لطالما أملت بأن يأتي وقت إدلاء شهود مرحلة من تاريخ سوريا الحديث - طمست معالمها وجهّلت شخوصها لثلث قرن ونيف - بدلوهم في كشف الأحجبة والأستار عن تلك المرحلة , التي هي بالقطع واحدة من أهم الفترات المشكلة لمسار الحوادث مذ ذاك الزمان وللآن وما بعد .
أبدأ بالقول , دون مجاملة أو تحيز , أن كل قيادات تلك المرحلة 66 - 70 هي وطنية في الجوهر ... سليمة الطوية وحسنة المقاصد .
هم فتية جلهّم ريفي المنبت , مالوا لليسار لما كان الإفراط فيه هو الصرعة الدارجة , وتمثلوا النموذج السوفياتي حينما كان الأنموذج والمثال , وخلطوا بين الحماس وقدرة الفعل لحد أن توغلوا في انتهاج سياسات إقليمية بعدت عن حسابات العقل وجنحت إلى التحرق المأزوم لتصدّر ساحة العمل الثوري العربي كيفما اتفق .
لكنهم في نهاية النهار جزء من حركة التحرر الوطني العربية , نختلف معه ونتفق , ويستحق أن تراجع سيرته بهدوء الملم وحلم المنصف .
ولست للحظة من مصدقي اتهام أحد بارزيهم لأقرانه بالعمالة للمخابرات البريطانية كما صارح الأستاذ هيكل ( وفق رواية الأخير) , ولا مع إتهام أقرانه ( قبل شباط وبعده) له بالإرتباط مع ذات الجهة عند زيارته لندن عام 65 .
ذلك كله لغو لا طائل تحته ولا يصح لحصيف أن ينزلق في مساربه .
الأحياء من قيادة تلك المرحلة هم يوسف زعين ومحمد الزعبي وإبراهيم ماخوس وفايز الجاسم ومصطفى رستم وعبد الحميد المقداد ومروان حبش وحديثة مراد وسعيد طالب وكامل حسين و ... حبيب حداد .
والأخير هو الوحيد الذي تقدم للآن بشهادة - وجيزة - عن 67 , لكنه امتد بالعرض ليغطي الصراع الداخلي بين الحزب - وهو من مجموعته - والجيش , فانصرف جهده عن التركيز على فترة 66 - 67 إلى بيكار زمني أفسح يلبي رغبة الكاتب في تصفية الحساب مع من كان رفيقه في الحزب والحكم .......... حافظ أسد .
وبدءاً ًفإنني أناشد باقي الأحياء أن تقدموا وقولوا كلمتكم سيما وشهادة د. حداد محدودة في الإتساع والعمق , ولا تفي بعشر معشار ها هو مسكوت عنه ومدارى .
أبدأ بمجموعة من أخطاء التأريخ - بل والرأي - رصدتها في ورقة د. حداد :
1. كان محددا لزكريا محي الدين أن يلتقي ليندون جونسون في واشنطن يوم الأربعاء 7 يونيو وبالتالي يغادر إليها في 6 يونيو .
زكريا كان في القاهرة يوم 5 يونيو وطيلة أيام الحرب بعده.
2. عبد الناصر أرسل للقيادة السورية مساء الخميس 8 يونيو إخطاراً بقبوله وقف إطلاق النار , ونصحه إياها بعدم توريط الجيش السوري بأية عمليات تعرضية والإلتزام بوقف إطلاق النار وقاية للجبهة والجيش من غائلة الإستفرادالإسرائيلي .
إذن إستلام البرقية كان في الثامن وليس العاشر من حزيران .
3. بدأ الهجوم الإسرائيلي على الجولان يوم الجمعة 9 حزيران وليس الثامن , واستمر حتى مساء العاشر منه وليس الثاني عشر .
4. معركة القدس كانت نقيض نظيرتها في حرب 48....... لم يكن هناك قتال ضار ولا من يحزنون ....وللعلم فعدد شهداء الجيش الأردني أيام 5 و 6 و 7 يونيو هو 16 شهيداً ... وسقطت الضفة والقدس في السابع .
5. مؤتمر القمة العربي بعد الهزيمة كان في 29 آب وليس في تموز... ربما قصد د. حداد مؤتمر القمة المصغر في القاهرة في تموز والذي التقى فيه عبد الناصر للمرة الأولى مع اللواء صلاح جديد .
6. فلاديمير فينوغرادوف لم يعين سفيراً في القاهرة إلا في صيف 70 قبل وفاة عبد الناصر بقليل .... السفير بعد الهزيمة هو سيرجي فينوغرادوف
7. لم يتطرق د. حداد بكلمة إلى ما جرى في اجتماع القيادة القطرية بعد الهزيمة مباشرة والذي فيه طالب اللواء صلاح جديد بإقالة وزير الدفاع ورئيس الأركان من منصبيهما لمسؤوليتهما عن الأداء الهزيل للجيش السوري في الحرب......... ثم عندما طرح الإقتراح للتصويت سقط بفارق صوت واحد هو - للمفارقة - صوت عبد الكريم الجندي .
8. الفوارق البينة بين النهج الذي اقترحه حافظ أسد ونهج القيادة المدنية لم يتبلورويتحول إلى خط فالق إلا في المؤتمر القطري المنعقد في أيلول 68 ....في آب 67 كان أسد بالكاد يتملص من تأثيرات الهزيمة على وضعه , ومنهمك في إعادة تنظيم الجيش ( زار موسكو ذاك الشهر) بما يعيقه عن تنكب طريق الصراع السابق لأوانه مع عتاولة الحزب ..
أخشى أن هناك خلطاً بين المؤتمرين .
9. مبادرة روجرز التي قبلها عبد الناصر ونصت على وقف مؤقت- 3 شهور- لإطلاق النار كانت في تموز 70 وليس في 69 .
10. يكرر د. حداد لأزمة حرب اليمن وتأثيراتها الفادحة على الأداء العسكري المصري في سيناء .. تلك مقولة تكتسي بالخطل من رأسها لرجليها : كان في اليمن فرقتا مشاة عند بدء التوتر في مايو 67 , فيما القوات المدرعة والآلية مع جل المشاة كلها في مصر , ومعها السواد الأعظم من سلاح الجو والقوات الخاصة . وبعد أن تصاعد التوتر سحب من اليمن ألوية ثلاث لتملأ فراغات الطور وخليج السويس .
لليمن دور في تحفيز واشنطن على تدمير عبد الناصر.... هنا لِب المسألة وليس غيرها .
11.لم يكن عبد الناصر مطمئناً إلى استبعاد نشوب حرب .. هو رفع احتمالها إلى 80% مع إغلاقه لخليج العقبة يوم 22 مايو , ثم تأكدت قناعته من وقوعها في الأول من يونيو حين تولي موشي ديان وزارة الدفاع وبدأ توجه القوات العراقية للضفة الغربية .
نأتي الآن إلى نقاش في العمق حول ما جرى وكيف :
1 - إستمر نظام 23 شباط في تبني حركة فتح حليفاً , وافساح المجال لها للقيام بعمليات تنطلق من سوريا وعبر لبنان والأردن , بتواتر أشد مما كان عليه الحال في السنة الأخيرة - 65 - لحكم الإئتلاف البعثي .
حكم تقييمه للأمور أن إسرائيل لن تتصرف بعنف يفيض منسوبه عن عمليات فتح , وأن الإتحاد السوفياتي لن يسمح بتراجع إستراتيجي سوري أمام إسرائيل , وأن مصر عبد الناصر مضطرة لتوفير غطاء عربي لسورية وإن دون اقتناع بما تفعله - أي سوريا - .
ولعله غاب عن أذهان القيادة حينها أن مسائل الحرب والسلام لا تعالج بمنطق المغامرة أو الإحراج وكسب النقاط , دون وافر استعداد لتقبل تحدي التصاعد والتصعيد من الخصم , وما يعنيه ذلك من احتمال الدخول في حرب إقليمية... محدودة كانت أم شاملة .
كانوا يتماهون مع عبد الناصر ويغارون منه .. يطلبون رضاه وحماه ويقصرون عن توفير متطلبات هكذا حماية ( رفضهم لمنح قواعد للطيران المصري في سوريا مثال) .. يزايدون عليه - وإن بقدر أخفت من أيام الإئتلاف البعثي - ثم ينتظرون هرعه لترداد : أطلبوا وزيدوا.
والحاصل أن تشدد نظام النيو- بعث فلسطينياً وقومياً صاحبه وهن عضلي وخيم لمؤسسته العسكرية تسببت فيه التسريحات الواسعة النطاق التي شملت بضعة الاف من الضباط الناصريين والإنفصاليين والبعثيين , بدأّ من اذار63 ووصولاً إلى أيلول 66 .
ولعمري فإن تلك كانت وصفة مثالية لأداء قتالي فاشل في أية مواجهة كبيرة مع إسرائيل ... وهكذا كان .
2 - في مايو 66 طلب أليكسي كوسيغن رئيس الوزراء السوفياتي من عبد الناصر - عند زيارته إياه في القاهرة - أن يشمل برعايته نظام النيو - بعث الجديد , لسببين : حمايته , وهو المفضل عند السوفياتي من سلفه بعث اليمين , واحتواؤه وهو المصاب بنزعة تشدد غير محسوب أحيانا .
إستجاب عبد الناصر فعرض في 23 يوليو 66 ترتيبات دفاعية مشتركة مع سوريا , ثم ما لبث أن ترجم ذلك في إتفاقية دفاع مشترك مطالع نوفمبر 66 , في أعقاب تهديدات إسرائيلية متكاثرة طيلة الخريف , وعشية ابتعاث المشير عامر لموسكو .
أراد عبد الناصر بالإتفاق لجم النيو - بعث عن الإنزلاق أكثر في مشوار تصعيد سابق لأوانه قد يؤدي لعواقب تفوق التوقع .
إتسقت حركة عبد الناصر مع إيقاع نهجه العام تجاه إسرائيل منذ أعقاب حرب السويس , وهو باختصار التنائي عن حرب مع إسرائيل قبل تنفيذ خطتين خمسينيتين للتنمية , وقبل امتلاك أسلحة الدمار الشامل .
لكن رقصة التانغو تحتاج لراقصين , وفي حالتنا هذه فنوتة كل من الطرفين -السوري والمصري- مغايرة للأخرى .
في دمشق تصرف أهل النظام وكأن الإتفاق أعلاه هو ضمانة حماية تمكنهم من رعاية المزيد والمزيد من " العمل الفدائي" , والذي به يبدون وكأنهم الساعون للتحرير, فيما غيرهم - وبالأخص عبد الناصر- قابع في مكانه كنمر من ورق .
والحاصل أن الثلث الأول من 67 شهد تصعيداً " فتحاويا"ً ملحوظا من قاعده إنطلاق سورية .
وفر ذلك النهج الذريعة لإسرائيل لتشن هجوماّ جويا واسع النطاق شاهده قاطنوا دمشق بأم أعينهم وشهدوا فيه سقوط 6 مقاتلات ميغ فوقها في السابع من نيسان .. إعتبر عبد الناصر هذا الهجوم , معطوفاً على سلفه هجوم السموع في نوفمبر 66 بالضفة الغربية , شأن لا يمكن السكوت عنه , وأن أي مزيد من أعمال الاستفزاز يستوجب تحركاً مضاداً يربك إسرائيل - ومن خلفها الولايات المتحدة - منتزعا منهما زمام المبادرة , ومرسيا قواعد جديدة للعبة الإستراتيجية في المنطقة .
3 - عند بداية الأسبوع الثاني من مايو تقدم السوريون بمعلومات إستطلاع جوي للسوفيات والمصريين تفيد باحتشاد 4 فرق إسرائيلية جنوب غرب الجولان السوري تمهيداً لهجوم واسع النطاق على الجولان .
تثبت السوفيات من الأمر وأخطروا زائرهم أنور السادات في الثاني عشر منه بمعلوماتهم مع طلب توصيلها لعبد الناصر .. وتم ذلك في اليوم التالي .
اتخذ عبد الناصر في 14 مايو قراره بحشد 4 فرق مصرية في سيناء - إضافة للفرقة المرابطة هناك - وإرسال رئيس أركانه - الصوري - الفريق أول محمد فوزي إلى دمشق للتثبت من المعلومات ولأغراض التنسيق بين الجيشين .
تمت وجود فوزي بدمشق عملية استطلاع جوي جديدة بينت أن حشد الفرق الأربعة قد ناله شبه تبخر.
كيف ذلك ؟ ..
فصلت أيام ستة بين التبليغ الأول وبين إعادة الإستكشاف قام الإسرائيليون خلالها بعمليات حشد وإعادة توزيع , ثم حشد وإعادة تموضع من جديد , تكفل لخصمهم الإصابة بدوار شديد وفقدان توازن وضبابية شديدة في الرؤية .
صاحب ألاعيب الحشد هذه تهديد رئيس الوزراء ليفي أشكول بأن صبر إسرائيل على سوريا قد نفذ , وأن عملاً مدوياً في الطريق تأديبا لها... ثم لحقه يوم 12 مايو رئيس أركانه إسحق رابين ليعلن أن غزو دمشق وإسقاط نظامها , ثم العودة للعمق , أضحا أمر اليوم .
لم يعد مهماً إن كان الحشد على أشده يوم 14مايو أم كان قد تلاشى حينها .. أصبحت المسألة هي تقليم أظافر إسرائيل وتكسير ردعيتها بشكل من الأشكال .
بدأ تحرك الإحتشاد المصري يوم 15 مايو , وبقناعة أن احتمال الحرب هو 20% , ثم وصل الإحتمال إلى 50% عندما سحبت القوات الدولية من سيناء وغزة في 18 مايو.
إستبق بدء الإحتشاد التوقيت المعتمد- 17 مايو - لحملة غزو إسرائيلية لسورية , فقاد لالغائها, وتوجيه قواتها شطر الجنوب المصري حيث هناك ستخاض المواجهة إلى منتهاها .
منذ يومها- 15 مايو- بدأ نظام دمشق يحس بأنه أصبح شاهداً على الحوادث لا فاعلاً فيها , وأن عبد الناصر غدا سيد اللعبة من ألفها ليائها .
إنتابه القلق لهذا التهميش فسعى للّحاق بالعجلة.... ذهب إبراهيم ماخوس لعبد الناصر غداة قرار الإحتشاد , ثم أتاه يوسف زعين غداة قرار غلق خليج العقبة , يحاولان أن يرصدا ما يجول في تفكيره وإلى أين تسير المسائل .
كانوا قلقين على أوضاع جبهتهم وجيشهم - ومن ثم نظامهم - ان تحولت المسألة إلى جد الجد، فهم أدرى بهزال ما عندهم وضموره .
4 - سأروي هنا حدثاً كنت شاهداً عليه بأم العين : كانت الثامنة وأربعين دقيقة من صباح 5 حزيران وأنا أستمع لنشرة أخبار إسرائيل عندما أورد المذيع خبراً عاجلاً عن قيادة الجيش الإسرائيلي فحواه أن قوات مدرعة مصرية إخترقت النقب في هجوم كبير وأن معارك تدور هناك .
كنت قبلها بدقائق أسمع عن إتفاق إرسال زكريا محي الدين يوم 7 يونيو... تساءلت - وأنا إبن الخامسة عشر حينها - كيف السبيل للتوفيق بين الأمرين ! ثم ما لبثت أن سارعت لاستنتاج أن خبر الهجوم المصري مفبرك وأن الهجوم إسرائيلي .
حرفت ابرة المذياع إلى إذاعة القاهرة لسرعان ما أسمع في الثامنة وخمسين دقيقة نبأ بدء الهجوم الجوي الإسرائيلي على قواعد الطيران المصري .
هرعت في التو واللحظة إلى سطح منزلنا في فيلات المزة الغربية بدمشق , والمطل على مطار المزة العسكري .
مكثت هناك , مع المكبّر وإبريق الشاي والمذياع , لما ينوف عن ساعات أربع , أرقب ما يجري وأصله بما أسمع .
كان باديا أن الأمور تجري كالمعتاد , والمقاتلات مصطفة في العراء لا تصعد السماء ولا تبدي حراكاً .
مرت الدقائق ثم الساعات وليس من حركة ولا تحليق ولا من يحزنون حتى وصلت الساعة إلى الثانية عشر و10 دقائق ظهراً .
عندها ظهرت فجأة وعلى ارتفاع منخفض أعداد من طائرات السوبرميستير والميراج بلون يقارب السواد لتنقض على مقاتلات الميغ وتشعل بها عاصفة من النار والدمار أتت عليها الواحدة تلو الأخرى .
أسأل : كيف لذلك أن يحدث وقد توفرت للطيران السوري فترة إنذار مثالية طالت لثلاث ساعات ونصف كان يمكنه خلالها الابتعاد إلى حلب والشرق , مع تشكيل مظلات جوية متوالية تكفل احباط احتمالات التدمير واسع النطاق .
كانت الفرصة سانحة - بالمقابل - للاغارة على مطارات اسرائيل الشمالية , فيما طيرانها مشدود على الاخر في مهمته المصرية .
لا شيء ... لا شيء على الإطلاق ... وإنما انتظار التدمير دون أي مبرر سوى التقصير وانعدام الكفاءة .
ماذا فعل السوريون طيلة أمام 5 - 8 حزيران ؟
لا شيء سوى القصف البعيد لمستعمرات الشمال الشرقي بالمدفعية .. لا إغارات قوات خاصة ولا هجومات موضعية هنا أو هناك داخل إسرائيل .
هي غارة جوية يتيمة وفاشلة على مصفاة حيفا , وتحريك لواء مشاة لداخل الأردن نجدة لقواته المتهالكة ........ والحق أن عبد المعين لم يكن قادراً على العون بل هو في أمس الحاجة إليه .
دبّ الذعر في أوصال أهل النظام مع نهاية الثامن من حزيران , حينما قرؤوا بانتباه برقية عبد الناصر المؤذنة بخروج مصر من الصراع المسلح.
أحسوا أن الأرض تميد من تحتهم وأن مصيرهم تحت رحمة إسرائيل التي , وإن قبلت قرار وقف أطلاق النار , إلا أن احتمال انطلاقها للحرب على سوريا معزز بفتحها للضفة والقطاع وسيناء .
هرعوا لنور الدين محي الدينوف وسفير الفاتيكان وبعض السفراء الأوروبيين يطلبون النجدة تحوطا من الأسوأ القادم .
لكنه أتى يعصف بكل ما في طريقه طلباً لجولان كان طيلة الفترة منذ حرب 48 مصدر صداع لا يلين ولا يهدأ لإسرائيل .
5 - والحق أن أسطورة منعة الجولان عن أي اختراق أو التفاف لهول تحصيناته ونجاعتها لا تصمد أمام أي تحليل علمي للحروب.. ماضيها وحاضرها....
كل الخطوط قابلة للسقوط وكل التحصينات ممكنة الإختراق .
من هنا فإن خرق المحور الشمالي لم يكن ضربا من المحال .
ما كان فجاً وسمجاً وفاشلاً هوتهافت قوات الجبهة وانكسارها السريع , النفسي أولاً ثم العملياني , فيما كان الصمود أقل كلفة من تراجع غير منظم أودى بالسمعة والأرض والسلاح إلى قاع بلا قرار.
يروي د. حداد أن مسؤولية البلاغ الصادر في العاشرة من صباح السبت 10 حزيران عن سقوط القنيطرة تقع على عاتق محمد الزعبي وزير الإعلام .
والحاصل أن هكذا إعلان هو قرار قيادة لا فرد , و أن فهلوة من فكروا و قرروا قدّرت أن اعلانا كهذا سيجبر السوفيات على التحرك على عجل لوقف الاندياح الإسرائيلي إلى دمشق .
ثم حين أعملوا فكرهم بأعمق تبينوا أن الإعلان سيؤدي لامحالة الى فوضى عارمة في الجبهة وخسائر هم في غنى عنها .
تحرك السوفيات منذ التاسع وأبلغوا جونسون أن شمال القنيطرة خطر أحمر .
لم يكونوا بحاجة لبلاغ القنيطرة , إذ بعد استقالة عبد الناصر مساء التاسع من حزيران ماعاد من مفر أمامهم إلا حسر التغول الإسرائيلي في الشمال .
والحاصل أن رئيس أركان الحرب - والذي تولى قيادة قوات الجبهة مع بدء الحرب - اللواء أحمد سويداني قد توفي منذ فترة , ثم لحقه قائد الجبهة والذي تحول إلى قائد لقطاعها الشمالي - مع تولي سويداني قيادة الجبهة - العقيد أحمد المير , وبقي من شهودها المهمين اللواء سعيد طيان واللواء عبد الرزاق الدردري - وهما قائدي القطاعين الأوسط والجنوبي للجبهة - , واللواء عبد الرحمن خليفاوي رئيس المحكمة العسكرية التي حاكمت مقصري الأداء .
هم مطالبون بالشهادة فيما ذاكرتهم تستطيع الإعانة , وكما فعل أقران لهم في مصر بغزارة ناظرت التقتير السوري .
والثابت أن ما أصاب عبد الحكيم عامر بعد ظهر الثلاثاء 6 حزيران ( عندما أصدر قراره - ولما تنقضي ثلاثون ساعة بعد على بدء القتال- الأرعن والمدمر بالإنسحاب الشامل من سيناء عبوراً للضفة الغربية للقنال في 24 ساعة ) من شلل تفكير وانهيار أعصاب وضحالة في التدبير, ضربت أيضا القيادة الحاكمة في سوريا منذ مساء الثامن من حزيران وحتى مساء العاشر منه , بل و منذ صباح الخامس عندما فشلوا في استثمار الإنشغال الإسرائيلي بالسماء المصرية للإغارة على مطارات الشمال , دعك عن حماية طيرانهم ذاته من التدمير, وفي صالحهم ساعات إنذار أربع ثمينة .
يخبرنا د. حداد أن القيادة درست في اجتماعها عند بداية الحرب مقترحاً متكاملاً عرضه اللواء صلاح جديد ( وهو بالمناسبة ليس الأمين القطري المساعد بل الأمين العام المساعد لشؤون القطر .. هناك أمين عام مساعد ثاني هو محمد الزعبي ) ويشمل دخول الحرب على الفور وضرب المستعمرات الإسرائيلية , ثم حماية الطيران السوري من العدوان , والتنسيق مع المصريين .
والحق أن أيا من هذه العناصر لم يتحقق بالمعنى الجدي للكلمة .... فلا الطيران نجا , ولا التنسيق جرى , ولا القصف حتى كان مجديا .
ما هي قصة الهجوم المضاد المنتوى ليقوم به اللواء المدرع 70, ولماذا ألغي ومتى ؟
من هم عناصرقيادة العمليات المفروزة من القيادة القطرية لتساهم مع وزير الدفاع ورئيس الأركان في إدارة المعركة ؟ وما الذي فعلوه وأثروا به في مجال صنع القرار طيلة أيامها الستة ؟
ماذا كان دور اللواء صلاح جديد بالذات يليه العقيد عبد الكريم الجندي ؟
أصل من ذلك كله لتلخيص قسمات حزيران السوري على الوجه التالي :
1. أن حرب 67 كانت غير لازمة , وبكلمة أدق سـابقة لأوانها بسنوات ثلاث تقريبا ... مسؤوليتها من حيث السبب والذريعة تقع على عاتق نظام النيو - بعث بدمشق وحركة فتح الفلسطينية منفردتان ومجتمعتان .. أما مسؤوليتها من حيث تصعيد مسار الحوادث - وصولاً لحتمية الحرب - فهي على عاتق جمال عبد الناصر , علماً أن كارثية النتائج هي مسؤولية القيادتين العسكريتين في القطرين , وبحسبان أن المسؤولية النهائية تلتف حول أعناق مراجعها السياسية .
2. أن الخفة التي تناول فيها نظام النيو- بعث مسائل الحرب والسلام ومزايدته البادية , فيما أوضاع استعداده في الحضيض , هي سمات وسمت شرائح من النخبة السياسية السورية تفيض عنه ..... وزمن الإنفصال شهيد , سواء من أهل اليسار أم اليمين فيه .
3. أن الحرب وقد قامت , ما كان من داع لها - بالقطع - لتنقلب إلى كارثة , رغم كل سوءات الإستعداد وتواضعه هنا وهناك .
كان يمكن لقوات خط الدفاع الأول في سيناء أن تصمد على الخط المجهز هندسياً من الشيخ زويد إلى تمد , ثم تنكفئ عند الحاجة إلى خط المضائق الحصين طوبوغرافيا .. هذا رغم اختراق المحور الشمالي عند رفح في اليوم الأول , اذ كان احتواء الخرق ممكناً باستخدام الفرقة الآلية الثالثة المرابطة على خط الدفاع الثاني في الحسنة , مع لحظ أن التحام القوات البرية يخفف من مزايا التفوق الجوي لأحد الطرفين .
أما في سوريا , ومع التسليم بأن اختراق أي قطاع مهما بلغت منعته ممكن بل وجداً , إلا أن ذلك لا يجب أن يكون آخر المطاف , فالمناورة بالقوات كانت كفيلة بحصرالإختراق وسد منافذه , بل والالتفاف حوله منعاً لسقوط كامل الجولان ... ولا حتى بعضه .
صحيح أن الإستفراد الإسرائيلي قد يملأ النفوس خشية وتوجساً , إلا أن صموداً لأيام ثلاثة كان جديرا برد غائلته , إذ أن موسكو حينها وصلت إلى خط النهاية في صبرها واحتمالها الإندفاعة الأمريكية الهوجاء نصرة لإسرائيل وفتوحاتها , و التي جسدت على الأرض تكليفاً أمريكيا محدداً فحواه إسقاط نظام جمال عبد الناصر , ومكافأة القائم على ذلك التكليف في الشمال والشرق
حزين حزيران دمشق , ومحزن ما أفضى إليه من خطب دهمنا دون وافر داع أو سبب .