ـ كلينتون معنفا باراك: لا يمكنني مقابلة عرفات حاملاً تراجعاً في المواقف
قال له: ذهبت لجنيف وشعرت كأنّني خيال مآته وجعلتني أنا وعرفات ننتظرك طوال اليوم وتريدني أن أقدّم شيئاً أقلّ
انتظرنا الإسرائيليّين ثلاث عشرة ساعة للخروج من اجتماعهم. وفيما شاهدت شلومو عندما خرج لفترة وجيزة لتناول الطعام، إلا أنّه مطبق الفم، ولم يقل سوى إنّ هذا «اجتماع عالي الجودة يعبّر فيه الفريق بأكمله عن آرائه». وسواء كان عالي الجودة أم لا، كان باراك يتصرّف كما لو أنّه لا يوجد أحد سواه في كامب ديفيد. لقد أبقينا عرفات منتظراً، حيث فضّل الرئيس تأجيل لقائه إلى أن يكون لديه شيء آخر يقوله. فإذا كنّا نريد تسويق حزمة القدس لدى عرفات، فإنّنا بحاجة إلى أن يشعر بأنّنا لا نعدّها مع الإسرائيليّين. كما أنّنا نحتاج إلى عدم اللعب على شكوكه أو جعله يشعر كأنّ موقفه أمر مسلّم به. وكما هي العادة، كان باراك يقلّل من تقدير تأثير سلوكه على الآخرين أو يقرأه بشكل خاطئ.
أخيراً، قرابة منتصف الليل، وصل غضب الرئيس ونفاد صبره إلى الذروة، وأصرّ على قطع الاجتماع الإسرائيليّ. وأبلغنا عندئذٍ بأنّ باراك سيأتي بعد قليل لمقابلة الرئيس. لكن انقضت بعد ذلك ثلاثون دقيقة أخرى، وتبلّغنا أنّ طبيباً توجّه إلى دوغ وود، كوخ باراك. وقد علمنا أنّ باراك اختنق بحبّة فستق ما تطلّب إخضاعه لمناورة هيمليخ لكي يتمكّن من معاودة التنفّس. نفّس ذلك غضب الرئيس ـ لكن ليس كثيراً وليس لوقت طويل. عندما وصل باراك، أحضر معه شلومو وداني، لذا بقيت أنا وساندي ومادلين مع الرئيس. قدّم لنا باراك ورقة يريدنا أن نعرضها على الفلسطينيّين على أنّها ورقتنا. ولم يكتف فيها بطرح أسئلة كما لو أن أمام الفلسطينيّين اختبار ويجب النجاح فيه، وإنّما تراجع فيها عن بعض الخطوات الرئيسيّة التي خطاها شلومو. فبدلاً من 10.5 في المائة، أصبحت الأرض التي يريد ضمّها 11.3 في المائة; وبدلاً من أن تصبح ثلاث قرى في الحدود البلديّة الحاليّة للقدس الشرقيّة جزءاً من القدس ذات السيادة، صارت واحدة. كان هناك تراجع في كل قضيّة تقريباً. وهذا ما جعلنا ننتظر باراك لمدّة ثلاث عشرة ساعة.
انفجر الرئيس، «جعلتني أنا وعرفات ننتظرك طوال اليوم وتريدني أن أقدّم شيئاً أقلّ مما عرضه شلومو على أنّه فكرتنا؟ لن أفعل ذلك. لن أفعله. لن يكون لديّ مصداقيّة. لا يمكنني مقابلة عرفات حاملاً تراجعاً في المواقف. تريد تقديم هذه الأفكار إلى الفلسطينيّين بشكل مباشر، فاذهب لتعرف إذا كنت تستطيع تسويقها. فما من سبيل يجعلني أفعل ذلك. هذا شيء غير حقيقيّ. إنّه غير جادّ. ذهبت إلى شفاردزتاون ولم تخبرني شيئاً طوال أربعة أيام. وذهبت إلى جنيف وشعرت كأنّني خيال مآته وأنا أفعل ما تريد». وأخذ صوته يرتفع ووجهه يحمرّ، وصاح قائلاً، «لن يحدث ذلك هنا. فلن أفعل ذلك».
كان باراك هادئاً في البداية في ردّه. فقد تحدّث بصوت خفيض، قائلاً إنّ هذه القرارات تتعلّق بجوهر وجود إسرائيل وأمنها وحياتها. وهو يتحمّل مسؤوليّة توخّي العناية الشديدة ولا يستطيع أن يواصل لعبة عرفات. وأصبح باراك عاطفيّاً أكثر فيما تابع حديثه. فهو يجد أنّ الطريقة التي يتفاوض بها الفلسطينيّون فظيعة، ويجب ألا يتمّ التسامح مع سلوكهم. وقال إنّنا لا نحتمل هذا السلوك عند الأطفال. حان الآن دور الرئيس ليكون هادئاً. كان متعاطفاً مع المأزق الذي يوجد فيه باراك، وعبّر له عن ذلك (لا يدوم غضب كلينتون طويلاً قطّ، وهو تعبير صادق دائماً ولا يُتصنّع للتأثير).
كنّا قد تحدّثنا قبل مجيء باراك عن عدم التزام الرئيس بما يريد باراك في هذا الاجتماع. وكنّا نتوقّع أن يطلب من الرئيس تسويق بعض الأفكار بشأن القدس عند عرفات، لكنّنا لم نكن نعرف أنّه يريدنا أن نتراجع عن أفكار شلومو. ولكن تحسّباً لطلب تسويق أفكار باراك، أقنعنا الرئيس بأن يقول لباراك إنّه يحتاج إلى الاجتماع بفريقه ثم يرد عليه.
* باراك لكلينتون في رسالة خاصة: هذه ليست مفاوضات ولكنها محاولة مخادعة لدفعنا لموقف لا يمكننا القبول به البتة ومن دون أن يتحرّك الفلسطينيّون بوصة واحدةً
* كان باراك ثائراً، ويرى كل شيء بمنظار كارثيّ. فبعد أن ذهب الرئيس لرؤية عرفات، قابلت أمنون وأخبرني أنّ إيهود «كره» ما فعله شلومو. لقد ذهب شلومو بعيداً وباراك يشعر بأنّه محاصر. لم أكن أعرف الكثير عن مقدار قلقه حتى وقت لاحق عندما جاء مارتن (تبدو الإشارة لمارتن انديك السفير الأميركي لدى اسرائيل.. الإيضاح من «الشرق الأوسط») الذي تلقّى رسالة من باراك إلى الرئيس نقلها إليه داني. وأبلغ داني مارتن أنّ رئيس الوزراء (باراك) كان يأمل في أن يرى الرئيس هذه الرسالة قبل الاجتماع بعرفات. لكن ذلك لم يحدث. كانت الرسالة مذهلة في نبرتها التشاؤميّة المظلمة. ولكي نعرف وقعها المذهل، يجدر الاستشهاد بمقطع طويل منها:
تلقّيت تقرير شلومو بن عامي وجلعاد شير عن محادثات الليلة الماضية بشكل سيئ جدّاً. هذه ليست مفاوضات. إنّها محاولة مخادعة لدفعنا إلى موقف لا يمكننا القبول به البتة دون أن يتحرّك الفلسطينيّون بوصة واحدة. ولا يجرؤ ياسر عرفات على القيام بذلك لولا أن يعتقد أنّ هناك انحيازاً كبيراً إلى مواقفه بين الكثير من أعضاء الفريق الأميركيّ. إنّ الرئيس موضوعيّ بالطبع... لكنّ الفريق الأميركيّ غير موضوعيّ... لقد أخذت على عاتقي مخاطر غير مسبوقة في الطريق إلى القمّة بل حتى في المواقف... التي قدّمها رجالنا في الليلة الماضية... وهي ما سمعت عنها بعد حدوثها، وهي تمثّل مخاطر إضافيّة مع أنّها ليست مواقفنا. هناك في وفدي أناس يعارضون هذه التحرّكات بقوّة... لن يكون هناك رئيس وزراء إسرائيليّ آخر مستعدّ للقيام بما قمت به ليكتشف بعد ذلك أنّها ليست مفاوضات عادلة. إنّني لا أنوي السماح بتفكّك الدولة الإسرائيليّة ماديّاً أو أخلاقيّاً. فدولة إسرائيل هي تحقيق لحلم الشعب اليهوديّ جيلاً بعد جيل. وقد حقّقنا ذلك بعد جهود هائلة وبذل الكثير من الدم والعرق... ولن أرضى بأي حال من الأحوال أن أشرف في كمب ديفيد على نهاية هذه المسيرة.
منذ سنة 1948 ونحن نواجه محاولة لإجبارنا على الانهيار. ولن أسمح بحدوث ذلك. إنّها لحظة استثنائيّة للحقيقة. ولن تتاح فرصة لنجاح العمليّة إلا إذا هُزّ الرئيس عرفات بحدّة. ولن يتحرّك عرفات إلا إذا أدرك أنّها لحظة الحقيقة. يجب أن يرى أنّ لديه فرصة لتحقيق دولة فلسطينيّة مستقلّة... أو البديل الذي يماثل المأساة حيث تقف الولايات المتحدة إلى جانب إسرائيل. ولن تتاح الفرصة لإنقاذ القمّة إلا إذا أدرك عرفات ذلك. إنّني أعتقد أنّ علينا التحرّك الآن أو عدم التحرّك البتة. فلن يمكنني أن أتعايش مع الوضع الذي نتج الليلة الماضية... وعندما يدرك شعب إسرائيل الشوط الذي كنّا مستعدّين لقطعه فسيكون لدينا القوّة للوقوف موحّدين معاً في هذا الكفاح، مهما كان قاسياً، حتى لو أجبرنا على مواجهة العالم بأسره. فما من قوّة في العالم يمكن أن تفرض علينا انتحاراً وطنيّاً جماعيّاً.
لن يتحقّق السلام إلا إذا كانت هناك رغبة حقيقيّة في التفاوض لدى الجانبين. وإنّني على يقين بأنّ شعب إسرائيل والشعب الأميركيّ سيدرك ذلك عندما يُكشف عن التفاصيل.
كنت أعرف قبل قراءة هذه الرسالة بأنّ باراك يشعر بأنّه محاصر. لكن لم يكن لديّ فكرة عن مدى سوداوية رؤيته. كنّا قد قرّرنا بالفعل هزّ عرفات قبل أن نتلقّى هذه الرسالة. فقد نفد صبرنا أيضاً من عدم رغبة الفلسطينيّين في التفاوض. ولعل الرئيس لو قرأ الرسالة قبل مقابلة عرفات، لما لان في نهاية الاجتماع معه، طالباً فقط ردّاً على إحدى النقاط الثلاث للأرض أو الأمن أو إنهاء النزاع. أو لعلّه كان ذهب لرؤية باراك أولاً للتأثير على نفسيّة القائد الذي يرى كل شيء الآن كأنّه مسألة حياة أو موت.
كنت اقترحت ذلك، لكنّني لم أعرف المضمون الكامل للرسالة إلا بعد أن كان الرئيس مجتمعاً بعرفات بالفعل. وكان مارتن قد أوجز الرسالة لساندي الذي أوجزها بدوره للرئيس. وقد جعلت الرسالة ساندي أكثر إصراراً على عدم العودة إلى باراك إلا بعد الحصول على شيء ذي مغزى من عرفات.
كنت قد دعيت إلى مثل هذا الموقف من قبل، لكن ذلك كان قبل أن أعرف مقدار كآبة مزاج باراك. وعندما قرأ لي مارتن الملاحظة، اتصلت بساندي. فأخبرني أنّه حاول مقابلة باراك لكنّه تمكّن من مقابلة داني فقط، وأخبره بأنّ الرئيس سيكون قاسياً مع عرفات.
أبلغت ساندي الآن أنّ ذلك غير كافٍ. لا يمكننا أن نترك باراك يغرق في مزيد من الخوف. على الرئيس أن يقابله لتهدئة روعه. وافق ساندي وكذلك مادلين، لكنّها كانت تشعر أيضاً بأنّ باراك مدين بالاعتذار لنا لقوله إنّنا «متعاطفون» مع الفلسطينيّين.
كنت أفكّر في باراك ونحن ننتظر ردّ عرفات على الرئيس. لقد كان أستاذاً في المناورة، ولا يمكننا أن نستبعد أن تكون رسالته جزءاً من المناورة. لكن ثمة مبالغة في القول أشعر أنّها أكثر من مجرّد مسعى للتلاعب بنا. لماذا كان في مثل هذا المزاج القاتم؟ ولماذا يرى ما حدث في الأمس بمثل هذه العبارات المرعبة؟ فقد كان في النهاية يتحدّث عن الانهيار ونهاية الحلم والانتحار الوطنيّ. توصّلت إلى أنّه تراءى له بأنّ مفهومه للاتفاق لن ينجح. فالثمن الذي يجب عليه أن يدفعه مقابل الاتفاق أعلى مما تصوّر وهو يتناقض مع كل ما آمن به. فهو في النهاية ممن لم يكونوا سعداء بأوسلو، وامتنع عن التصويت على الاتفاق المؤقّت، ولم يكن قطّ عضواً في ما كان يوسي بيلين يدعوها دائماً «مافيا السلام المزعومة» في إسرائيل. ومع أنّ الثمن يتعارض مع ميوله الطبيعيّة، إلا أنّه أدرك أيضاً بديل الاتفاق ـ بالنسبة إليه شخصيّاً وبالنسبة لبلده. هل عليه أن يواجه حجم الحقيقة التي غالباً ما تحدّث عنها؟ وهل يبقى سياسيّاً بعد القمّة؟ وهل عليه الآن دفع الثمن العالي للمواجهة الذي طالما تحدّث عنه كبديل للقمّة؟
لم تكن لغة رسالته تعكس مشاعر رجل متألّم فحسب، وإنّما يعاني من أزمة شخصيّة أيضاً. ومع ذلك لم يتحدّث في النهاية عن التهديد المحتمل لردّ فعل الشعب الأميركيّ ـ لذا يحسن بكم أن تكونوا معي ـ وإنما أيضاً عن الحاجة إلى هزّ عرفات من أجل إنقاذ القمّة. ربما لا تكون مثاليّة، لكن لا شكّ أنّ فيها عنصراً منه يحاول أن يصدمنا لكي نوجّه تهديدات أشدّ قوّة إلى عرفات.
*.. وعرفات في رسالة ذكية للرئيس: أوافق بنسبة للتبادل متوافقة مع الحجم المتفق عليه للمستوطنات وسأترك لك تحديد النسبة إذا ضمنا حلا للقدس الشرقيّة
* لقد هزّ الرئيس عرفات، لكننا لم نحصل على رد بعد. وقال جمال إنه يحثهم على الرد بجدية. وأبلغ دحلان جمال بأنه يضغط من أجل 4 في المائة مع مقايضة; وطلب منه جمال أن يجعلها 5 في المائة مع المقايضة. رددت على ذلك بغضب قائلاً، ذلك لا شيء. ففي إيلات، عرض دحلان 4 في المائة مع مقايضة; و5 في المائة الآن مع مقايضة لا تشكّل تحركاً البتة. وأبلغ روب ويوسي عدداً من الفلسطينيين بالتقدم بـ 5 في المائة من دون مقايضة. وأبلغت كلاً منهما أن ذلك غير كاف ـ ليس في هذه المرحلة، إذا كنا سنعود إلى باراك ثم سنتحرك قدماً نحو اتفاق حيث يتعين على كل جانب تقديم المزيد.
كان ردّ عرفات ذكيّاً. وقد جاء على شكل رسالة من عرفات بالعربية سلمها صائب إلى روب ـ حيث كان روب مدون الملاحظات في اجتماع الرئيس مع عرفات. ترجم جمال الرسالة. لم يذكر عرفات في الرسالة النسبة المئوية للأرض المخصصة للكتل الاستيطانية، لكنه قال «أوافق على أن تكون نسبة التبادل متوافقة مع الحجم المتفق عليه للمستوطنات. وسأترك إليك أمر تحديد النسبة إذا كان بوسعنا ضمان حل للقدس الشرقية». وعندما سأل روب صائب عن معنى ذلك، أجاب صائب «نقبل بالمستوطنات، وأنتم تعرفون أحجامها، وبإمكان الرئيس تحديد النسبة. وإذا كانت هناك مقايضة بين قضية السيادة الفلسطينية على القدس الشرقية، يستطيع الرئيس تحديد النسبة المئوية للأرض ونسبة التبادل».
تعني هذه الرسالة في أحسن التفسيرات ظناً أن الفلسطينيين إذا حصلوا على السيادة على القدس الشرقية، يستطيع الرئيس تحديد حجم المنطقة التي تضم من أجل كتل المستوطنات ومقدار الأرض التي تقايض مقابل الضم. وهذا أفضل تفسير لأن الرسالة لا تقول ذلك. فقد قرأت رسالة عرفات الفعلية ـ «ستكون نسبة التبادل متوافقة مع الحجم المتفق عليه للمستوطنات» ـ على أنها غامضة. فبإمكان عرفات القول إن ذلك يعني أن الأرض التي تضمها إسرائيل من أجل كتل المستوطنات يجب أن يقابلها تبادل أرض مساوية لها مع الفلسطينيين.
لكننا لم نفسرها بهذه الطريقة لأن روب أوضح عندما أحضر الرسالة ما قاله صائب بشأن الجمل الأساسية فيها. لم أكن مرتاحاً لأنني لا أعرف إذا كان يجب أن نعتمد على تفسير صائب ولأنني لم أكن واثقاً مما حصلنا عليه بل إذا ما كنا حصلنا عليه. وحتى في أكثر التفسيرات مواتاة، يقال لنا، أعطونا السيادة على القدس الشرقية، كل القدس الشرقية بما في ذلك الأحياء اليهودية، وبعد ذلك يمكنكم أن تقرروا بشأن الضم والمقايضة. يمكننا أن نحصل لباراك على شيء بشأن الحدود والأرض، لكن الثمن سيكون غير مقبول بالنسبة له.
مع ذلك، إذا أخذنا التفسير الأكثر تساهلاً، تفسير صائب، يمكننا القول إننا حصلنا على اقتراح مقابل من الفلسطينيين. وكان هذا أهم ما أريد قوله، لكن رُفض حذري وارتيابي: فقد أراد الجميع، الرئيس وساندي ومادلين وروب، اعتبار الرسالة تحركاً كبيراً. وأراد الجميع أن يصورها على أنها قرار مقيد لكنه يسمح لنا بتقرير حجم الأراضي التي تضم وتقايض. شعرت ثانية أننا بحاجة إلى تقليل التوقعات، لكن ثمة ثلاثة عوامل أبطلت ترددي. أولاً، رسالة باراك المتشائمة: كانت معنوياته متدنية بحيث أن التوجه إليه بجواب أقل من حاسم لن يغير شيئاً (في هذه الحالة، إذا كان باراك يحاول توجيه صدمة لنا، يكون قد نفذ ذلك بطريقة لا تخدم مصالحه). ثانياً، تفسير صائب: بدا أنه مبادلة واضحة جداً: أعطونا ما نريد بشأن القدس وتحصلون على ما تريدون بشأن الأرض; وكان ذلك قريباً مما قاله شلومو أصلاً لأبي علاء ويبدو أنه يؤسس لمفاوضات يمكن أن يصقل فيها موقف كل جانب. ثالثاً، أفاد جمال عن حوار أجراه مع أحد حراس عرفات الشخصيين. ووفقاً لروايته، انفجر عرفات في وجه أبو مازن وعبد ربه عندما اقترحا عدم عرض أكثر من 1 أو 2 في المائة من الأرض على أنه الملائم على كلينتون. ويفترض أن عرفات صاح قائلاً، «ستجعلونني أبدو سخيفاً أمام الجانبين الأميركي والإسرائيلي على السواء». وعند أخذ كل هذه العوامل معاً، توصلنا إلى خلاصة مفادها أن الرد حقيقي وأن بوسع الرئيس الذهاب الآن إلى باراك حاملاً بيده شيئاً ذا مغزى. ونظراً لطبيعة الرئيس، فهو لن يقلل من قيمة ما يسوقه، وهذا ما فعله. كان الرئيس يريد الوصول إلى اتفاق ـ وكلنا يريد ذلك. فأبلغ باراك أن عرفات منحه حق التقدير لتحديد الأرض، ونتيجة لذلك «سيقترب عرفات كثيراً من تلبية احتياجاتك للأرض، وأعتقد أنها ستكون ما بين 8 و10 في المائة. وهو يريد مقايضة، ولكن رمزية فحسب. وقال إذا كنت أعتقد أن ذلك منصفاً، فسيعتقد أنه منصف».
وأشار الرئيس إلى رغبات عرفات الأخرى: لا يريد الإسرائيليين بين دولته والأردن، ويريد معاملته مثل القادة العرب الآخرين من حيث الحصول على حدود مستقلة مع جيرانه، وإنهاء الصراع بعد تنفيذ كل شيء، لا أن يتفق عليه ويعلن فحسب، وصفقة تشمل نتيجة مقبولة بشأن القدس.
لم أكن مع الرئيس عندما قدم عرضه إلى باراك، فقد استمر تطبيق نموذج ذهابه بمفرده مع بروس كمدون ملاحظات. وقد انزعجت لاحقاً عندما قرأ علي بروس الملاحظات، لا سيما أنها تترك انطباعاً لدى باراك بأن عرفات وافق على ألا تقل النسبة المئوية للأرض التي تضم من أجل كتل المستوطنات عن 8 في المائة، مع تقليل التشديد على القيود التي تطبق على هذا الرقم (وكنت لا أزال أشك بشأن مقدار حقيقة قبول عرفات بنسبة 8 في المائة و«سلطتنا التقديرية»). وعند سماع ما قرأه بروس، عرفت أنه كان عليّ الاعتراض بقوة أكبر على تصوير رد عرفات على أنه يلبي احتياجات باراك للأرض، وذلك لا لسبب إلا لكي يقيد الرئيس ما يقوله لباراك.
* روس: فكرت.. تعويضا للفلسطينيين عما لن يتمكّنوا من الحصول عليه من الإسرائيليّين أن نبني السفارة الأميركية بالقدس الشرقية مكافأة لعرفات
* كانت الأسرار قليلة بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين في كامب ديفيد. فدحلان ورشيد كانا يتشاركان كل شيء تقريباً مع يوسي، ولا أعتقد بأنّ يوسي كان يحجب الكثير عنهما. وربما كانوا يحتفظون بأفكارهم الخاصّة بعيداً عن الأعضاء الآخرين في وفديهما، لكنّ الاعتقاد بأنّهم لن يتشاركوا رسالة عرفات إلى الرئيس ما هو إلا وهم. فباراك سيعرف ما كتبه عرفات عاجلاً أم آجلاً. فالتفاهم الشفويّ شيء، والرسالة شيء آخر. وعندما يراها باراك أو يصفها يوسي له، فسيعلم أنّ الرئيس كان يبالغ في تسويق ما لديه.
ربما يكون الميل إلى التركيز على صنع اتفاق وعلى الصورة الكبيرة متوطّناً في قمّة رئاسيّة من هذا النوع. غير أنّ مخاطر إدامة الغموض الذي يقود إلى سوء الفهم ـ بل حتى إلى الإحساس بالخيانة ـ تصاحب مثل هذا التركيز. وذلك هو ما يقلقني الآن.
لكنّنا موجودون حيث نقف. فليس لدينا، في أحسن قراءة لرسالة عرفات، فرصة للحصول على النتيجة التي يريدها باراك بشأن الأرض بدون إجابة عن القدس. ووجّهت اهتمامي إلى حلّ ذلك. وهنا يوجد جدار من الطوب.
فيما كان الرئيس مع باراك، جلست أنا ومارتن وأمنون ويوسي. أبلغناهما أنّنا حصلنا على ردّ جدّيّ من عرفات بشأن الأرض، لكن عليهم انتظار سماعه من باراك، الذي يسمعه بدوره الآن من الرئيس. لكنّهما يعلمان بالطبع أنّنا لن نتمكّن من حلّ مسألة الأرض إذا لم نستطع حل مسألة القدس.
قالا إنّهما يدركان ذلك وقد أمضيا اليومين الماضيين يعملان مع محمد دحلان ومحمد رشيد بشأن القدس. وقد وصلوا إلى طريق مسدود. فالمحمّدان، وهما الأكثر إدراكاً لاحتياجات إسرائيل، «لا يدركان مقدار حرج وأهميّة القدس بالنسبة إلينا»، وفقاً لما قاله يوسي. وكان يوسي قد ذكر لي في وقت سابق أنّه يعتقد بأنّ الفلسطينيّين إذا حصلوا على السيادة على الحيّ المسلم في المدينة القديمة، فقد يتمكّنون من حل مشكلتهم (وكان جلعاد قد ذكر الفكرة نفسها أمام روب). سألت الآن أمنون إذا كان يعتقد بأنّ إسرائيل يمكنها قبول ذلك. فقال، «لا، لن ينجح ذلك».
تركنا الاجتماع وقلت لمارتن، يجدر بنا التفكير في طرق لتعويض الفلسطينيّين عما لن يتمكّنوا من الحصول عليه من الإسرائيليّين بشأن القدس. وأبلغته أنّ ما يخطر ببالي هو أن نبلغ عرفات بأنّ السفارة الأميركيّة ستبنى في الجزء الذي يمتد داخل الحدود البلديّة الحاليّة للقدس الشرقيّة من أبو ديس (تقع معظم أبو ديس خارج الحدود البلديّة للقدس الشرقيّة، لكن ثمة زاوية صغيرة تبلغ عدة مئات من الأمتار تتقاطع مع الحدود البلديّة)، سيكون ذلك رمزاً كبيراً لعرفات. وقلت يمكن بالإضافة إلى ذلك أن يقود الرئيس وفداً دوليّاً يستضيفه عرفات ويأخذه إلى الحرم، ما يرمز ثانية إلى السيطرة الفلسطينيّة أمام العالم، وبخاصّة العالم العربيّ.
وأردفت قائلاً، ربما إذا أضفنا ذلك إلى السيادة الفلسطينيّة في أحياء محدّدة من القدس الشرقيّة، والاستقلال الذاتيّ الوظيفيّ في الأحياء الداخليّة، والمسؤوليّات المشتركة في المدينة القديمة، وممرات خاصّة ذات سيادة إلى المدينة القديمة، والولاية القانونيّة على الحرم (جبل الهيكل)، ربما يفي ذلك بالغرض. لكن كانت لا تزال لديّ شكوكي، وأبلغت مارتن بعد أن قرّرنا التشاور بشأنها ليلاً، بأنّ إسرائيل إذا قرّرت الاحتفاظ بالسيادة الحصريّة على جبل الهيكل [الحرم]، أخشى أنّ علينا تقديم شيء آخر نضيفه إلى الوزن الرمزيّ والقانونيّ للفلسطينيّين في المدينة القديمة ومواقعهم الدينيّة.
وكان جون شوارتز وجمال على وشك أن يفعلا ذلك بالضبط.
* .. ثم فكرنا حلا لقضية القدس باتفاق يمنح لجنة دوليّة وضعيّة الوصيّ الدائم على الدولة الفلسطينيّة
* اليوم السابع جاء جمال (هلال) إلى كوخي في السابعة والنصف صباحاً قائلاً، إنّه لم يستطع النوم ليلاً لأنّ جون قدّ م احتمالاً، وأنّه كان يفكّر في كيفيّة تسويقه مع الفلسطينيّين. اكتشف جون أنّ الإسرائيليّين بعد حرب 1967 عرضوا منح موظّفي الأمم المتحدة وضعيّة دبلوماسيّة وحصانة في المواقع الدينيّة في القدس. وكانت فكرة جون تقضي بإحياء تلك الفكرة ومنح المواقع الدينيّة، الخاضعة للولاية القانونيّة الفلسطينيّة، وضعيّة البعثة الدبلوماسيّة أو السفارة الأجنبيّة. من الناحية التقنيّة، يعني ذلك أنّ الإسرائيليّين لا يمكنهم دخول تلك المواقع إلا إذا وافق الفلسطينيّون على ذلك، مع أنّهم يحتفظون بالسيادة على الأرض. وعلى غرار أي بعثة أجنبيّة، يحظى الفلسطينيّون بوضعيّة شبيهة بالسيادة لا يمكن انتهاكها، رغم احتفاظ الإسرائيليّين بالسيادة الرمزيّة. اقترح جمال أن نأخذ فكرة جون ونجعل إسرائيل تمنح هذه الوضعيّة للأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن الدوليّ ونجعل الخمسة الدائمين يمنحون الفلسطينيّين الوصاية الدائمة على الحرم. أعجبت بالمصطلحات، وبخاصّة إذ يبدو أنّها تمنح الفلسطينيّين وضعية مماثلة في الحرم للوضعية التي يحظى بها السعوديّون في الأماكن المقدّسة بمكة والمدينة. كان جمال متحمّساً جدّاً ومتأكّداً من أنّ بوسعنا تسويق ذلك لدى الفلسطينيّين. ووافقته بأنّها قد تنجح، لا سيما إذا مزجت مع خطوات أخرى مصمّمة لإنشاء اعتراف دوليّ بالفلسطينيّين في جزء من القدس الشرقيّة على الأقل.
التقينا بالرئيس في حوالي التاسعة والنصف صباحاً. وقبل ذلك التقيت بجون وهذّبا الفكرة. ولكي نجعلها تنجح، نحتاج إلى أن تنهي إسرائيل اتفاقاً مع الدول الخمس دائمة العضويّة في مجلس الأمن والفاتيكان والمغرب، رئيس لجنة القدس التابعة لمنظّمة المؤتمر الإسلاميّ(*). وبعد ذلك تمنح هذه اللجنة الدوليّة وضعيّة «الوصيّ الدائم» على الدولة الفلسطينيّة.
ومن المفارقات أنّنا فيما كنّا نطوّر هذه الفكرة، توصّل عدة أعضاء في الفريق الإسرائيليّ إلى فكرة مشابهة. فقد كانوا يتطلّعون إلى منح الفلسطينيّين وضعيّة شبيهة بالسيادة في الحيّ المسلم من أجل مكتب عرفات وتوصّلوا إلى فكرة وضعيّة البعثة الدبلوماسيّة. ورغم التشابه من حيث المبدأ، إلا أنّ فكرتنا كانت موجّهة إلى جبل الهيكل (الحرم). اقترحت على الرئيس أن يتوجّه أولاً إلى باراك لا ليقدّم فكرة الوصيّ بل ليرى إن كان بوسعه تسويق بقيّة الحزمة بشأن القدس لدى باراك: السيادة في أحياء خارجيّة محدّدة، والاستقلال الذاتيّ الوظيفيّ في الأحياء الداخليّة على أن يشمل التخطيط والتقسيم إلى مناطق والأمن، والمسؤوليّات المشتركة في المدينة القديمة. فإذا كان بوسعه ذلك، علينا عندئذ وضع حزمة نستطيع تقديمها إلى عرفات. ويجب أن تقدّم تلك الحزمة في البداية بدون فكرة الوصيّ. أردت أن أمسك فكرة الوصيّ، معتقداً أنّها إلى جانب وجود السفارة في القدس الشرقيّة وقيادة الرئيس لوفد دوليّ يستضيفه عرفات، يمكن أن تكون المحلّي الذي يساعد في إتمام الصفقة. لكن علينا أولاً أن نعرف ما إذا كان باراك سيقبل بأفكار القدس الباقية. ولم يقبل بها في اجتماعه مع الرئيس. قاوم باراك التخطيط وتقسيم المناطق والأمن في الأحياء الداخليّة، كما أنّ باراك يريد أن يبحث أفكار القدس مع فريقه والعودة إلينا، قبل أن نعمل أي شيء إضافيّ بشأن القدس. وقد رآني أثناء مغادرته الاجتماع مع الرئيس وأبلغني أنّه لا يستطيع أن يتحمّل قيامنا بتقديم أي تنازلات إلى الفلسطينيّين دون الحصول على المزيد منهم.
ذكرت ذلك للرئيس، وشعرت أنّ علينا انتظار ردّ باراك علينا قبل المضيّ قدماً مع الفلسطينيّين. ونظراً لأنّ الرئيس كلينتون لم يثر فكرة الوصيّ مع باراك، أبلغته أنّني سأتوجّه إلى «رجاله» وأسوّق الفكرة القريبة إلى ما ينظرون فيه الآن. لم أتمكّن لسوء الحظّ من الاجتماع مع أيّ من الإسرائيليّين، لأنّ باراك جمع فريقه، ما جعلهم غير متوفّرين. وفيما أبلغنا بأنّ جلستهم ستستغرق بضع ساعات، امتدّت الساعات القليلة إلى اليوم بأكمله. وكنّا أثناء ذلك بالانتظار. فقد شعر الرئيس، بعدما تبلّغ نصح باراك بعدم تقديم مزيد من «التنازلات» إلى الفلسطينيّين، أن ليس بوسعنا في هذه المرحلة مراجعة الأفكار معهم. لذا لم نلتقِ بالإسرائيليّين أو الفلسطينيّين.