.. وكأنه لم يسمح خلافا لحركة التاريخ لأية مياه
أن تمر تحت جسوره * بعد 19 شهرا من الحرب: لبنان
تحت الوصاية السورية
مثيرة وثرية بكل معنى الكلمتين هذه الحلقات عن ما
يحدث في لبنان، لا لأن كثيرا مما يدور فيه اليوم
برغم مرور ثلاثين عاما على هذه الوثائق يقترب مما
قالته الوثائق، ولكأن لبنان لا يريد لجسوره أن تمر
من تحتها المياه، ولكن لأن دبلوماسيا في قامة
السير بيتر واكفيلد سفير بريطانيا في بيروت قد
تحدث عن رواج نظرية المؤامرة لدى العرب وشعوب
الشرق الأوسط ، بما أوحى أن نتدبرها فعلا، بدون أن
نقع في شراكها لنقول إن بريطانيا منذ عام 1975
اختارت لمحطاتها في تلك المنطقة الساخنة
دبلوماسيين من الوزن الثقيل كما يقولون. فذهب
السير ويلي موريس الى القاهرة، والسير بيتر
واكفيلد الى بيروت، وغادر جي.سي. ماسون إلى
إسرائيل، والأهم غادر جيمس كريغ وزارة الخارجية
وهو الذي يقيم رسائل السفراء من وراء البحار من
لندن، ذهب الى دمشق، فلم هذا التركيز الساطع على
تلك المنطقة ؟.
لا علاقة بنظرية المؤامرة بهذه الاختيارات، ولكن
لها علاقة بالوصف الذي قلناه بأنها جعلت وثائق عام
1977 مثيرة وثرية بحكم البصمات التي يضعها الفرد،
أي فرد، حين يكون ممسكا بتفاصيل قضيته على ما يطرح
.
صحيح أن الأحداث ذاتها في المنطقة كانت عالية
السيولة، ولكن الصحيح أيضا أن هذا الفريق من
السفراء قد تناول الأحداث بصورة غير مألوفة في
غالب وثائق السنين الماضية، وأعطاها طعما ولونا
خاصين بل ورائحة خاصة، فتلاقح فيها التقرير بلغة
الصحافة مع التاريخ والأدب والتحليل الدبلوماسي.
منذ أولت هذه الصحيفة موضوع الوثائق اهتماما خاصا
منذ عقد من الزمان بدون غيرها من الصحف العربية.
عبر حلقات لبنان انفتحت بجرأة ملفات وملفات،
وبعضها لأول مرة عن لبنان تحت الوصاية السورية
بنبوءة مسبقة، وفلسفة الموارنة، وأمراض لبنان،
مثلما شاركت إدارة البحوث بالخارجية البريطانية
بصورة عضوية في التعليق على تقارير السفراء. كل
ذلك كان وراء حكمنا على كونها ثرية، وكونها مثيرة
في ذات الوقت.
* وثيقة رقم: 18/77
* التاريخ: 4 يناير 1977
* من: السفير بي. جي. واكفيلد، بيروت.
- الى: وزير الدولة بالخارجية، لندن، سري للغاية.
* الموضوع: لبنان تحت الوصاية السورية
* سيدي:
1/ أتشرف بتقديم بعض الانعكاسات حول مستقبل هذا
البلد الذي خرج لتوه من أورام 19 شهرا من صراع
عنيف، فقد فرضت قوات الردع العربية ADF، والمكونة
في نحو 90% منها من القوات السورية وقفا لإطلاق
النار. فهل الأمر ليس بأكثر من ذلك؟. وهل استعاد
لبنان سلاما حقيقيا سيبقى حينما تنسحب القوات
العربية؟. لا أعتقد أننا في وضع يمكننا من الإجابة
على هذه الأسئلة المركزية، إذ وبصرف النظر عن
الشكوك حول التماسك الداخلي، فلبنان معرض جدا
للتأثيرات الخارجية، والمكائد التي علينا أن نكون
في وضع يمكننا من التنبؤ بمسار أحداث الشرق
الأوسط، وخاصة الصراع العربي الإسرائيلي، إذا كان
لنا أن نبدأ بالتحدث عن المستقبل في لبنان.
2/ اعترف لي الرئيس سركيس أنه متفائل على مدى
المستقبل القريب، فللأشهر القليلة المقبلة لديه
قوة من عدة آلاف من الجنود السوريين لحفظ النظام،
فلن يكون هناك مدى لقتال كبير خلال هذه الفترة ،
فيما عدا في الجنوب حيث منعت قوات الردع العربية
من التدخل نزولا عند الاعتراضات الإسرائيلية.
وستكون هناك بالطبع انفجارات متقطعة للعنف بين
الجماعات المتعادية وحوادث القتل الشخصية بدوافع
الانتقام. وإذا كان للعون الإنساني أن يقدم
بكفاءة، فسيكون من الممكن تجنب الشغب الناتج بسبب
الضغوط الاقتصادية، فيما يمكن إبقاء حوادث السرقة
والاختطاف محدودة. ستكون هناك خلال هذه الفترة
انفجارات للعنف متواصلة بين جماعات المقاومة
الفلسطينية على أرضية السياسة الصحيحة تجاه
إسرائيل، وسينشط السوريون في صراع السلطة هذا عبر
منظمتهم الفلسطينية التي يفضلونها، مدعومين بتهديد
القوات السورية في قوات الردع العربية الذين تحاصر
بنادقهم معسكرات اللاجئين.
3/ في غضون ذلك سيرتفع نفاد الصبر المتوالي من
القوات السورية من وتيرة الاحتكاكات والعنف من وقت
لآخر. وبرغم المخاوف، وخاصة بين المارونيين، بأن
من الممكن أن يكون خروج السوريين من البلاد صعبا،
فاللبنانيون الآن سعداء جدا بنهاية الاقتتال
والمتاعب وأن العلاقات جيدة. وقد أظهر الجيش
السوري عبر الأداء، إلى حد كبير، صورة حسنة
وملحوظة. ولكن من الصعب الاعتقاد أن هذه العلاقة
السعيدة ستستمر إلى 12 شهرا أو أكثر مع أناس مثل
اللبنانيين قلقين وعنيفين ومتقلبين. ولذلك فربما
ينجر السوريون نحو تدخل متزايد، وسيجدون أن من
الصعب احتمال الحرية الخارجة من الفوضى في لبنان،
وهي حرية نادرا ما تمتعت بها سورية أو فهمتها،
وسيتعرضون لإغراء أن يحولوا صورة لبنان الجديد
بصورة سورية. وستنمو بالتأكيد قوة اللبنانيين مرة
أخرى متغذية من ممارسة أجهزة السوريين السرية
والتي ستكون نشاطاتها واضحة شيئا فشيئا. والى ذلك
فاحتلال رجال مسلحون لست صحف بيروتية مثال على
تشوش السوريين وفهمهم الأخرق، مهما كانت أهمية بعض
السيطرة على الصحافة اللبنانية، وبالتأكيد فأفعال
كهذه قد جاءت بتوجيهات سورية، معوقين سلطة الرئيس
اللبناني وولادة دولة لبنانية. والرئيس سركيس وهو
على اقتناع بأن اقتصاد خدمي مثل الاقتصاد اللبناني
تمكن إدارته فقط عبر نظام المؤسسية الخاصة، يمكن
توقعه وهو يقاوم الضغوط الاشتراكية السورية بقدر
ما يستطيع. وبما أن سركيس نفسه محوري في مسألة
شرعية الوجود السوري في لبنان، فإنه يملك قدرا من
النفوذ في جهوده لدفعهم لجهة تخفيف طرقهم العنيفة
تقليديا.
4/ وكلما تسارع إحلال القوات السورية والقوات
الأخرى بقوات لبنانية، كلما كانت الفرص أفضل
لعلاقات سلسة مع سورية. والخطوة الأولى هنا تكمن
في إعادة تنشيط قوات الدرك اللبنانية لتسلم مهام
الشرطة من قوات الردع العربية، وهذا ليس بالأمر
الصعب لأن البوليس ذاب وابتعد في ذروة الصراع ولم
ينقسم الى جماعات إنذار كما فعل الجيش. ومع ذلك،
سيأخذ الأمر وقتا أمام رجل البوليس المسلم ليعمل
بثقة في منطقة مسيحية والعكس أيضا صحيح. وتواجه كل
المنظمات بما فيها الوزارات كراهية العاملين
والمسؤولين في الطائفة الواحدة، أو رفضهم، للعمل
في الجانب الآخر، مع أن مسألة كهذه ستخبو مع مرور
الزمن. أما مسألة إعادة تأسيس الجيش، فهذه مشكلة
أعمق بكثير. وكما لم يتوقف مطلقا بيير الجميل عن
التنبيه والوعظ، فالجيش هو عظم الظهر للدولة. ومن
هنا فالقواعد التي ستقوم عليها عملية إعادة
تكوينه، ستعكس القرارات لشكل لبنان المستقبلي ككل.
ولهذا السبب، وبسبب العداءات الحادة بين الجماعات
المتنافسة في الجيش، وبعضها حارب بقوة في الحرب،
ستكون عملية إعادة بناء الجيش عملية بطيئة. وهذا
يستلزم إبقاء قوات الردع العربية لسنة على الأقل،
وكذلك سيؤخر السيطرة على الحدود الجنوبية.
5/ بعد 19 شهرا من القتال لم تحل أي من أسباب
الحرب اللبنانية، ولا أستطيع اكتشاف أي إجماع حول
الطريقة التي يمكن بها إعادة بناء لبنان،
فالتناقضات القديمة باقية، وسيكون من الصعب
الاتفاق على التغييرات، ومع ذلك، وبنفس القدر،
سيكون من الصعب أيضا أن توضح للمتقاتلين أن
خسائرهم ومعاناتهم تخدم فقط عدم الحصول على لبنان
الذي كان موجودا من قبل. والقادة السياسيون في وضع
غير مرغوب فيه بأن يمتلكوا محاولة تبرير سياساتهم
التي جاءت بكارثة كهذه. فمعادلة 1958 (لا منتصر
ولا مهزوم) نادرا ما تفي بالغرض بعد نزيف للدم
كهذا. وسركيس مقتنع بأن المجيء بالقادة المتنافسين
لمناقشة الإصلاحات في هذه المرحلة، فيما العواطف
لا تزال ساخنة، سيجلب الاختلافات أكثر من الاتفاق.
ولذلك حاول أن يتجنب المسألة بتشكيل حكومة من غير
السياسيين مكلفة بتوصيل الاقتصاد لمرحلة القدرة
على السير مرة أخرى، في الوقت الذي يواصل هو وقوات
الردع العربية إعادة تأسيس الأمن. ولكن السؤال هو
الى أي مدى يستطيع تأجيل الحوار السياسي؟. فعليه
على سبيل المثال أن يتخذ بعض القرارات الصعبة
عاجلا، وبينها إعادة تكوين الجيش، فيما يعتبر
تكوين هذه الحكومة الجديدة من إداريين أمناء
ومؤهلين في ذاته رحلة هامة للمبدأ، فإذا نجحت
اقتصاديا، فستذبل قوة السياسيين الإقطاعيين، وهذا
مصير لن يتقبلونه برباطة جأش، وسيصبحون على حالة
من التململ ويحاولون أن يهزوا جرة النقاش السياسي
ويمارسوا الخداع مرة أخرى لأجل أهدافهم النهائية
الخاصة. من هنا فربما يكون لسركيس أشهر قليلة بين
يديه.
6/ ما هي الاختلافات الداخلية التي جاءت بهذه
الحرب المرهقة ؟. وتجدني أتردد في استخدام مصطلح
الحرب الأهلية لأن لبنان عانى من تدخل خارجي مكثف.
فالمقاتلون في (الجانب المسلم) إنتهوا بأن أصبحوا
فلسطينيين، وهم الذين يعتبرهم اللبنانيون أجانب
بصورة طبيعية جدا. الأسباب الظاهرية والداخلية
للنزاع تشمل التوازن الدقيق أو الحرج لتقاسم
السلطة بين الطوائف السبع عشرة التي كونت لبنان.
ويقع تضارب المصالح الأساسي بين المسيحيين
المارونيين والجاليات المسلمة. فمع استقلال لبنان
عام 1943، حصّن الموارنة أنفسهم جيدا بحجزهم
لأنفسهم مواقع هامة في الدولة مثل منصبي الرئيس
وقائد الجيش، مدعومين بأغلبية مارونية في مجلس
النواب. ومع مرور الزمن تزايدت أعداد المسلمين لحد
أصبح ذلك الواقع لا يمثل القوة السكانية، فأراد
المسلمون إصحاحا لحالة اللا توازن، وتخوف الموارنة
من أن الطبيعة الخاصة للبنان المسيحي ستضيع، فقرر
بعض قادتهم المقاومة. إنخرط في هذا الصراع وزن ما
يقارب نصف مليون يتكونون أساسا من مسلمين وثوريين
فلسطينيين. وأقام الزعيم الفلسطيني عرفات تحالفا
محاربا مع جنبلاط، ومجموعات متنافرة من محاربين
يساريين وقادة عصابات. ومن الغريب، أن جنبلاط،
وبرغم كونه رئيسا تقليديا لنصف الدروز لم يخاطر
بإشراك أتباعه من الدروز في القتال، فوقفوا على
جانب الصراع. أما نوعية قادة الدروز الآخرين فهم
ولسوء الحظ فقراء جدا، لحد من غير المحتمل معه أن
تمارس الجالية تأثيرا إيجابيا في إعادة بناء لبنان
فيما تملي ذلك عليهم مصالحهم.
7/ سيستمر النقاش لوقت طويل حول ما إذا كان
المسلمون اللبنانيون قد استغلوا الفلسطينيين، أو
العكس، في هذه الحرب. وبما يفي بالغرض القول إن
القادة يعتقدون أن مصالحهم تتطابق وأن عليهم أن
يعزز كل منهم الآخر، وجاء التحالف في سياق كسب
السيطرة على لبنان فيما تحقق الرئيس السوري في ذات
الوقت من مخاطر انتصار كهذا، فحول دعمه، فيما بدا
(غير طبيعي)، حلفاءه الجدد المسيحيين.
8/ تحول المسلمون والفلسطينيون ليصبحوا الخاسرين
على كل حال. وأجد من الصعب الآن استدعاء النقاش
حول التغييرات الدستورية المتقطعة خلال أيام الحرب
الأولى، ولكن مراحلها الأخيرة تحولت الى صراع واضح
بين الفلسطينيين مع مساندة من جناح يساري لبناني
مسلم يقوده جنبلاط في جانب، وبين السوريين في
الجانب الآخر. ولكن هل هذا هو كل ما كانت حوله
الحرب منذ البداية؟. يقنع معظم اللبنانيين الآن
أنفسهم أنهم بيدق في لعبة للسلطة كبيرة، وبمعنى ما
هم كذلك. وقوية هي نظرية المؤامرة في التفكير
السياسي الشرق أوسطي، لحد ربما يكسب معه هذا
التوضيح للحرب اللبنانية مع الزمن سطوة. سيكون من
الممل الدخول في أشكال مختلفة للمؤامرة،
وبإجمالها، كان مع كيسنجر كمناور رئيسي، أو تفكيك
وتدمير لبنان على النحو الذي حدث، ولكن، ومهما كان
الإنسان شكوكا، فلبنانيون كثر وفلسطينيون على
قناعة تامة بالمؤامرة لحد أحدثت معه تأثيرا قويا
على أفكارهم وأفعالهم.
9/ الهدف الضروري للمؤامرة هو عزل الفلسطينيين
والتحكم فيهم من أجل أخذ قضية السلام والحرب من
أيديهم وجعل سياستهم سهلة مذعنة للتوجيه وخاصة من
جانب دمشق، وفي حقيقة الأمر فهذا يبدو واحدا من
النتائج الوحيدة للحرب، فالفلسطينيون أضعفوا بصورة
عميقة عسكريا وسياسيا، وتحت ضغط من دمشق وعواصم
أخرى أقدموا على خطوة للأمام بقبول دولة فلسطينية
صغيرة، وربما يكون هذا أيضا في مصلحتهم. وفي
النهاية قاد أداؤهم خلال الحرب إلى تحطيم الترحيب
بهم في لبنان. وأحد التطورات المؤثرة شكله تحول
المسلمين اللبنانيين ضد الفلسطينيين الذين (أضاعوا
وطنهم). أما سخط المارونيين ضدهم، فقد تجلى لدرجة
أصبح معها كثيرون من قادتهم، وخاصة شيمون، وكثيرون
من المارونيين الشباب، يطالبون بطردهم من لبنان.
وحتى أكثر العقلاء بين الجالية المارونية يرون
صعوبة كبيرة في تحمل وجودهم حتى وإن أزيحت لدغتهم
بخلق فلسطين الصغرى. وبما أنه لا يوجد أفق لتسكين
الكتلة الأكبر من الفلسطينيين في مكان آخر، رغم أن
قادتهم قد يأخذون بعضهم إلى فلسطين، يكون لذلك من
المأمول فيه أن يلين التوجه اللبناني مع مرور
الزمن حتى يتم امتصاصه بالتدرج بما أنهم لم يعودوا
عنصرا مقاتلا أو ثوريا.