خلت ذاتي بكاسات خمرتي
وكأن هذا النص يهيئنا لدخول مغامرة القراءة والتأويل من باب التخيل
والحب والسكر : فالقلب سراديب / والجسد يحترق / والغموض يلف / والتاريخ
الشخصي يلغى / والظل يتناسل / والطريق أعوزها السير....
ولا يجد إلا التساؤل: ( ص 54 )
هل افتراش الأرض بحدآت تتصايح
أم أترك الريح تهد أشلاء العالم ؟
هل أرتمي حجرا مدرعا بد موع أم أرفع شهقة العراف ؟
والركون إلى الظل، وهو: ظل يتناسل ويأخذ شكل النبوة والحب يقول الشاعر
: (ص55)
ظل يتناسل في ظلال
يأخذ شكل النبوة والحب
أواه حبي
دخولي تناثر على موج مقوس
طريقي أعوزها السير
كما أنه ظل يتداخل مع الحرية والجسد والمكان (ص56)
ظل يأخذ شكل الحرية،
جسد كنود أحرقه اشتهاؤه.
هل بالإذلال يحب الحب ؟
ظل سانح يهئ المراكب
يقد مها قربانا للسان الدين
فاس ،
ظل يبتعد عن موضوعه
ولود تطل من نافدتها على الله
إنه سقوط في حب المكان ( فاس ) فهي: " مجمع الأهواء "، حب يحير ويتلف
ويعمي عن كل شئ إلا عن حبها، فالأهواء هنا تعلو بعلو " فاس " وتتلد بها
لأنها مكان الابتلاء إن اختيار الشاعر نص " مجمع الأهواء " عنوانا
للديوان غرضه الارتباط بالحب الأسمى الذي لا يتغير أي حب المكان. والذي
أوقد نار الشعر في قلب الشاعر ولزمه حتى أصبح صفة من صفاته، ومتى ارتبط
الشعر بالحب فإنه لا يتعلق بأي شيء إلا بالحيرة والدهشة والتجلي، لذا
فإن لحظة كتابة الشعر هي لحظة انخطاف . والمكان الذي يرتبط به الشاعر
هو المكان الذي يمارس فيه - على حد تعبير باشلار - أحلام اليقظة لأنه
يشكل خياله، لذا فهو لا يستخدم في بعده الهندسي وإنما كحلم لا يتنهي،
إنه مكان الألفة الذي يبعث في الشاعر إحساسا ذاتيا لذا يقدمه بصور
متفرقة ومختلفة وفي الحالتين معا فإنه ينجذب إليه، لذا فإن المكان في
هذا النص - فاس - ليس شيئا عاديا أو صورة مقحمة في النص، وإنما المكان
كما يقول الشاعر، ص 56
ظل يبتعد عن موضوعه
الرؤيا ورمزية الحرف
الرؤيا انتقال من ظاهر الأشياء إلى باطنها، وهي جزء من النبوة، ولا
تكون إلا في حال النوم، والرؤيا متى حصلت فهي صادقة، وإنما المعبر عنها
هو الذي يحار في تأويلها، وينسب الشعر إلى الرؤيا لأنها مكان التجليات،
ففي هذا المقام تأخذ المعاني صورها كما يقول ابن عربي. وتتفاعل نصوص
ديوان " مجمع الأهواء " مع الواقع المرئي وتحوله إلى رؤيا شعرية جامعة،
والرؤيا هنا سفر دائم في الذات، وهذا ما يعطي للغة مجالا أوسع للاتصال
الحميمي بالأشياء عبر الإشارة والرمز والإيحاد . يقول الشاعر : (ص 11
و12)
ريح تروض خمر مسائي
ببرزخ حرف
بأسماء أخرى تهيمن:
ألف ? لذات
نون ? لنفس
سين ? لطير
هاء ? لنبت
تتكدس في العقل روح نبي
طوى ظلمه السوط
وقلب أوراقه
إنها رؤيا صوفية تحفر في الدلالات الرمزية للحروف لتكشف عن معانيها
الخفية وعيا من الشاعر أن الحروف مراتب ودرجات ولها أدبا خاصا لا بد من
الوقوف عنده لأنها تمكن من معرفة العلم والعالم والمعلوم، فالحروف كما
أشار الشاعر ببرزخ، والبرزخ عند الصوفية هو عالم المعقولات أو المعاني،
وهو أبدي لأنه خيال الخيال، وبذلك يتبين أن الحروف ستار علينا أن
نخرقها لنرى ما وراءها لأنها أول المخلوقات ويتعمق البعد الرمزي للحروف
حين يستلهم الشاعر أحمد العمراوي رؤية ابن عربي العميقة للحروف
وعلاقتها بأصل الوجود . يقول الشاعر: ( ص 23 )
من الحروف الرطب واليابس
ومنها الحار والبارد
والحروف أمم لها أنبياؤها
الرؤيا جزء من النبوة
والرائي نبي
ويقول ابن عربي ::.. فلما أوجد هذه الصور التي هي الماء والنار والهواء
والأرض وجعلها سبحانه يستحيل بعضها إلى بعض فيعود النار هواء والهواء
نارا كما تقلب التاء طاء والسين صادا لأن الفلك الذي وجدت عنه الأمهات
الأول عنها وجدت هذه الحروف وبذلك فإنه يضع القارئ أمام لغة مبتكرة
ومتجددة تمكنه من التواصل مع أسرار الحروف والوقوف عند أبعادها، وهذا
أمر لن يتحقق إلا بالمجاهدة ليدرك القارئ ما أدركه الشاعر بالرؤيا ثم
يعمق الشاعر رمزية الحروف حين يقف خاصة عند حرف " النون " ليحفر في
الحركة العميقة التي تكمن وراء هذا الحرف / السر، فهو عتبة تقود إلى
معاني حفية حيث يشكل نظاما إشاريا خاصا وفيضا من المعاني ( 53 )
نــون :
زمردة تستعصي
خروج يستعصي
[ وأنت أيتها الاشارة
وصلك بوح يزهو
ليل عرش على أحشائي
نــون :
فيض جلاء
نكاح ساري
مشكاة في ظلمة / نور في ظلمة
والوجد يقلق.
ظل يبوح
إنه بهذا الحفر في دلالات الحروف يستلهم التجربة الصوفية التي ترى في
فك رمزية اللغة كشفا لسر الوجود والإنسان، ذلك أن لكل حرف معنى ظاهر
ومعنى باطن، والمعنى الباطن يجهله أهل الظاهر لأنه لا يدرك إلا بالكشف
وفي هذا السياق يقول ابن عربي : " إن الحروف أمة من الأمم مخاطبون
ومكلفون، وفيهم رسل من جنسهم، ولهم أسماء من حيث هم، ولا يعرف هذا إلا
أهل الكشف .( 7 ).وعالم الحروف أفصح العالم لسانا وأوضحه بيانا .. يقول
الشاعر ( ص11):
ألف ? لذات
نون ? لنفس
سين ? لطير
هاء ? لنبت
إن المراهنة على رمزية هذه الحروف هو رغبة في تجدد الدلالة وولادة
معاني أخرى، فالحروف هنا ليس لها معنى جاهز ومتداول كما هو الحال في
اللغة العادية، لأنها تكشف عن شيء آخر مختلف عن المعهود، فالألف تحيل
على الذات، والنون على النفس، والسين على الطير، والهاء على النبت،
وبذلك فإنها تتقاطع مع الدلالات الرمزية الكبرى التي حددها الصوفية
لهذه الحروف : فالألف : تفعل في الخلق بإذنه . والنون : قسم الله وهي
من عالم الملك والجبروت والسين استواء على عرش الوجود، والهاء : نسيج
فمن الهو ومرورا بالهو وانتهاء بالهو لا نجد سوى الهاء ( 8 )
إن الشاعر أحمد العمراوي بهذا الانفتاح على التجربة الصوفية والسفر في
رمزية الحروف يوسع جمالية اللغة ويخلصها من غربتها ويعطيها مجالا أوسع
لتكشف عن أشياء جديدة وبذلك فإنه اختار أن يراهن على المغايرة
والاختلاف وتكسير منطق العقل . يقول الشاعر ( ص 23 )
العقل جحيم
يؤله بوصلة الجسد
وبالمقابل يتبنى الرؤيا القلبية الواردة في قوله تعالى " إني أرى ما لا
ترون " وحين يربط الشعر بالرؤيا القلبية والحلم فكأنه يريد أن يقبض على
حقيقة الشعر التي لا يمكن حدها . يقول : ( ص.20 )
يتكلم الكلام برؤى تحلم
والشعر رؤيا
الشعر حلم .
ويقول : (ص21 ):
[ والشاعر من صلب الرؤيا ]
ويقول : ( ص 23 )
الرؤيا جزء من النبوة
والرائي نبي
إن الرؤيا هنا سر وسفر ورحلة إلى الأصل لأنها مشروطة بالخيال حتى يصل
صاحبها إلى الذوق، وهو ما يسعى الشاعر إلى الوصول إليه عبر عمق الإحساس
وجمالية اللغة، فالرؤيا عند الشاعر ليست تغييرا في نظام الأشياء واللغة
كما يقول أدونيس وإنما الرؤيا هنا تنبني على التأمل والمكابدة حيث
يكتشف القارئ أن ما ألفه على مستوى الرؤية في صورة أخرى مغايرة لأن
الرؤيا عند الشاعر أحمد العمراوي تخترق الحس إلى الحلم ليمارس إسراءه
الخاص عبر اللغة كما في نص ( شطحة ص 37 ) وفي نص إسراء ( ص 67 ). يقول
الشاعر : ( ص38 )
سائرا
ثملا
بخمر شعابها
يترنح السموات بالأحضان
ويشذب القمر
الهلامي
في شمس غموض
وحين تنتهي الرؤيا / الحلم ينتهي النص الشعري ( كهوف : ص 15 - 25 )،
يقول الشاعر في المقطع الأخير من النص (ص25)
من طيلسان الشهوة
حين يطول
تضحك
حين ينام الخلق،
وتحذر من ديناصورات
قد تفتك بالحلم
بالرؤيا
معا .
الشطح وشفافية اللغة
الشطح كما يقول الصوفية محاولة لوصف ما لا يوصف، وهو حال قصير الأمد،
ويقع عند الأخذ، ثم يرد صاحبه إلى وعيه فيستغفر مما بدا منه في حال
أخذه وغيابه، ولحظة الشطح، لحظة تتحول فيها اللغة إلى مجرد وسيلة لنقل
ما يعبر عنه الجسد من حالات، هذا الجسد يتحول من لحظة إلى أخرى وكأنه
فيض دائم، يقول الشاعر : ( ص37 )
لا وقت للوقت
لا لون للون
لا شكل للكلمات
وأنت أنت
وأنا أنت
وشتت النقط الدقيقة
إنها إذن لحظة الانخطاف والمكاشفة، لحظة الامتداد في المجهول حيث تصبح
(الأنا ) في لحظة الشطح (أنت) أو (لا أنا) :" أناه أنا " متجاوزا بذلك
ثنائية الذات والموضوع كاشفا في الآن نفسه عن تجربة تقوم على شاعرية
التماهي مع الأشياء، وتتبع نص (شطحة) يكشف عن هذه الحقيقة، فهو لا يصف
الأشياء كما هي، وإنما يحاول أن يلتقطها ويعيد بناءها ليقلب نظام
المعنى، فهذا النص تمليه الذات وهي تعيش نشوة الحلم والتقلب، وكلما
شعرنا أننا نقبض عن المعنى وإلا انفلت منا لأنه يعيش بدوره لحظة الفيض
بين الأنا والأنت ( ص 37 ) حيث الحدود بين الكلمات والأشياء واهية،
يقول الشاعر (ص28):
يصعب الفصل بين
الكلمات والأشياء
وتبدوالحدود واهية
قاسية
وكأنه الأزل
يصنع جلابيبه مفصلة
حد الموت.
وهذا الحوار " نفسه ليس إلا حالا، وبوصفه كذلك لا يمكن أن يتأسس، إنه
حال يتحول لا من شخص إلى آخر إذ لكل شخص أحواله، وإنما يتحول داخل
الشخص نفسه بين لحظة وأخرى " ( 9 ) وهو حين يخلق هذا الحوار بين الأنا
والأنت فإنه يتماهي مع كل الذوات ليخلق منها ذاتا واحدة تعيش اللحظة،
وهي لحظة الزمن الحاضر (الآن) كما تعكس ذلك الأفعال الموظفة في نص «
شطحة « ( ص 38 ) مثلا، وفي غيره من النصوص : تتجلى - يتربع - تكفكف -
يمتد - يدخل - يترنح - يشذب ...مستلهما قول أبي علي الدقاق : " الوقت
ما أنت فيه " والوقت هنا ما بين الزمانيين : الماضي والمستقبل، فهو
منشغل بالذي هو فيه، وهذه الآنية هي العلاقة بين الأنا والأنت
وتصل الذات في هذا المقام إلى حالات تعجز اللغة عن نقلها بحيث تترك
للقارئ هامشا ليعبر بصيغة المتكلم عن حاله من خلال لحظات عديدة منها :
لحظة الصمت:
يقول الشاعر :( ص 19و 20 )
من يسمع من... ؟
من يبصر من ...؟
من يهمس ....؟
من ..... ؟
إنه صمت اللغة عبر الهوامش التي يتركها الشاعر ( النقط، الفواصل،
علامات الاستفهام، البيضات ...) الصفحات: (54.59.67.79 ) نعتبره من
آداب الحضرة وأخلاق الكتابة الشعرية خاصة وأنه صمت أتى بعد كلام ليترك
وقع القول لمن يريد كشف سر الشعر عبر ممارسة لعبة التأويل .
لحظة الحزن :
يقول الشاعر: ( ص 21 و 22 )
القلب إذا لم يحزن خرب
كما البيت إذا لم يسكن خرب .
وبين الخرابة والاعتمار
حدود واهية
كالفاصل بين الحزن والسكون
على متاهة القلب والبيت
وهي لحظة تعبر عن انقباض القلب، ويفهم منها أن اللغة تمر حينها بمرحلة
عسيرة فمهما عبرت فإنها لن تكشف عمق العلاقة بين الأنا والأنت أو بين (
الأنا والأنا )، والحزن بهذا المعنى حيرة دائمة تسكن الذات لذا جاء في
الخبر أن الله تعالى يحب كل قلب حزين، وقال أبوسعيد القرشي :" بكاء
الحزن يعمي وبكاء الشوق يغشي البصر ولا يعمي " ( 10 ) وسئل أبوعثمان
الحيري يوما عن الحزن فقال : الحزين لا يتفرغ إلى سؤال الحزين، فاجتهد
في الطلب، ثم سل )
بناء على ما سبق نقول إن لحظة الشطح هي لحظة تتحول فيها الكتابة إلى
مكاشفة لأنها كتابة تمليها التجربة الذاتية للشاعر المبنية على الذوق "
فليس من ذاق كمن لم يذوق " لينقل لنا ما بأعماق الذات لنعاين كل تقلبات
الجسد ونحاوره حوارا مباشرا عبر لغة تقوم على إزالة الحجب بين الأنا
والأنت، فهي أشبه ما تكون بمرآة مصقولة تجعل من الأنا آخر (11 ) حيث
يصبح الآخر عين الذات وصورتها، فنحن هنا في مقام «مرآة الحضرتين ( 12 )
والتي تتجاوز فيها المرآة كونها مجرد أداة لإعادة إنتاج صورة الجسد
.لتصبح مرآة لها جذور في أعماق الذات، وتتجدد في كل لحظة لتؤلف بين
الأشياء عبر مبدأ الرؤيا والكشف المستمر .إنها مرآة التجربة الإنسانية
التي تشبه الروح كما عند البوذيين.
فأنا والآخر صورة واحدة أو كما يقول ابن حزم : " كالناظر إليك بعين
غيرك ". وفي هذا السياق يقول أدونيس : " الكتابة الصوفية شأن المعرفة
الصوفية إنما هي تاريخ هذا الوقت، تاريخ العلاقة بين الأنا والأنت، أو
تاريخ حوارها. وهي معرفة لا تنقل، ذلك أنها ليست عقلية بل ذوقية، وكما
أن لكل " ذوقه " فإن لكل معرفته "، معرفة ذات تحرض الآخر لكي تكون له
معرفته، لا يكفي الآخر أن «يقرأ» لكي يعرف، وإنما يجب أن " يعيش " وأن
" يختبر " ( 13 )
المعيار النصي والمعنى
إن غاية الشعر لا تنحصر في رسم الواقع والتعبير عن العادي والمألوف
فهذا مجال ضيق لذا يتجاوزه الشعر إلى اللامرئي، وهنا يأخذ النص الشعري
بعدا آخر أيضا على مستوى المعمار النصي مما يتيح للمتخيل الشعري ابتكار
أشكال جديدة في التعبير تتجاوز الكلمات ( اللغة المألوفة ) والصور
والمرئي إلى اللامرئي، وهذا هو التجلي الذي يكشف الجمالية الصوفية التي
تنحو منحى يعبر عن الأشياء بشكل آخر يتماهى مع باطنها ليكشف دواخلها "
ولا تتم هذه المحاولة إلا بانفعال غامر يرج الجسد حتى نشوة الانخطاف،
هكذا لا يقول الشاعر معنى الأشياء ( نواتها، لانهائيتها ) وإنما يقول
تجربته : النشوة التي ترجة، وانخطاف بالمعنى ولانهايته. المعنى نفسه لا
يقال، ذلك أنه ليس ثابتا، إنما هو حركة دائمة من الولادة والتجدد .
يقول الشاعر : ( ص 8 - 9 )
أصعد ? ?
ينفتح الجوهر المتوهج
في صهو ة الفجر
لأي المسافات تدفعني
أغنياتي ؟
(.....)
لأي انفلات أصوب رؤياي
لما تداخل في حلمي ؟
ويقول في ( ص 18 )
افتح ?
صرخت أعشاب الزيتون
ادخل ?
صاح اللحد الرطب
تمهل ?
قال العقل
تقدم ?
صدحت أنوار الستر
إن هذه العلامات والرموز تبدو مجرد أشكال فارغة خارج سياقها الشعري لذا
فإنها لا تحمل دلالات إلا إذا أدرجناها ضمن شبكة العلاقات النصية التي
تربطها بما قبلها وما بعدها وهذا ما يجعلها تحمل طاقة بداعية يمكن
تسميتها ببلاغة الإيجاز لأن أبعادها الدلالية والتداولية تقوم على
الإيجاز والإشارة والإيماء، يقول الحلاج: " من لم يطلع على إشارتنا لا
تهديه عبارتنا "
إن العلامات والرموز التي يوظفها الشاعر أحمد العمراوي لإعادة تشكيل
النص الشعري تكشف أننا أمام لغة مغايرة تتيح السفر في كينونتها وتجعل
القارئ يشارك في إعادة بناء النص وإنتاجه عبر ما تحمله هذه الرموز من
أحلام وتخيلات وتستدعيه من شطح، لذا فإن الوقوف عندها ليس وقوفا عند
السطح بل امتداد في العمق. إن العلامة الأولى ( ? ) تحيل على الصعود
والثانية ( ? ) تحيل على سلوك مغايرة للأول، وهذا في نظرنا إحالة على
جدلية الإسراء والمعراج والتي تعبر عن اللقاء بين الجسد والروح حيث
يخرج الجسد ( اصعد ) خارج الذات الحسية ليدخل في أعماقها ( ) ويقترن كل
هذا بالرغبة في الحضور الأكمل. يضاف إلى هذه العلامة استثمار الشاعر
للطباعة من خلال كتابة بعض المقاطع الشعرية بخط بارز ( ص 45 )
فكي حنجرتي كي أتناسل في كل الأعشاش
تلفيني فستقا أو رمانا يلطخ الأصابع
بألوان الدفلى، يرج زيزفون الذاكرة
تلقفي تساقط أناملي المبللة باشتهاء
المدى البعيد، وصلابة الاستعلاء الأملس
وكذا :الصفحات :( 54 - 55 - 64 ) وترك فراغات تقوم على ثنائية البياض
والسواد ص :(54 - 59 -67 -81-83- 84 - 85 - 92 )، وتقطيع الكلمة إلى
أحرف (ص58) وص(100) (ص58)
قرار
ق
ر
ا
ر
إن استثمار العنصر البصري في بناء النص يدل على أن هذه العناصر تنتظم
داخل نسق سيميائي ينظمها، مما ينقلنا من الإلقاء إلى القراءة البصرية،
وهنا تتسع النصوص الشعرية فلا تربط بالزمان فقط بل تمتد إلى المجال
المكاني أيضا، ويمكن أن نلمس هذا البعد في العديد من المقاطع الشعرية
فطول وقصر المقاطع ليس موحدا مما يفتح المجال للسواد ليتمدد أو يتقلص :
هو ذا شجر ...
هو ذا
..... حرون
والأماسي تتستر
تسع انتظارا لا يخبو
رأس الحكمة شبق العين ( ص 59 )
وأحيانا يجعل الشاعر كلمة واحدة تحتل سطرا شعريا ( ص 71 )
لست فرحا تماما
ولا حزينا كل الحزن
وإنما
أرتج
كألق مهبول
يلمع خلف ذاته
إن مثل هذه الكتابة كما يقول شربل داغر ( تبلبل أساسا نظاما الكتابة
وتقلب رأسا على عقب مراجعه المعروفة
ونختم هذه القراءة النقدية بالقول : الشعر مكاشفة تتيح للشاعر بلوغ ما
وراء الواقع عبر الحلم والحب والجنون لذلك اعتمدنا مقاربة نقدية مغايرة
لشروط فهم النص الشعري وتأويله. مقاربة تحدث اختلالا بين الدال
والمدلول، والباث والمتلقي، واللغة والواقع، لأن النصوص التي حاولنا
الإنصات إليها ليست نقلا لتجربة معينة، أو نسخا لتصور محدد تمليه مواقف
مرسومة، وإنما هي تجربة شعرية تفتح أفقا أوسع لإدراك الوجود إدراكا
جماليا، وذلك بفعل المرجعية الصوفية التي يمتح منها الشاعر « أحمد
العمراوي» في العديد من نصوص ديوانه « مجمع الأهواء» مما أعطى للغة
مجالا أوسع لتمارس السكر والشطح، وتفتح الطريق لتقديم أشكال سيميائية
في الكتابة الشعرية تحمل طاقة إبداعية تكشف عن لانهائية المعنى. بهذا
الفهم يظل النص الشعري وحدة لا انفصال بينها، وقدرة سارية تفصح عن عالم
محير لا ينتهي، وهو عالم السر، وهذا ما يوصلنا إلى القول بأن جمالية
النص الصوفي تقوم على المجاز، وبما أن المجاز احتمالي، فإنه لا يؤدي
إلى تقديم أي جواب قاطع، وتكمن شعرية المجاز في لامرجعيته، أي في كونه
ابتكار كأنه بداية دائمة، ولا ماضي له، والعلاقة بالأشياء. إنه حركة
نفي للموجود والراهن بحثا عن وجود آخر، فكل مجاز تجاوز: كما أن اللغة
فيه تجوز نفسها، فان الواقع الذي تفصح عنه يجوز نفسه، عبرها، هو أيضا،
وهكذا يوصلنا المجاز للأشياء في بعدها اللامرئي ( 15 ) هكذا النص
الشعري لا يولد إلا مزيدا من الأسئلة لأنه عامل قلق وإقلاق لا عامل
وثوق وطمأنينة.
المراجع المعتمدة:
1- محمد غازي عرابي: النصوص في مصطلحات التصوف، دار قيبة، لبنان، .1985
ص 169
2 - أحمد العمراوي : مجمع الأهواء (شعر)، مطبعة فضالة، المحمدية،
المغرب، الطبعة الأولى. 1997
3- محي الدين بن عربي: الحب والمحبة الإلهية، جمع وتأليف محمود محمود
الغراب، الطبعة الثانية 1992، ص 13 .
4 - ابن منظور : لسان العرب، المجلد 2، دار صادر، بيروت ص 53
5- كمال الدين عبد الرزاق القاشاني : اصطلاحات الصوفية، تحقيق كمال
ابراهيم جعفر، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1987 ص : 212ج 2
6- محي الدين بن عربي: الفتوحات المكية، دار الفكر، لبنان، ج 2 ، 1992
ص 210
7- حسن الشرقاوي : معجم ألفاظ الصوفية، مؤسسة مختار، القاهرة، الطبعة
الثانية، 1992، ص120
8 - محمد غازي عرابي: النصوص في مصطلحات التصوف ص 94 و95
9- أدويس : الصوفية والسريالية، دار الساقي، لبنان، الطبعة الأولى
1992، ص 116
10- عبد الكريم القشيري : الرسالة القشيرية في علم التصرف، تحقيق
واعداد : معروف زريف وعلي عبد المجيد بلطجي، دار الجيل، بيروت، الطبعة
الثانية، ص 140
11- علي أيت أوشان : المرأة : أركيولوجيا الجسد في مجموعة سقط سهوا
مجلة كتابات معاصرة . بيروت، العدد 23، 1994، ص : 67
12- ابن عربي : فصوص الحكم، دار الكتاب العربي، بيروت ، ص 67
13- أدونيس : الصوفية والسريالية، ص 116
14- شربل داغر : الشعرية العربية الحديثة (تحليل نصي)، دار توبقال،
المغرب الطبعة الأولى : 1988، ص : 26
15- أدونيس : الصوفية والسريالية، ص 143 و144
بقلم علي أيت أوشان