آخر الأخبار

مذكرات د. علاء بشير طبيب صدام حسين الخاص(11)

الدجالون

نتيجة لعدم توافر الثقة بالأطباء تحول الطب في العراق إلي مجرد وهم ودجل.

وفي نهاية الثمانينات تلقيت يوما اتصالا هاتفيا من وزير الصحة آنذاك عبد السلام محمد سعيد الذي أبلغني بأن زوج ابنة صدام ووزيره للتصنيع الحربي والمدني حسين كامل المجيد يريد مقابلتي. حين قابلته كان معه قصاصة ورق من صحيفة وشريط فيديو قصير عن دواء ساحر لعلاج السرطان.

وقد قدم المخترع نفسه للرئيس الذي تحمس كل التحمس لاختراعه وقرر تقديم الدعم له، ولذلك فقد حضر إلي حسين كامل.

سحر.. طبي

ويعرض شريط الفيديو كيف يتم شفاء عدد من مرضي السرطان بما يشبه المعجزة بعدما يشربون بعض الأكواب من إكسير الأعشاب الذي أعده المخترع، الذي يقف في مطبخه يحرك الإكسير في قارورات كبيرة.

قال لي الوزير: «يجب أن أصارحك بأنني يساورني الشك في ذلك المُرَكب، ولكن المرضي يبدون في الشريط في حال أفضل بكثير بعدما شربوا من هذا المشروب العجيب الذي يقدمه لهم المخترع».

فأجبته بأنني أعتقد أنه يخلط مشروبه بكمية كبيرة من الكورتيزون، لأن مريض السرطان تتحسن حالته عقب تناوله هذه المادة ولكنها لا تعيق انتشار المرض. ولكي أكون أكثر وضوحا، إنني سأكون حذرا جدا قبل أن أثق بشخص يدعي أنه باحث في مرض السرطان وهو لا يملك مايكروسكوبا واحدا في معمله.

وبعد مضي شهرين افتضح أمر هذا المعالج النصاب الذي تحمس له صدام، فقد كان الجزء الأكبر من مشروبه السحري يتكون من الكورتيزون، ومات معظم مرضاه بعد تصوير الفيديو بفترة وجيزة، كما اتضح أن ذلك المخترع كان قد سُرِّح من الجيش لإصابته بمشكلات نفسية.

اختراع آخر

ولم يكن طبيب الأعشاب ذلك هو الوحيد الذي تمكن من خداع صدام، ففي الفترة نفسها التي كنت أعالج فيها صدام من مسامير الرجل ظهرت صيدلانية، وادعت اختراع مرهم لعلاج الغرغرينا وتريد تجريبه علي مرضانا.

كثير من مرضانا كانوا يعانون من الغرغرينا. ومرض السكر هو من أكثر الأمراض انتشارا في الشرق الأوسط، ومن أهم آثار هذا المرض حدوث تصلب في الأوعية وخصوصا في الساقين، وبسبب ضعف الدورة الدموية تحدث في هذه الأماكن بعض الحروق، حيث يكون الحل الوحيد هو البتر لتجنب انتشار موت الأنسجة الذي يهدد حياة المريض. ولم ترغب الصيدلانية أن تخبرنا بتركيبة المرهم الذي اخترعته، وكانت تدعي قدرتها علي منع انتشار الحالة وتحسين سريان الدورة الدموية بشكل هائل وبالتالي لن نضطر بعدها للبتر ويتم بذلك إنقاذ سيقان كثيرة.

وتردد الحديث وقتها عن أن هذا الكشف هو إعجاز عالمي يستحق جائزة نوبل.

قامت المخترعة بالكتابة لصدام وحكت له عن كشفها العلمي، ورد عليها الرئيس متلطفا: «حسب معلوماتي فإن الكثير من الأفكار الجديدة المتطورة لا تجد لها فرصة بسبب البيروقراطية، وأنا أعتقد أنهم سيحاولون وضع العراقيل في طريقك».

وحضرت إلي مستشفانا ومعها خطاب يؤكد لنا فيه عبد حمود رغبة الرئيس في أن نساعدها بأقصي جهدنا.

فأجبتها إلي طلبها قائلا: «لا مانع من أن تجربي مرهمك علي مرضانا بشرط أن توقعي تعهدا ينص علي تحملك وحدك المسؤولية كاملة عن حالاتهم، فنحن لا نعرف أي شيء عن المكونات الكيميائية لهذا المرهم أو الأعراض الجانبية لاستخدامه، ولكن إذا قبلت تحمل المسؤولية بشكل شخصي فلا مانع لدي».

فقالت لي إنها ستحضر في اليوم التالي ولكنها لم تفعل.

معاقبة طبيب القلب

ثم أتت بعد ذلك إلي رياض محمد صالح مدير عام مركز صدام لجراحة القلب. كان الدكتور صالح من أهم أخصائيي القلب في العراق وكان لفترة طويلة في الفريق الطبي الخاص بالرئيس. وفي يوم فقد وظيفته مما أثار عجبنا في البداية، حتي عرفنا السبب بعدها.

قام الدكتور صالح في إحدي المرات بفحص صدام واكتشف أن ضغط دمه كان مرتفعا جدا، ولذا فقد نصحه الطبيب بالإقلال من أكل الدهون والملح والإقلال من التدخين وقبل الفحص التالي قام أحد الحراس الشخصيين لصدام بإبلاغ الطبيب بأن صدام لم يقلل من التدخين بل علي العكس أصبح يدخن أكثر من ذي قبل، ولم يتبع نصيحة الطبيب.

وعندما قاس الطبيب ضغط دم صدام قال له: «يا سيادة الرئيس، يجب أن أذكرك أن التدخين يمثل ضررا كبيرا وخطرا علي ضغط الدم، لذا فيجب عليك الإقلاع عن التدخين».

واستشاط صدام غضبا وجنونا.

«أغلق فمك . لقد قلت لي ذلك من قبل. إنك تكرر نفسك. إذا كنت أدخن أم لا فهذا أمر يخصني أنا فقط، وأنت ليس لك أي لزوم هنا».

الصيدلانية علي الخط

وعلي الرغم من أن مدير المستشفي قد احتفظ بعد هذه الواقعة بوظيفته إلا أن بقاءه في هذه الوظيفة أصبح مهددا بعد ظهور تلك الصيدلانية.

فقد كان من بين ما طلبته أن تتولي هي علاج الفريق الركن هشام صباح الفخري وهو أحد القواد الذين جرحوا أثناء الحرب ضد إيران.

وكان اللواء مصابا بالغرغرينا في رجليه نتيجة للدرجة المتقدمة من مرض السكر التي كان يعاني منها. وحكي لي الدكتور صالح شاكيا: «لم أجرؤ علي الرفض فقد حضرت بصحبة أحد حراس صدام، لقد أخبرته بأن الأطباء الذين قابلتهم هنا لم يبدوا أي ترحاب أو تعاون، وهذا ما لم يقبله صدام».

وبعد يوم من استخدامها للمرهم السحري علي باطن ساق الفريق، قام الدكتور صالح بأخذ عينة من المرهم في السر ليفحص تركيبها البكتيري.

وأثبت التحليل المعملي أن المرهم يحتوي كمية كبيرة من البكتيريا بمختلف أنواعها. وعندما واجه الصيدلانية بهذه النتيجة ثارت وصرخت فيه: «كيف تجرؤ علي أخذ عينة من المرهم وتفحصها في المعمل دون علمي! ثم خرجت من الحجرة غاضبة».

وعلي الفور ذهبت إلي القصر الجمهوري لتشتكي للرئيس، الذي كان يسمع لها دائما. وكان ما حدث بالنسبة إليه دليلا قاطعا علي أنهم يضعون العراقيل في طريقها، وأن الأطباء يرفضون التعاون معها.

وبالفعل تلقي بعدها الدكتور صالح قرارا بعزله عن منصبه كمدير لمركز صدام لأمراض القلب. وبعد ذلك كلف مستشفي اليرموك بالتعاون مع المخترعة. ثم دعاها صدام إلي مكتبه بصحبة وزير الصحة وأربعة من المتخصصين في الأمراض التي تفضي إلي موت الخلايا وقال الرئيس إنه قد أعطي أوامره بتخصيص معمل وفريق عمل لمساعدة الطبيبة علي إتمام أبحاثها حول المرهم الجديد في مستشفي اليرموك. ولكن ساقي الفريق الفخري لم يمكن إنقاذهما وتم بترهما.

قدم الرئيس اليمني

وفي يوم العاشر من شهر فبراير تم اصطحابي من مستشفي ابن سينا إلي بيت صغير بالقرب من الجسر المعلق لكي أفحص قدم الرئيس اليمني في تمام الساعة الخامسة مساء، ولكني اضطررت لانتظاره فترة، لذلك فقد اعتذر لي صدام عند قدومه علي تأخره عليَّ.

الحظر الجوي

كان لديه محادثة مهمة مع مجموعة من الضباط واستمرت المحادثة أطول مما توقع. كان الضباط يعملون علي تطوير نظام دفاع جوي لاستخدامه في منطقة الحظر الجوي في شمال وجنوب العراق.

«إنهم يفهمون عملهم جيدا ويحققون تقدما، ولكنهم بحاجة إلي المال. إلا أننا لا نملك الكثير منه بسبب العقوبات». «كما يقول ماركس: يختفي المال دائما، عند المواقف الحرجة».
بدأ حظر استخدام المجال الجوي أولا في الشمال، ربما لإعطاء الأكراد الذين يعيشون في الأماكن الشمالية التي هربوا إليها بعد أحداث الشغب عام 1991 إحساسا إضافيا بالأمان.

أعلمت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا بغداد بحظر تحليق أي طائرات أو مروحيات عراقية شمال خط العرض 36، حيث المناطق المسماة بالمناطق الآمنة، وبعد عام من الحظر قررت القوي العظمي الثلاث فرض حظر مماثل في الجنوب، مبدئيا حتي خط عرض 32 جنوبا.

كان العرب المقيمون في مناطق المستنقعات آنذاك يشنون حرب عصابات لا جدوي منها ضد جنود الحكومة، ولكن تم تجفيف جميع المستنقعات من خلال مشروع صدام لردم المستنقعات.

وعلي حد علمي لم يكن سبب الحظر الجوي هو حماية ذلك الشعب الصغير أو حماية الهاربين من الأكراد وإنما فقط لفرض الرقابة علي العراق.

وغطت منطقتا الحظر معظم أراضي العراق، خصوصا بعد توسيع المنطقة الجنوبية حتي خط عرض 33.

كانت الطائرات الأميركية والإنكليزية والفرنسية حتي عام 1998 تذكر دائما أن صدام لم يعد هو صاحب الأمر في البلاد. وتجلت هذه الحرب النفسية من خلال خمسين إلي مائة طلعة جوية يوميا.

وفي حال حدوث أي محاولة لضرب إحدي طائرات الحلفاء كان ردهم يأتي دونما تأخير بأن ينسفوا المواقع وقواعد الصواريخ العراقية.

وخلال تلك المهمات الجوية في مناطق الحظر قتل المئات من العراقيين وجرح الآلاف.

مفهوم الوطنية

ولم تُجدِ محاولات الدفاع عن المجال الجوي العراقي، فلم يحدث أن أصيبت إحدي الطائرات الأميركية أو الإنكليزية أو الفرنسية خلال طلعاتهم الاستكشافية، ثم استكمل صدام حديثه قائلا: حيث إننا لا نملك الأموال الكافية لتطوير نظام دفاع جوي، فلن يبقي لنا في الوقت الحالي إلا الوطنية ... فأجبته: «إن الوطنية مفهوم غير واضح المعالم».

«ماذا تعني بالضبط...»؟

«إن الوطنية ترتبط عادة بتعبير الإنسان عنها وليس بما يؤديه الإنسان من عمل في سبيل وطنه، فالبعض يظن أن خروجه في مظاهرة في الطريق العام هو أكثر وطنية من قضائه ساعات طويلة في معمله وهو يقوم بالأبحاث العلمية».

«أنا أثق بأن العراقيين يعرفون جيدا ما يفعلون، عندما يخرجون في مظاهرة. فكما يحكي لنا تاريخ حضارة العراق، أن هذا الشعب تزداد وطنيته عندما يهدده عدو خارجي».

ثم سكت الرئيس برهة قال بعدها: «ولكن المشكلة أنه إذا قلت حدة التهديد الخارجي مرة أخري، فإن شعورهم الوطني يتراجع ويسقط الناس في بئر السلبية والإهمال».

منجم ذهب

كان برنامج النفط مقابل الغذاء الذي وفر الطعام لملايين الناس بمثابة منجم ذهب لكل من أقارب صدام وزعماء الحزب والوزراء، الذين استغلوا الفرصة ليزدادوا ثراء، فقد كانت الصفقات عملاقة، فمن 1997 حتي انهيار الحكومة العراقية في أبريل 2003 تم شراء سلع غذائية وأدوية بأكثر من عشرين مليار يورو. وبالتالي فإن أي مبلغ عمولة حتي لو كان بنسبة مئوية بسيطة فإنه يجلب لصاحبه مبالغ طائلة .

وكان يجب اعتماد الفواتير والمشتريات والموافقة عليها من لجنة العقوبات المنبثقة عن مجلس الأمن والتي كانت تراقب الحساب المجمد الذي تحولت إليه المليارات من عائد بيع النفط العراقي. وكان دور اللجنة الأساسي هو منع صدام من شراء أي أسلحة جديدة أو أي معدات أو تجهيزات قد تساعده في إنتاج أسلحة الدمار الشامل. ولكن لم يتسن للجنة مراقبة هذا الكم الكبير من الصفقات غير المشبوهة أو العقود التي يتم توقيعها وما تضمنته من عمولات. وكان من الواضح أن خداع المراقبين في نيويورك لم يكن بالأمر العسير.

فالعملية كانت تتلخص ببساطة شديدة في اختيار الموردين الذين هم علي استعداد لدفع عمولات بشكل غير شرعي لعصابة الذئاب من الفسدة في السر وبطرق خفية علي السعر النهائي قبل عرض العقود علي لجنة العقوبات للموافقة. وكلما ارتفع السعر ارتفعت العمولات.

القطاع الصحي

ولم يكن القطاع الصحي استثناء، ففي الوقت الذي كنا نصرخ فيه طلبا لبعض الأدوية المهمة لإنقاذ حياة مرضانا وطلبا للمشارط والأربطة والضمادات الحيوية وأدوية التخدير، كانت تصل إلينا أجهزة طبية حديثة وباهظة الثمن. وفجأة وصل إلي جميع مستشفيات العراق أجهزة طبية عالية التقنية وأجهزة الرنين المغناطيسي، علي الرغم من أن معظم الأطباء لم يكونوا علي دراية بكيفية تشغيل تلك الأجهزة. وكنا بذلك شهود عيان علي لون من أخبث وأحقر وأقذر ألوان الفساد.

كان المرضي يموتون وهم علي طاولات العمليات لأن متخصصي التخدير لم تتوافر لهم الأدوية الأساسية لإنقاذ حياة هؤلاء المرضي من الأدوية التي تستخدم أثناء أو بعد العمليات الجراحية. وكانوا يضطرون لاستخدام عقاقير لها آثار جانبية مميتة.

لا بد أن وزير الصحة مدحت مبارك كان علي دراية بما يجري ولكن لم يكن بمقدور أحد تغيير مجري الأحداث.

ساجدة وإلهام

حتي زوجة صدام ساجدة وأختها إلهام، زوجة وطبان أخي صدام غير الشقيق، كلتاهما لم تمتنعا عن المشاركة في الفساد. فالجميع كان يريد نصيبه من الكعكة.

في أحد الأيام اتصلت بي إلهام وطلبت مني أن أذهب إليها في البيت، لأنها تريد محادثتي في موضوع له أهمية كبيرة بالنسبة إلي الأمة.

«ساجدة وأنا نرغب في تقديم خدمة لبلدنا في هذا الوقت العصيب». هكذا بدأت حديثها بعد أن قدم لنا الخدم الشاي.

«أعرف أنه سيتم شراء عدد كبير من أجهزة الفحص بالرنين المغناطيسي وغيرها من الأجهزة، وقد اتصلت بنا شركة أميركية مقرها بيروت بهذا الخصوص، فالشركة علي استعداد لتوريد الأجهزة لنا وبسعر أفضل مما قدمه الموردون لوزارة الصحة من شركة سيمنز».

ثم أضافت قائلة: «والأجهزة المعروضة علينا أفضل وأكثر فعالية».

وعلمت أن بعض ممثلي الشركة سيحضرون مساء اليوم التالي إلي عيادتي الخاصة لشرح الموضوع لي بشكل أكثر تفصيلا.

صدام يثق بك

وأكدت لي أخت زوجة الرئيس: «الموضوع مستعجل جدا، وإنه من العار أن تفلت هذه الفرصة من أيدينا».

وطلبت مني أن أكتب خطابا بصفتي محل ثقة صدام أشرح له فيه أن أجهزة الرنين المغناطيسي المعروضة من تلك الشركة هي أرخص وأفضل من غيرها، ولذلك فيجب شراؤها لجميع مستشفيات العراق.

فقلت لإلهام إن هذا ليس تخصصي وإنها يجب أن تسأل مختصّ أشعة. فقالت لي: لا، فصدام يثق بك أنت، لذلك فإن ساجدة تريدك أنت أن تكتب خطاب التوصية بعد أن قرأت كتيبات الدعاية الخاصة بالشركة وقابلت مندوبيها.

وكما توقعت فقد زارني مندوبو الشركة في عيادتي وأخبروني بأن أجهزتهم هي الأفضل في السوق العالمية كلها. وأخبروني أنني سأستفيد شخصيا من وراء هذا الموضوع. وكان أحد المندوبين لبنانيا والآخر عراقيا.

وبعد خروجهما من عندي اتصلت بإلهام وقلت لها:

«يؤسفني أن أخبرك أنني لن أكتب الخطاب للرئيس كما طلبتما مني» فقالت لي: «حسنا».

ثم عاودت الاتصال بي بعدها مباشرة وأخبرتني أنها قد تحدثت مع أختها وتريد مني الحضور إلي مستشفي ابن سينا.

توقيع بالقوة

وعندما ذهبت إلي المستشفي كان بانتظاري الحارس الشخصي لساجدة ومعه خطاب فيه أنني أقترح علي صدام أن وزارة الصحة يجب أن تشتري أجهزة الرنين المغناطيسي من الشركة المعنية لأنها تقدم أرخص وأفضل عرض. وكان الخطاب جاهزا ولا ينقصه إلا توقيعي.

فاتصلت بإلهام مرة أخري وقلت لها: «لقد قرأت الخطاب ولكن كيف لي أن أوقع مثل هذا الخطاب وأنا لا أعرف الكثير عن هذا التخصص ولذلك فأنا لا أنوي اقتراح أي شيء لا علي الرئيس ولا علي غيره».

فأجابتني متعجبة: «إنك تتصرف بشكل غريب، إن ساجدة تطلب منك هذا الصنيع. ساجدة، زوجة الرئيس تطلب منك شخصيا المساعدة. إنها تعرف أن صدام يثق في أنك لن تخدعه».

فقلت لها: «يؤسفني وأرجو منك المعذرة فأنا لن أوقع علي شيء». فغضبت إلهام وأغلقت الخط بعنف.

ثم تلقيت منها اتصالا هاتفيا بعد ثلاثة أيام، قالت لي فيه: «لقد وجدنا طبيب أشعة وقد وقع بالفعل علي الخطاب والآن يمكن أن توقع أنت أيضا علي الخطاب».

«ليس عندي أي نية لذلك حتي الآن».

وجن جنونها هذه المرة أيضا ولكنها لم تعاود الاتصال بي بعد ذلك.

ومضت أيام بعد آخر محاولة فاشلة للأختين لإقناعي بالتوقيع، وإذا بأهم سكرتير لدي صدام عبد حمود يحضر إلي مستشفي ابن سينا ويدخل دون مقدمات في الموضوع: «لقد كان تصرفا حكيما منك أنك لم توقع الخطاب الخاص بأجهزة الرنين المغناطيسي».

وسألته كيف عرف بالأمر..؟ فأجابني: «هذا عملي».

عين السمكة

وفي يوم السادس عشر من فبراير أي بعد مضي حوالي أسبوعين من إزالتي «لعين السمكة» من قدم صدام كان الجرح شبه ملتئم كلية، لقد جاؤوا بي إلي بيت صغير جديد علي الأرض بقصر الرضوانية بالقرب من مطار بغداد الدولي، وكان الجو غير مريح في الهواء الطلق بسبب الريح الباردة.

كان دكتور طاهر التكريتي المختص بالأمراض الباطنية في فريق صدام الطبي قد قام بقياس ضغط دمه الذي أصبح طبيعيا الآن وكعادته كان صدام يدخن واحدا من سيجار الهافانا الكبير. وبدا عليه الإرهاق والتعب. وقال لي صدام بعد أن انصرف الدكتور التكريتي: «ما رأيك يا دكتور علاء في العقوبات التي فرضتها علينا الأمم المتحدة. إلي أي مدي يتضرر منها الناس العاديون»؟

«لا شك في ان الحصار الاقتصادي الذي فرضته الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا علي العراق قد أثّر علينا جدا. إن نسبة من خمسة عشر حتي عشرين في المائة من المشاكل الاقتصادية التي نعاني منها السبب فيها تلك العقوبات.أما السبب الرئيسي في نظري فهو السياسة الاقتصادية المزرية التي تسبب فيها الكثير من مسؤولي الدولة».

بينما كنت أتحدث مع صدام كان النقيب سرمد الصفار واقفا بأحد أركان الحجرة، وكان أكثر الحراس الذين يثق فيهم صدام.

وعندما هممت باستكمال حديثي أشار له صدام أن يغادر الحجرة، ولاحظت أن صدام لم يعجبه ما قلته له.

وسألني: «ما الذي تعنيه بالضبط»؟

فأجبته: «هذا هو الانطباع الذي اكتسبته من خلال احتكاكي بالناس وبالمرضي وهذا يتوافق مع ملاحظاتي الشخصية».

فسألني: «هل تستطيع إثبات ذلك» ؟

«فشرحت له إنه إذا سعي أي مواطن عراقي مثلا لتأسيس شركة وطلب الموافقات اللازمة فسيكون بانتظاره جحيم حقيقي من البيروقراطية».

واستطردت في كلامي قائلا: «علي المرء أن يتوقع الأسوأ الآن. إن آجلا أو عاجلا سيكون لزاما دفع رشاوي صغيرة أو كبيرة من أجل الحصول علي موافقة. إنه الجحيم بحق».

صدام يعترف

جلس صدام برهة صامتا ثم قال: «أنا أعاني مشكلة صعبة. أنا أبذل مجهودا كبيرا لأجد الأشخاص المناسبين للمناصب العليا. وأنا أعرف أن وزرائي ليسوا بالمجتهدين ولا هم شديدو الذكاء، وكذلك زعماء حزب البعث أيضا. عندما أناقش معهم قضايا معقدة يستمر الأمر أحيانا فترات طويلة جدا حتي يفهموا ما أتكلم عنه أساسا».

وأحيانا أتصفح مثل هذه المناقشات وأري علي الفور أنهم لم يفهموا أي شيء.

وسكت الرئيس ثم أشعل سيجارا جديدا وقال بعدها: «لقد جربت أن أعين بعض أعضاء الحزب من الذين لم أجربهم من قبل وعينتهم نوابا للوزراء ومديرين في الوزارات ليتدربوا علي العمل ولأوقف بهم فيض الفساد. وتوهمت أن أهل الثقة في الحزب أفضل من العاملين في الحكومة ولكن ثبت لي بعد فترة لا تجاوز الشهر أن الأوضاع قد ازدادت سوءا».

وعندما خرجت من عنده رثيت لحال الدكتاتور بالرغم من أنه لم يكن هناك داع لذلك.