سورية: صراع «القبائل» القومية أنهى المشروع الوحدوي العربي
غسان الإمام
* أخفق العقيد الناصري جاسم علوان في إحباط انقلاب الانفصال ثم أخفق في
قلب نظام البعث
ما زلت في زيارة للتاريخ، ولعقد الستينات بالذات، عقد الاحداث والتحولات الضخمة في الحياة السياسية السورية التي تركت بصماتها على الحاضر السوري والعربي.
وقد تحدثت في الحلقات السابقة عن سقوط القيادة التاريخية لحزب البعث، وتتبعت النهايات الحزينة للحوراني وعفلق والبيطار. ويبقى هذا الحديث مُجْتَزَأ ومنقوصا دون الحديث عن اسباب السقوط الذي كان بمثابة ارتداد عن الطابع القومي للحزب والاعتصام بالمحلية (القطرية) الضيقة. ولا شك ان اول اسباب هذه الردة هو نشوء جيل سياسي جديد في سورية، جيل شكل وعيه السياسي في الخمسينات والستينات على قراءات ماركسية تروتسكية ولينينية وماوية بل وستالينية.
لقد تركت سورية ذلك الجيل مستباحا لغزوة ثقافية شمولية مستوردة، تماما كما تترك المجتمعات العربية في هذه الايام اجيالها بلا حماية لوعيها وعقلها من غزوة ثقافية شمولية مستوردة من القرون الوسيطة التي ساد فيها النقل وتجمدت فيها المبادرة الى التفسير والاجتهاد. وقد توفرت تلك القراءات في كتب مترجمة رخيصة وهشة أُمطر بها الشارع السوري بغزارة، وكان وراءها الحزب الشيوعي والمكاتب «الثقافية» الملحقة بسفارات الدول الشيوعية في دمشق. وساعد على انتشار هذه الكتب عداء الغرب للحركة التحررية العربية وانحيازه الفاضح لاسرائيل، الامر الذي اعاق انتشار وتقبل الثقافات الانسانية المتنوعة، بما فيها الثقافة الغربية.
وتم دفع شرائح من هذا الجيل «المقولب» سياسيا وفكريا، الى حظيرة الحزب، لتشكل القاعدة التي استند اليها جناح الماركسية المراهقة بقيادة الدكاترة الثلاثة نور الدين الاتاسي ويوسف زعين وابراهيم ماخوس. وكان معظم هذه الشرائح «المثقفة» ماركسيا من ابناء الريف والاقليات المذهبية الذين يشعرون بالمرارة ازاء نظام غير منصف ومجتمع غير عادل. وما لبث هذا النجاح ان تلقى دعما لا يستهان به من «اللواء» صلاح جديد، ابرز اعضاء «اللجنة العسكرية» التي تبناها ميشيل عفلق الامين العام للحزب!
قرار قيادة عفلق في اوائل الستينات بتبني قلب النظام بالقوة واسبال نظرية «الحزب القائد» على البعث وقبوله باستخدام العسكر لتحقيق ذلك، ساعد كله على تهيئة البيئة والمناخ الصالحين لازدهار الجناح الراديكالي اللاديمقراطي في الحزب.
الواقع ان قيادة عفلق ـ البيطار التي تمثل الجناح «القومي» التقليدي في الحزب، اصيبت بالجمود والترهل بعد ربع قرن من العمل السياسي. ففي الوقت الذي اقلع الحوراني عن لعبة العسكر كانت هي تتورط فيها. وكان قرارها بالتخلي عن الممارسة الديمقراطية والكفاح الحزبي السلمي للوصول الى السلطة خطأ جسيما لم تدرك آثاره ونتائجه المدمرة الا متأخرة، وكانت هي اول ضحاياه.
لقد تمكن الحزب من تحقيق هدفه في اسقاط «نظام الانفصال» اليميني، لكن هذا النصر كان مشتركا مع حلفاء اقوى منه: الضباط المستقلون بقيادة اللواء زياد الحريري آمر جبهة الجولان، والضباط الناصريون. وقد سهل العملية الانقلابية سكوت اللواء راشد القطيني رئيس الاركان آنذاك (توفي منذ اسابيع قليلة)، فلم يصدر اية اوامر بمقاومة الانقلابيين، ويبدو انه كان ميالا الى الناصريين.
وهكذا، انتهى الصراع مع الانفصاليين، ليبدأ صراع آخر اصطبغ بالدماء لاول مرة في تاريخ سورية المستقلة. وكان هذا الصراع بين «القبائل» القومية، اقصد بين البعث والقوى الناصرية. ولا بد من الاعتراف هنا بأن البعثيين لعبوا اوراقهم بمهارة ضد قوى عسكرية ومدنية تفوقهم قوة وعددا. وتمكنوا في النهاية من التغلب عليها والانفراد بالسلطة. ولم يكن الفضل في ذلك لعفلق الذي لم تكن له قدرة استيعاب تفاصيل العمل اليومي، وانما الفضل للجنة العسكرية الحزبية، فقد اتبعت «تكتيكا» مدهشا، فضربت الناصريين في الجيش بالضباط المستقلين. وادى اللواء الحريري الذي اصبح رئيسا للاركان، دوره بغباء، فبعدما تمكن من كسر شوكة الضباط الناصريين كان من السهل على البعثيين تصفية ضباطه وتعبئته هو شخصيا في طائرة حملته الى المنفى. وتابع البعثيون عمليات التصفية الى ان انفردوا تماما بالمؤسسة العسكرية. لم يكن اللواء الحريري الغبي الوحيد، فقد كان الضباط الناصريون اكثر غباء، فلم تكن تجمعهم على كثرتهم وتفوقهم رابطة تنظيمية، ثم تركوا قطعاتهم العسكرية وتسابقوا الى رئاسة الاركان ليحتلوا المكاتب الادارية غير الفاعلة.
لكن الناصريين بعد طردهم من الجيش لم يستسلموا. فقد قامت عناصر مدنية وعسكرية منهم بمحاولة انقلابية فاشلة في صيف عام 1963، ودار قتال مرير في شوارع دمشق وحول مبنى الاركان اهرقت فيه دماء غزيرة. وتم اعدام قوافل بعد قوافل من الناصريين في محاكمات ميدانية صورية. وقاد المحاولة الانقلابية ضابط ناصري شجاع هو العقيد جاسم علوان، لكنه كان اكثر غباء من اللواء الحريري. فقد كان يعلم سلفا ان حركته مخترقة ومكشوفة، وكان يعلم انها سوف تؤدي الى سفك دماء وحظها ضعيف في النجاح. واضيف هنا الى فشل العقيد علوان فشله الذريع السابق في احباط انقلاب ضباط الانفصال. وهي قصة طريفة تستحق الرواية ايضا وليس مجالها الآن. واكتفي بالقول ان اللواء المدرع الذي كان يقوده في شمال دمشق وقع ضحية حيلة ذكية، فسمح لطليعة القوات الانقلابية بشق طريقها الى دمشق ومحاصرة المثير عامر.
واذكر اني شهدت محاكمة العقيد علوان امام محكمة عسكرية بعثية. وبدا في شجاعته وجرأته وكأنه هو الذي يحاكم رئيسها صلاح الضلي، لكن لم يجر اعدامه. ولعل البعثيين تركوه ليلوك فشله المزدوج. وما زال العقيد علوان حيا، لكن المقدم حيدر الكزبري الذي اوقعه في حيلته الذكية في ليلة انقلاب الانفصال، مات منذ سنوات قليلة. انتهى الصراع الدامي بين «القبائل» القومية بالفراق، فلم تستطع ان تتعايش وتتحاور بسلام لفقدانها الايمان بالديمقراطية. وقد تمحور الصراع السياسي بينها حول الوحدة مع عبد الناصر. كانت الفصائل الناصرية تطالب بوحدة فورية اندماجية مع مصر. وكان البعث مع وحدة «مدروسة» اتحادية. وكان الاعلام الناصري يغذي من القاهرة بلا مسؤولية لهيب الصراع بين القبائل القومية المتناحرة، تماما كما فعل في تغذيته بينها كلها و«قبائل» الانفصال.
التقييم التاريخي المنصف لهذا الصراع لا بد من ان يحمل الفصائل القومية الناصرية مسؤولية التسرع في نشدان الوحدة مع مصر عبد الناصر دون دراسة للجوانب السلبية التي ادت الى فشل الوحدة السابقة.
نعم، لم يكن بعث عفلق والبيطار جادا في طلب الوحدة، وكان طرحه شعار
«الوحدة المدروسة» من قبيل محاولة كسب الوقت ريثما يتم الاجهاز على
القوى الناصرية في الجيش والشارع. لكن القوى الناصرية تتحمل ايضا مسؤولية اهراق الدماء في محاولتها الانقلابية الفاشلة لاستعادة السلطة من البعث.
وشكل الصراع الدامي بين «القبائل» القومية في سورية صدمة لسائر القوى القومية في العالم العربي. فلم يكن جائزا اللجوء الى السلاح لتصفية الحساب بين قوى تشترك في وحدة المبادئ والاهداف والغايات. وكانت النتيجة ابتذال شعار الوحدة القومية والنظر بسخرية الى كل المحاولات لإحياء المشروع القومي الوحدوي.
وهكذا ايضا، كان لاخفاق الفصائل الناصرية السورية في استعادة الوحدة مع
عبد الناصر اثره التاريخي في رسم وجهة اخرى مختلفة تماما لسورية
الحاضر، ولو تمت الوحدة مرة اخرى لاختلف وجه الحاضر العربي ايضا
بأكمله.
ولعل الدرس الذي يمكن استنتاجه من هذا الصراع هو ان لا وحدة الا بالديمقراطية، وبالحوار وبالتراضي بين القوى القومية، وباستفتاء شعبي حر على قبول او رفض اي مشروع وحدوي. ولا وحدة دون مؤسسات دستورية حقيقية، ودون تعددية حزبية وسياسية. ولا وحدة دون مستوى اقتصادي ومعيشي واحد بين البلدان التي تنشد التوحد. ومن هنا يمكن فهم اسباب الرفض العربي للوحدة التي حاول صدام حسين فرضها على الكويت بالقوة والاكراه. لم يكد البعث يتخلص من شركائه المستقلين والناصريين حتى انفجر صراع اكثر دموية وشراسة بين «القبائل» البعثية ذاتها، صراع بين «القوميين» و«القطريين»، بين المدنيين والعسكريين، بين التقليديين والراديكاليين. وكانت كل الدلائل تشير الى ان صراع البعث مع البعث سينتهي بكارثة. لكن الانقاذ تم على يدي حافظ الاسد، وفعل الرجل ذلك بوسيلة بسيطة للغاية. فقد الغى السياسة من حياة سورية على مدى ثلاثين عاما متواصلة.