آخر الأخبار

رزان ميشال عفلق تتحدث عن والدها

غاب ميشال عفلق قبل ان يرى "فتى البعث" يقوم بمجازفة قاتلة على أرض الكويت. وغاب قبل ان يرى الآلة العسكرية الأميركية تنهال على بغداد. من حسن حظه انه لم يشاهد دبابة اميركية تقتلع تمثال السيد الرئيس. ومن حسن حظه انه لم يشاهد صدام حسين يُعدم وسط صيحات اثارت الاستنكار وايقظت الحساسيات.
حين وصل نعش "القائد المؤسس" الى بغداد في الأسبوع الأخير من حزيران (يونيو) 1989 كان الرئيس في استقباله مرتديا بزته العسكرية التي لازمته ابان الحرب الطويلة مع ايران. تقدم صدام حسين الصفوف وشارك في حمل نعش الرجل الذي اعتبره باكراً مشروع قائد. كان صدام حريصا على ابداء احترامه وولائه لـ "الاستاذ". ولعله كان يعتبر تلك العلاقة تأكيدا لشرعيته الحزبية. لهذا كان يرفض في احتفالات ذكرى تأسيس الحزب ان يدخل القاعة إلا بعد ان يتقدمه عفلق.
خلال حوارات الشق العراقي من سلسلة "يتذكر" سمعت الكثير عن الرجلين. وثمة من قال ان عفلق ظلم البعث حين راهن على صدام وان الأخير بممارساته ظلم البعث وعفلق معا. واتضح من خلال اقوال كثيرين ان عفلق الذي كان موضع احترام وتبجيل في بغداد اختار منذ البداية الابتعاد عن يوميات الشأن العراقي مكتفيا بهموم القيادة القومية للحزب. سؤالان ترددا كثيراً امامي: ما سر العلاقة بين عفلق وصدام؟ والثاني هل صحيح ان مؤسس البعث العلماني مات مسلماً كما اعلنت القيادة القومية بعد غيابه وما الذي اوصله الى هذا الخيار؟ بقي السؤالان بين اوراقي ودفعني تدافع الاحداث الى مواضيع اخرى.
كان عفلق يستعد لكتابة تاريخ الحزب مع ابنته رزان التي كانت موضع سره. لكن العمر لم يمهله فخسرت المنطقة رواية لاعب كبير أثّرت افكاره في مصير بلدين بارزين فيها هما العراق وسورية. عشية ثلاثينات القرن الماضي كان هذا الطالب الهادئ الحالم يقلب في جامعة السوربون والحي اللاتيني صفحات التاريخ وكتب الفلسفة والأدب وعينه على مستقبل امته التي كانت مسلوبة القرار ومغلولة الارادة. وسيحلم في تلك الفترة بحركة تؤدي الى قيام "اشتراكية انسانية ذات خصوصية عربية". وبعد السوربون سيعود الى دمشق للانخراط في العمل السياسي وسيفتتح في السابع من نيسان(ابريل) 1947 المؤتمر التأسيسي الاول لحزب البعث العربي. ومنذ تلك الأيام سيكون حاضرا في موسم البراكين الذي انجب انتفاضات وانقلابات وتحالفات ومكائد وانشقاقات.
قادتني الحشرية الصحافية الى البحث عن عفلق بعد رحيل صدام واجتثاث البعث وخراب البصرة. ذهبت الى ابنته رزان وبعدها الى رفاق عرفوه في الحزب وعايشوه امينا عاما ومطاردا هاربا وذهبت الى احد اقرب اصدقائه، فكان هذا الملف الذي يبدأ بحوار مع رزان ميشال عفلق، وهنا نص الحلقة الأولى:
> من كان إلى جانب ميشال عفلق لدى وفاته؟
- توفي في 23 حزيران (يونيو) 1989 في المستشفى العسكري الفرنسي (فال دو غراس) في باريس. دخل إلى المستشفى لإجراء فحوصات عامة بعدما لاحظنا تزايد الشحوب في وجهه وبعض الهزال في جسمه. كان والدي يمشي وبسرعة لأكثر من ساعتين يومياً. في الأشهر الأخيرة من حياته بدأ يشعر بالتعب. عندما دخل إلى المستشفى كنا كلنا إلى جانبه.
> كم كان عمره لدى وفاته؟
- 76 عاماً.
> هل ترك وصية؟
- لا. عند وفاته كانت إلى جانبه والدتي ونحن أولاده الأربعة. وكان الرئيس صدام حسين قد أوفد في الفترة الأخيرة وبعدما دخل والدي الغيبوبة، أخاه غير الشقيق برزان التكريتي ورئيس ديوان الرئاسة أحمد حسين، كما أرسل طبيباً عراقياً يتابع وضعه مع الأطباء الفرنسيين.
> متى زار والدك بغداد للمرة الأخيرة؟
- كان مع والدتي في بغداد سنة 1989 لأشهر عدة كالعادة، ثم شارك في ذكرى 7 نيسان (ابريل)، ذكرى تأسيس حزب «البعث» وعاد بعدها إلى باريس، أمضى تقريباً شهراً ثم دخل المستشفى.
> إلى أي حد كانت العلاقة حميمة بين والدك وصدام؟
- كانت العلاقة بين والدي والرئيس صدام تقوم على شعور متبادل من المودة والتقدير والاحترام. ليلة اجراء العملية لوالدي، تلقى اتصالاً هاتفياً منه في غرفته في المستشفى وكان آخر اتصال بينهما.
> متى رأى والدك صدام حسين للمرة الأولى؟
- التقى به للمرة الأولى في أيلول (سبتمبر) 1963 في المؤتمر القطري في بغداد. قال فيه إنه «كان يهيئ نفسه لدور قيادي قومي».
> هل أحب ميشال عفلق صدام حسين؟
- نعم أحبه، فقد كان الرئيس صدام مناضلاً بعثياًَ متحمساً ومؤمناً بقضيته وبالمبادئ القومية وصاحب شخصية متميزة. لم يلفت انتباه والدي فحسب، بل لفت انتباه كثيرين. وكانت تتسم علاقتهما بالتقدير والاحترام المتبادلين.
> كانت علاقة والدك مختلفة مع الرئيس أحمد حسن البكر؟
- كانت علاقة والدي جيدة ومتينة مع الرئيس البكر ايضاً، وكل منهما يقدّر الآخر.
> هل شهدت لقاءات بين والدك وصدام؟
- في 1975 وصلنا إلى العراق للإقامة هناك. كان صدام حسين نائب الرئيس حينها، وجاء مرات عدة مع الرئيس البكر لزيارة والدي، وكان يأتي لوداع الوالد حين يعرف أنه مسافر، واستمر الأمر بعدما اصبح رئيساً، حيث كان يأتي لزيارة الوالد في المنزل في مناسبات معينة، وكنا نحن، أفراد العائلة، نراه في هذه المناسبات.
> ألم تمر هذه العلاقات بتقلبات؟
- كانت العلاقة ثابتة ومستقرة، وكنا نشعر بأنها تقوم على مودة متبادلة. مثلاً حين عدنا لتشييع والدي كان الرئيس صدام حسين على رأس المستقبلين في المطار في بغداد، وأصرّ على المشاركة في حمل النعش على كتفيه فور إخراجه من الطائرة، ثم على حمله إلى القيادة القومية. وأثناء مراسم الدفن حمله إلى مثواه الأخير.
> هل ندم عفلق لأنه دعم صدام أو أعطى نظامه شرعية؟
- لا، لم يندم. توفي والدي سنة 1989، وكانت المعطيات حينها تدعو إلى التفاؤل، وكان العراق قد بدأ خطوات عملية لتحقيق مجلس التعاون العربي ما بين العراق ومصر والأردن واليمن، وكانت هذه خطوة وحدوية مباركة.
> تردد أنه كانت لديه في السنوات الأخيرة ملاحظات على أسلوب صدام؟
- كانت العلاقة بينهما علاقة متينة بين مناضلين حزبيين، حريصين بالدرجة الأولى على مصلحة الأمة العربية وقضاياها المصيرية. كما ان ليس هناك حكم صحيح بالمطلق. كل تجارب الحكم ترافقها أخطاء. كانا يعقدان جلسات ثنائية، وإن كانت هناك ملاحظات، فأعتقد أنها كانت ترد في سياق النقد الايجابي البناء.
> هل قرأت ما قاله صلاح عمر العلي لـ «سلسلة يتذكر» عن حوار في الغابة الفرنسية بينه وبين والدك، ونقل عنه انزعاجه من حب صدام للمديح ومعارضته للحرب العراقية - الإيرانية؟
- لدي عدد من التحفظات والملاحظات على ما صرّح به صلاح عمر العلي سواء لجريدتكم أو في الحلقات التلفزيونية، ولكن لن أدخل في هذا الموضوع حالياً. أما في ما يخص حرب إيران، أشير أولاً أن ميشال عفلق لم يكن في العراق عند اندلاع الحرب، إنما كان في باريس. وأشير أيضاً إلى أنه تلقى أول خبر عن الحرب من وسائل الإعلام.
هذا الموضوع، الذي كلف مئات الآلاف من القتلى لدى الطرفين وطال لما يقرب من عقد كامل في ثمانينات القرن العشرين، وترتبت عليه ديون بالبلايين، يجب النظر إليه بموضوعية، لا أن نضع اللوم كله على الرئيس صدام حسين. فالمسؤولون الإيرانيون في بداية الثمانينات أخافوا جميع دول الجوار بطرحهم شعار «تصدير الثورة»، وقد أثبت التاريخ خطأ هذا الشعار.
> ما كان رأي ميشال عفلق بصدام وتجربة حكمه؟
- تسلم حزب «البعث» السلطة في قطر يمتلك إمكانات هائلة وله ثقل وأهمية استراتيجية كبيرة. رأى والدي أن المصلحة القومية العليا تفرض تأييد تجربة الحزب في العراق ودعمها وتقويتها. حيث أن الأحداث أوضحت أن التجربة البعثية كانت معرضة دائماً لمؤامرات داخلية مدعومة من الخارج، فضلاً عن التآمر الخارجي الموجود أصلاً. وشكّل العراق بقيادة الرئيس صدام حسين قاعدة لموقف داعم للقضية الفلسطينية ورافض للحلول الاستسلامية، وفعلاً لم تكن هناك دولة عربية مستعدة للذهاب في دعم الكفاح الفلسطيني كما فعل العراق، خصوصاً في السنوات الأخيرة.
> من هم الذين كانوا أصدقاء ميشال عفلق في حزب «البعث»؟
- لا أريد الخوض في الاسماء كي لا أظلم أحداً. كان البعثيون خصوصاً في المرحلة الأولى بمثابة عائلة لوالدي. الكل يعرف أنه كان يتأثر كثيراً إذا استشهد رفيق أو عذب أو تعرض لمصيبة. علاقات العمل الحزبي والنضالي لديه كانت تترافق مع مشاعر محبة صميمية وتضامن ووحدة المصير.
> ألم تكن لديه خصومات؟
- كان ميشال عفلق يلتزم دوماً بالمصالح العليا للأمة العربية وللحزب خلال مسيرته النضالية الطويلة، ويعطيها الأولوية ويجعل منها المقياس للمواقف والاشخاص، حتى لو تعارض ذلك مع الاعتبارات والمصالح الشخصية الضيقة للبعض، ما سبب له خصومات وعداوات كثيرة، وبالدرجة الأولى من بعض البعثيين الذين انشقوا في ما بعد. وحقد الكثير من هؤلاء عليه وهاجموه لسنوات عدة، وحتى يومنا هذا وبكل الطرق المتاحة لهم، وفي وسائل الإعلام ولكنه لم يهتم يوماً بالإجابة عليهم أو الدفاع عن نفسه أو عن مواقفه.
> حيال من كانت لديه مشاعر مرارة؟
- تعرض في مراحل حياته النضالية لمؤامرات داخلية وتهجمات، وكانت أسماء الخصوم تتغير حسب المراحل، حصل التكتل العسكري وما سمي بـ «اللجنة العسكرية» في سورية، والمرتدين على الحزب وقيادته التاريخية، والمنتحلين لاسم الحزب. وقبل ذلك كان هنالك المسؤولون الذين تسببوا بنكسة الانفصال. وهنالك كل الذين تخيلوا أنهم من خلال «حزب البعث العربي» أو من خلال أمينه العام يستطيعون الوصول إلى المراكز أو تحقيق أطماعهم الشخصية أو منافعهم المادية الذاتية. هؤلاء خاب أملهم وحقدوا عليه إلى يومنا هذا.
لم يترك ثروة
> هل ترك ميشال عفلق ثروة؟
- أبداً. لم يكن لدى العائلة عند وفاته سوى ما يكفينا لشهور عدة. وكسائر الناس اضطر كل واحد منا أن يعمل ضمن مجال اختصاصه ليتدبر أموره. وما هو معروف أن ميشال عفلق بعد استقالته من التدريس في سورية سنة 1943 كان يعيش من الراتب البسيط الذي كان يخصصه له الحزب، ومن مدخوله من الكتابة والنشر. وبعد تسلم الحزب الحكم في العراق تنازل والدي عن ايرادات كتاباته ونشره لمصلحة الحزب.
بعد تسلم حزب «البعث» الحكم في العراق سنة 1968، عاد إلى لبنان واستقر مع عائلته في بيروت 7 سنوات حتى بدء الحرب الأهلية سنة 1975، بعكس ما نشرته صحف عدة عن سوء نية قائلة إنه عاد إلى العراق سنة 1968، شاطبين سبع سنوات من حياته السياسية قضاها في بيروت، حيث سكنت العائلة في شقة صغيرة يعرفها الكثيرون من الحزبيين والعرب الذين كانوا يزورون ميشال عفلق في منزله. وفي هذه الفترة من اقامته في بيروت كان خاله الدكتور شكري زيدان يساعد في تسديد المبالغ التي كانت تحتاجها العائلة لمصاريفها اليومية.
عند وفاة ميشال عفلق لم يكن يملك أي مسكن أو شقة لا في العراق ولا في أي بقعة في العالم، وكذلك الحال بالنسبة إلى عائلته قبل وفاته وبعدها.
عند انتقالنا إلى بغداد سنة 1975، رفض والدي السكن في أي مجمعات حكومية ومنازل فخمة أو قصور تعود للحكومة وأصرّ على منزل عادي معقول. أما المنزل الذي سكنته العائلة لمدة 28 سنة في بغداد والذي وضعه الحزب بتصرفها، فلم يكن ملكها وهو كناية عن منزل عادي يشتمل على غرفة الأهل وغرفة لكل ولد مع غرفة الاستقبال وغرفة مكتب لوالدي، بالإضافة إلى المطبخ وغرفة الطعام، يسكن ويملك مثله وحتى أفضل منه معظم المتعلمين في العراق أكانوا محامين أو أطباء أو مهندسين... الخ. أما في باريس فقد تم استئجار شقة أسوة بسائر الديبلوماسيين.
بعد وفاة والدي قام الرئيس صدام حسين بتمليك منزل بغداد لوالدتي، وقطعتي أرض في بغداد واحدة لي وأخرى لاخواني الثلاثة. ولم يقم أي منّا ببناء أي مسكن على قطع الأرض هذه، لأنه لم تكن لأي منا الإمكانات المالية للبناء، ولم تكن العائلة تملك أي أرض أخرى خارج العراق.
عند احتلال الأميركيين العراق، احتل العملاء الذين وفدوا معهم منزل العائلة. وكانت مراسلة تلفزيون «العربية» بثت تقريراً في 7 نيسان 2003 بعد أسبوع على سقوط بغداد من منزل ميشال عفلق، وأظهرت كيف تم العبث بالمنزل ومحتوياته، وبالمناسبة المؤلمة هذه، رأى المشاهدون أن المنزل منزل عادي جداً.
في هذا السياق أتذكر عندما كنا نسأل الوالد عما سيحدث لنا فيما لو اصابه مكروه، كان يجيبنا مبتسماً وكله ايمان وثقة بأن كل الشرفاء والوطنيين والبعثيين هم عائلة كبيرة لنا، وسيحيطوننا بكل الاهتمام من بعده. واليوم، وبعد ما جرى، أقول: بدون تعليق.
> ألم يعرض عليه صدام حسين اموالاً؟
- والدي كان يرفض أي شيء مادي. لم يكن لدينا سوى مصروفنا اليومي. وفي تعميم اصدره الرئيس صدام حسين بعد وفاة والدي سنة 1989، قال: «إن الاستاذ ميشال لم يشأ أن يمتلك ما هو مادي من غير المنقول، أو مما هو ممكن من المنقول من الأموال تطبيقاً لمبادئه ولسياسة القدوة التي نحتاجها».
> من كان والدك يحب من الشعراء العرب؟
- كان يحب المتنبي وأبا العلاء المعري. كان ديوان المتنبي موجوداً في البيت ويرجع إليه.
> هل رباكم تربية حزبية؟
- لم يطلب من احد منّا الانتساب إلى الحزب، بل ترك القرار لنا... كما أن الأجواء والبيئة التي ترعرعنا فيها لم تكن عادية، بل كان والدي بشخصيته القوية والهادئة وثقافته الواسعة وتربيته العربية الوطنية المتميزة يجعل من أجواء منزلنا أجواء وطنية، تهب عليها لفحة قومية استنشقناها مع الهواء الذي كنّا نتنفسه. حيث كان الرفاق الحزبيون القادمون من كل الأقطار العربية يجتمعون بوالدي ويقصدون منزلنا الذي كان دوماً مفتوحاً لهم. فعندما كنا في لبنان كان باب بيتنا لا يغلق تقريباً، فالرفاق الحزبيون يدخلون ويخرجون في كل وقت ليلاً ونهاراً. عندما كنا صغاراً كنا نشعر بأن هناك تجمع اشخاص في غرفة الاستقبال يتكلمون في السياسة، وكنا نسمع المواضيع السياسية والنقاشات الحماسية من حولنا ونعرفها من عناوينها ونسأل عن الذي يحدث ونستفسر... فحياتنا منذ بدايتها كانت تضم دائماً الجانب السياسي والوطني. تربينا على ذلك وأصبحت لدينا اتجاهات وطنية نتيجة التربية التي أعطانا اياها.
كل الأحداث التي مرت على الساحة العربية كان لها اثرها المباشر على أجواء المنزل... فأثناء النكسات التي مرت على الأمة، في ايلول الأسود وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد، خيمت أجواء من الوجوم والغضب والحزن على البيت. وأذكر أيضاً أجواء الحزن العميق الذي استولى على الوالد ومن ثم علينا (وكنا صغاراً) اثر تلقيه خبر وفاة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وكنا حينها في عاليه (لبنان)، كذلك اذكر أجواء الحماسة الكبيرة التي سادت في منزلنا أيام حرب تشرين. كما اذكر عندما بدأت تصل الأخبار والصور الأولى للانتفاضة الفلسطينية الأولى ولأطفال الحجارة، كم كان الوالد متحمساً ومغموراً بالفرحة والايمان، وكم تكلم معنا بالموضوع بتأثر شديد، وكيف أنه كان يذكرنا بهؤلاء الأبطال الصغار في كل فعالية نقوم بها. وكان لا يقبل لنا في تلك الفترة بأي فعاليات ترفيهية، مذكراً ايانا ما يمر به أطفال الحجارة الأبطال.
> هل من الصعب أن يكون المرء ابن أو ابنة ميشال عفلق؟
- من جهة، هو فخر وشرف كبير أن نكون أولاد ميشال عفلق، هذا الإنسان المتميز، وهذا المفكر والمناضل الذي أسس حزباً قومياً عريقاً كحزب «البعث العربي الاشتراكي». كان يحيط به في البيت، سواء مع عائلته أو مع رفاقه البعثيين، جو من الصفاء والارتقاء والسمو الأخلاقي. فلا كلام عن الماديات أو التناحرات أو الحسابات أو المؤامرات، بل كان يتحدث في المبادئ العليا والأخلاقية والمواضيع الوطنية. كان متفائلاً بطرحه لأنه يعتبر أن داخل كل انسان مقومات تمكنه من تحقيق هذه المبادئ شرط أن يتغلب على الرواسب في نفسه، وهذا ما سماه بـ «الانقلاب الذاتي». ومن موقعي القريب منه كإبنته، اعتبر أنه حققه في ذاته. لذلك كان جو المنزل العائلي صافياً.
من جهة أخرى، انها مسؤولية كبيرة أن تحمل هذا الاسم، لأنه يفترض فينا الارتقاء إلى مستوى رفيع من السلوك الذاتي والعام، ويتطلب كمّاً من التضحيات والقيود التي تستوجب قدراً لا بأس به من الإرادة ومراعاة ظروف الوالد لاستحقاق شرف حمل اسمه.
> إلى أي مدى كانت معيشة والدتك صعبة؟
- كانت عيشة أصعب منا كلنا. والدي تزوج والدتي في آب (اغسطس) 1959 بعد تخرجها طبيبة. ومنذ ذلك اليوم بدأت والدتي معه رحلة المصاعب والتضحيات وعدم الاستقرار، اضطرت والدتي إلى الابتعاد عن والديها وعن جميع أفراد عائلتها. منذ 1966 لم تعد إلى سورية، ولم ترَ أغلب أفراد عائلتها.
> متى كنت آخر مرة في العراق؟
- آخر مرة سافرت فيها إلى العراق في حزيران سنة 2001، لأقدم بحثاً ضمن الندوة الفكرية التي كانت تقام سنوياً في ذكرى رحيل والدي رحمه الله. وقدمت بحثاً بعنوان «في سبيل فلسطين - فلسطين في فكر ميشال عفلق»،
> هل رأيت الرئيس صدام؟
- لا لم اره في زيارتي القصيرة تلك لبغداد، ولكنه ارسل رسالة خطية وصلت بعد مغادرتي، فسُلمت إلى والدتي، تنص على اطلاعه على البحث وأثنى عليه. وكان هذا تشجيعاً لي للمضي في الكتابة.
> متى رأيته للمرة الأخيرة؟
- عام 1996 عندما استقبلني مع زوجي في جلسة لأكثر من ساعة ونصف ساعة.
> ماذا دار في تلك الجلسة؟
- من ضمن الأحاديث التي طرحت قال لي إنه «خلال حرب إيران كانوا كل يوم يهاجمونني في الإذاعات الإيرانية ويقولون صدام العفلقي، كانوا يعتقدون انهم يقولون شيئاً سيئاً عني، ولكنني اعتز بذلك وهذا شرف لي». واعتقد أنه كان صادقاً فعلاً عندما قال هذا الشيء، وأقول إنه فعلاً كانت هناك محبة حقيقية تربط بين والدي والرئيس صدام.
كما أنه عرض الأوضاع السياسية والحصار على العراق وفلسطين وتلازم الأمور على خلفية الصراع العربي - الإسرائيلي، وعدم قبول الغرب بنقلة نوعية علمية لمجتمعنا العربي، وهنا قال: «أتذكر ما كان يقوله لي الاستاذ ميشال عن المخططات المعادية الهادفة إلى احباط النهضة القومية العربية ووأد أي مشروع عربي جدي يسعى إلى الوحدة العربية». وقال أيضاً: «لو اننا كنا نقبل بصلح مع إسرائيل ونقبل بإيقاف أي دعم للفلسطينيين ونقبل بالتوقيع على اتفاقات اقتصادية فيها تنازلات كبيرة، لكانت كل المشاكل والمصاعب التي نعاني منها قد انحلت، ولكنني لن أتخلى عن حقوقنا التاريخية وعن حقوق الأمة».
العلاقة مع صدام
> مع تولي صدام الرئاسة في 1979، أعلن عن كشف مؤامرة تبعتها إعدامات. ألم يتألم والدك لإعدام حزبيين أم كان يتبنى رواية صدام؟
- تلقى ميشال عفلق خبر هذه الأحداث المأسوية بعد حصولها، وهو في باريس. ومهما كانت الصيغة التي أخذ بها، فإنه بالطبع تألم كثيراً لما حدث. وعلى العموم الكل يعرف أن والدي لم يكن أبداً يقبل التصفيات والقتل، وأن هذا بعيد تماماً عن مبادئه وقناعاته.
> كيف كانت علاقة والدك بأحمد حسن البكر بالمقارنة مع علاقته بصدام؟
- كانت علاقته بالرئيس البكر ودية جداً وترتكز على الاحترام المتبادل، لكن علاقته مع الرئيس صدام حسين كانت علاقة متميزة، وكانت تربط بينهما رابطة احترام ومودة.
> ومع طارق عزيز؟
- كانت علاقة والدي بالاستاذ طارق عزيز علاقة جيدة وكان يقدّر فيه شخصه وكفاءاته العالية.
> يقال إن صدام استفاد كثيراً من الشرعية الحزبية التي وفرها له والدك، لكن من دون أن يمنحه فرصة التأثير على مسار الأمور؟
- ميشال عفلق لم يتدخل في الأمور التنظيمية أو الإدارية المتعلقة بسياسة العراق. لم يكن يتدخل في شؤون الحكم المباشرة في العراق. والأمر نفسه قبل ذلك ايضاً في سورية. فوالدي كان مهتماً بدعم تجربة «البعث» في العراق، لأنها كانت مهددة بالمؤامرات الداخلية والخارجية، ولأن نجاحها يصب في مصلحة الأمة العربية والعراق والحزب.
> هل زار صدام حسين والدك في البيت في بيروت؟
- نعم زاره في بيروت في السبعينات، وكان حينها نائباً للرئيس أحمد حسن البكر وجاء في زيارة سرية إلى بيروت خصيصاً للقاء والدي. وكانت تلك الزيارة الوحيدة التي قام بها الرئيس صدام إلى لبنان.

نص الحلقة الثانية:

> ممن تتألف عائلة ميشال عفلق؟

- من زوجته الدكتورة امل ومن اربعة اولاد: ابنته رزان وثلاثة ابناء: اياد ونزار وزياد.

> كيف كان داخل البيت مع عائلته؟

- كان هادئاً وحنوناً ويمتلك عاطفة بلا حدود تجاه عائلته المباشرة، وكذلك تجاه عائلته الكبرى، أي العائلة البعثية. كان شديد الهدوء وصوته خفيض.

> هل كان يهتم بالمال؟

- أبداً. لم يكن يحمل مالاً في جيبه، وكانت أمي تتولى تسديد الفواتير. لم يكن يذهب إلى المحلات التجارية إلا ما ندر جداً.

> كيف كان يمضي وقته؟

- قارئ نهم حتى آخر حياته. قراءاته عربية وفرنسية. كان يتقن الفرنسية جيداً جداً. كان يطالع عدداً كبيراً من الصحف العربية والعالمية يومياً. كما كان يخصص وقتاً لاستقبال البعثيين والمناضلين والمفكرين العرب في منزله، بالإضافة إلى نشاطاته الرسمية.

> هل اهتم بتاريخ الأديان؟

- قناعات والدي معروفة مذ كان شاباً. وكان متعمقاً بالدين الاسلامي، ورأى أن الاسلام هو روح الأمة العربية، وأنه ارتبط بيقظتها القومية وكان مفصحاً عنها. لو عدت إلى خطابه «ذكرى الرسول العربي» على مدرج جامعة دمشق في 5 نيسان عام 1943، لعرفت جزءاً مهماً من وجهة نظره في الدين الإسلامي.
اللافت في رؤية ميشال عفلق للإسلام أنها رؤية انسانية حضارية ثورية، اقترنت فيها يقظة ومعالم الشخصية العربية الحضارية بالإسلام. فالإسلام، إضافة لكونه رسالة سماوية دينية، فإنه أحدث ثورة عربية حضارية امتزجت بكل نواحي حياة العرب آنذاك. فهي من صميم تاريخهم المجيد المشرق، ومن أعمدة ثقافتهم ولغتهم ومن أهم ما أفصح عن ابداعهم الفني والحضاري بشكل عام، فهي من هذا المنظار الهيكل الاساسي لمفهومهم القومي.

> هل هذا يعني الجزم بأنه اعتنق الاسلام؟

- هذا ما أعلنه الرئيس صدام حسين والقيادة القومية في بيان بعد وفاته.
عفلق بين الرئيس احمد حسن البكر ونائب الرئيس (آنذاك) صدام حسين.

عفلق وعبدالناصر

> ماذا كان رأي والدك بجمال عبدالناصر خارج ما نشر؟

- عندما كانت لدى ميشال عفلق آراء ومواقف غير متطابقة مع مواقف الرئيس جمال عبدالناصر، كان يقول ذلك علناً وبإمكان أي باحث أن يرجع إلى كتاباته للاطلاع على هذه المواقف المعلنة والمكتوبة، المرتبطة بمرحلة سياسية معينة ومعطيات معينة.
أما المعروف لدى الجميع فهو أن ميشال عفلق في 7 نيسان من كل سنة، ذكرى تأسيس الحزب، كان يلقي خطاباً قومياً يبثه التلفزيون العراقي. كان دائماً يتطرق فيه إلى الرئيس عبدالناصر ويعتبره مناضلاً عربياً قومياً وقائداً تاريخياً. وذلك حتى آخر كلمة له في 7 نيسان 1989 قبل شهرين من وفاته.

> هل رأى عفلق في صدام مشروع عبدالناصر جديداً؟

- الأكيد أنه رأى في الرئيس صدام حسين قدرة على القيام بدور بارز على الصعيد العراقي والقومي، خصوصاً على صعيد النهوض بالدولة العراقية حضارياً وتربوياً واقتصادياً وعلى صعيد العمل القومي وإنشاء نواة عمل عربي موحد في مجالات عدة، الاقتصادية منها والاستراتيجية والدفاعية، وتوحيد الطاقات العربية من اجل قضية فلسطين.

> ماذا عن اشتراط عبدالناصرعلى ميشال عفلق وحزب البعث حلّ الحزب كشرط لقبول الوحدة مع سورية؟

- قبل اعلان الاتفاق النهائي على الوحدة اشترط عبدالناصر على الحزب وعلى ميشال عفلق حلّ حزب البعث في سورية كشرط وأنه لن يقبل قيام الوحدة من دون ذلك. وأمام هذا الموقف التاريخي: وحدة او لا وحدة، وافق عفلق على حلّ «تنظيم الحزب في سورية»، حيث انه ضحّى بحزبه الذي واكبه منذ اللحظة الاولى من أجل المصلحة العليا للأمة العربية، كما قال.
كان يعي ما قد يترتب على قبوله حلّ تنظيم الحزب في سورية، وفعلا كانت لحلّ الحزب مضاعفات كبرى في ما بعد، سيدفع ثمنها الحزب وميشال عفلق شخصيا، وستستغل من قبل ما سمّي «اللجنة العسكرية»، والتكتل الطائفي القطري الذي انبثق عنها.

> لكن انتقد كثيرون من الحزبيين موافقة والدك على اشتراط عبدالناصر حلّ حزب البعث في سورية؟

- تناول كثيرون هذا الموضوع. أما رأي والدي فكان انه اذا ما ذكرت وحدة 1958 وذكر حلّ الحزب كشيء سلبي في تاريخ الحزب وخطأ كبير، إلا انه في الوقت نفسه سيكون «هذا الخطأ أعظم وأمجد من كل الاعمال الصائبة التي قام بها الحزب» كما قال ميشال عفلق. اذ ان حزب البعث هو للوطن العربي كله، وكان منتشرا في أقطار عديدة والموافقة على حلّه اضطرارا في سورية او في الجمهورية العربية المتحدة آنذاك، لم يكن يعني بشكل من الاشكال انه انتهى وجوده. وبالتالي لا يمكن أن يحلّ حزب البعث طالما انه موجود في العراق وفي الاردن وفي لبنان وفي شتى أقطار الوطن العربي. لقد كان حلّ الحزب في الجمهورية العربية المتحدة «مجرد تسهيل لتحقيق عمل تاريخي» حسب قوله، ألا وهو اقامة الوحدة بين قطري مصر وسورية آنذاك.

> كيف نظر ميشال عفلق في ما بعد الى تجربة الوحدة وفشلها؟

- اللقاء التاريخي بين الحزب وجمال عبدالناصر أثمر اول تجربة وحدوية عربية في العصر الحديث في 20 شباط (فبراير) 1958، ما بين دولتين لهما أهمية خاصة لما تمثلانه على الساحة العربية. كان ذلك مشروعا قوميا كبيرا لفك حصار العزلة بين الدول العربية، وقهر الحاجز المصطنع بينها. بالنسبة الى ميشال عفلق لا يمكن ان نتصور مستقبل العرب بمعزل عن مصر ودور مصر.
لم يعتبر الحزب ان هناك مذهبين وخاصة ان الشعارات التي تبنتها مصر لم تكن سوى أفكار وشعارات حزب البعث، والخلاف الذي حصل في ما بعد لم يكن خلافا فكريا بل نتيجة اختلاف في التطبيق. ومن ثم دخلت مصالح وقوى معادية واستطاعت ان توسع الخلافات ولكن حزب البعث كان دوما متمالكا وعيه ورفض ان ينجرّ الى تلك الخلافات والمهاترات.
كان للأخطاء التي ظهرت في طريقة ادارة الحكم في الجمهورية العربية المتحدة في ما يخصّ الاقليم الشمالي (سورية) علاقة مباشرة بالاسباب التي ادّت الى الانفصال بتاريخ 28 ايلول (سبتمبر) 1961، منها ما نتج عن عدم السماح لممثلي حزب البعث في القيادة السياسية للجمهورية العربية المتحدة، الوزراء ونائب رئيس الجمهورية (صلاح البيطار، أكرم الحوراني) بالمشاركة الفعلية في صنع القرارات السياسية المهمة على مستوى الجمهورية العربية المتحدة، خاصة تلك التي تخص الاقليم الشمالي، الذي انتدب لادارته المشير عبدالحكيم عامر، يساعده في ذلك عبدالحميد السرّاج، وطاقم كبير من المصريين، حيث لم تراعَ الخصوصيات والشخصية السورية.
كذلك إقدام القيادة السياسية في دولة الوحدة على نقل معظم كبار الضباط السوريين البعثيين الى مصر، وإسناد مسؤوليات ثانوية لهم، وهم الذين كانوا قادة قطاعات مهمة في الجيش، وكانت لهم مواقع ومشاركات سابقة في القرارات السياسية المهمة ومنها قرار الوحدة، ما دفع بهم من دون معرفة ميشال عفلق وقيادة البعث، الى التكتل وخلق نواة «اللجنة العسكرية» (محمد عمران، أمين الحافظ، صلاح جديد، و غيرهم) التي ستلعب دورا في ما بعد في تاريخ سورية، ستكون له انعكاسات كبيرة على المنطقة العربية، وانعكاسات سلبية على حزب البعث بدءا من 1963.
ونتيجة لإحساس ممثلي حزب البعث باستبعادهم عن المشاركة الفعلية في الحكم في دولة الوحدة وإقصائهم عن التعاطي بشؤون الاقليم الشمالي (سورية)، قدّم نائب رئيس الجمهورية والوزراء (أكرم الحوراني، صلاح البيطار، ونزار حمدون وغيرهم) استقالتهم في اواخر 1959.
أما ميشال عفلق فكان يعتبر الوحدة الهدف القومي الاول الذي لا يعلى عليه، لان فيه مصلحة الامة العربية كلها وفيه بداية إنشاء الدولة العربية الموحدة عنوانا للوحدة العربية الشاملة. وعلى رغم ما كان لديه من استياء من الاخطاء الجسيمة التي انكشفت في نظام حكم دولة الوحدة، وما تعرض له شخصيا من مضايقات من قبل اجهزة الاستخبارات المصرية في بيروت، إلا ان قناعاته المبدئية الوحدوية لم تهتز يوما وبقي ينظر الى الوحدة كإنجاز قومي تاريخي.

> هل تأثر والدك بأمه وبوالده؟

- كان يحب امه كثيراً، وكانت تدعى رسمية، وهي من عائلة زيدان من حمص، التي ينتمي اليها المؤرخ جرجي زيدان، كذلك أذكر خاله، الدكتور شكري زيدان الذي هاجر الى البرازيل، والذي يتمتع بمكانة كبيرة بين عرب المهجر والذي عرف بثقافته وميوله في الفكر والأدب واللغات (حيث كان يتقن 7 لغات). أما جدي يوسف عفلق، فأسرته فرع من اسرة «ابي عسلة» من راشيا الوادي في البقاع، وكان انساناً وطنياً شارك مع أهل حي الميدان الدمشقي القديم في التظاهرات ضد المستعمر الفرنسي، وسجن مرات عدة لمقاومته الاحتلال. وقد شهد والدي عندما كان صغيراً اعتقال جدي من قبل السلطات الفرنسية أكثر من مرة، وكان الوطنيون قد تجمعوا في حزب عرف بـ «الكتلة الوطنية» واشتركوا في اول مجلس تأسيسي وفي وضع الدستور عام 1928. وكان طبيعياً ان تجد الأسرة نفسها ضمن هذا التكتل الوطني الجديد، الذي تولى مهمة النضال السياسي في تلك الفترة.

> من أسس الحزب مع والدك؟

- قد نقرأ في بعض المنشورات عن مؤسسي الحزب وقد أطلق البعض عن خطأ أو عن قصد وسوء نية، على من حضر المؤتمر التأسيسي الذي عقد عام 1947، اي بعد 7 سنوات تقريباً من التأسيس الفعلي والحقيقي للحزب، هذه التسمية، والأصح تسميتهم «البعثيين الأوائل» وليس المؤسسين.
ميشال عفلق وضع الأسس الفكرية والمبادئ الأساسية لحزب البعث وشعاره وثوابته المبدئية ونظرية القومية والاشتراكية، ومجمل فلسفته ونظرته للإنسانية. أما نشر أفكار الحزب والنواحي التطبيقية فهذا كان يتطلب هيئة إدارية تحقق ذلك على صعيد الواقع، فكان هناك العمل التنظيمي والاحتكاك على صعيد واسع بمختلف فئات الشعب اضافة الى عمل إداري لا بد منه أو تنظيم التظاهرات والمناشير أو غيرها، وهنا كان عمل رفاقه الأوائل ملازماً لعمله.
في الحلقة كانت هناك مجموعة من الأشخاص موجودين معه وأولهم صلاح البيطار وكذلك جلال السيد ومدحت البيطار (الذي لا تربطه علاقة قربى بصلاح البيطار)، هؤلاء انضموا الى جانب ميشال عفلق وصلاح البيطار وشكلوا القيادة الأولى للحزب.

> غادر سورية في 1966 ولم يعد إليها؟

- كلا، لم يعد إليها. بعد حركة صلاح جديد العسكرية في 23 شباط (فبراير) 1966، بقي والدي في دمشق حوالي الشهرين متخفياً لدى عائلات دمشقية، حتى تمكن من الوصول إلى طرطوس ومنها تمكن من الخروج بواسطة قارب صغير إلى طرابلس ومنها إلى بيروت حيث مكث في لبنان فترة قصيرة وبعدها سافر إلى البرازيل.
وبقي عند خاله الدكتور شكري زيدان في مدينة ساو باولو، لأنه كان الحل الوحيد الممكن. غادرت والدتي سورية إلى لبنان في بداية صيف 1966، ومنه التحقت بوالدي في البرازيل ونحن برفقتها، حيث تابعنا دراستنا الابتدائية وبدأنا نتعلم اللغة البرتغالية، وهناك أيضاً ولد أخي الصغير.
في الحفل التأبيني لعفلق والى اليسار زوجته أمل والرئيسان صدام حسين وياسر عرفات.

مع صلاح البيطار

> كيف كانت علاقته مع صلاح البيطار؟

- ربطتهما علاقة فكرية، حيث بدأ التعارف بينهما في مطلع القرن العشرين في باريس أثناء الدراسة الجامعية. وقد سبقت تأسيس الحزب سنوات عدة من العلاقة الشخصية والفكرية التي قامت على التوافق في تحليل أوضاع الأمة وقضاياها وأوجدت التقاء على جملة مواقف ووجهات نظر سلوكية ووطنية ونظرات متوافقة في الأدب والفن والأخلاق مع إبقاء كل منهما على شخصيته المستقلة.
وبعد انتهاء الدراسة وعودتهما الى الوطن للتدريس في مدرسة التجهيز الأولى في دمشق، ابتدأت مرحلة عملية جديدة. وحين أسس ميشال عفلق حركة «الإحياء العربي» التي أصبحت في ما بعد حزب «البعث العربي»، كان الى جانبه في التأسيس صلاح البيطار. وتلازما سنين طويلة، وظل والدي يعتبره من اقرب المناضلين المقربين اليه، وفي هذا السياق، أذكر دفاع والدي الشديد عن البيطار وتحديه للقرار الذي اتخذته القيادة القطرية في سورية سنة 1964 بفصل صلاح البيطار من الحزب، حيث وقف ميشال عفلق في وجه التكتل الذي أخذ يتضح تشكله والذي كان بدأ بتنفيذ مخططاته التي أوصلت في نهاية المطاف الى انقلاب 23 شباط 1966، فقد واجه ميشال عفلق المؤتمر القطري السوري الاستثنائي في شباط 1964 بكلمة صريحة وقاسية في وجه الذين تحكموا بقرارات الحزب (جماعة صلاح جديد). فكانت كلمته قاطعة كالسيف، منتقداً وشاجباً قرار التكتل الحزبي، غير آبه بالنتائج التي سترتد عليه. وظل ميشال عفلق يعتبر صلاح البيطار رفيقاً عزيزاً لديه، ومناضلاً وطنياً ملأ حياته بالعمل والنضال القومي، وأثبت جدارة خلال تسلمه المناصب الرسمية كوزير خارجية ورئيس للوزراء. وبعد اغتياله، قال فيه ميشال عفلق كلمة مطولة يظهر فيها عمق المشاعر والأواصر التي ظل يكنها له.

> هل وهيب الغانم وشبلي العيسمي يعتبران من المجموعة الأولى؟

- شبلي العيسمي من البعثيين الأوائل وكذلك وهيب الغانم الذي انتمى الى البعث بعد العيسمي.

> ماذا عن قصة تأسيس زكي الارسوزي وليس والدك لحزب البعث؟

- بعد 23 شباط 1966، اتخذ صلاح جديد وجماعته وحكام سورية من اسم حزب البعث العربي الاشتراكي الذي اسسه ميشال عفلق، غطاء لهم يستمدون منه شرعيتهم في الحكم. ولاستكمال السيناريو، قاموا بعملية تزوير منهجي مدروس ومتواصل للتاريخ وللحقائق التاريخية الثابتة، وأخذوا يدّعون ان مؤسس حزب البعث ليس ميشال عفلق بل زكي الأرسوزي، الذي لم يكن حتى منتمياً الى الحزب. ولم يكتفوا بهذا القدر، بل اصدروا حكماً بالإعدام على المؤسس التاريخي للبعث، الذي تمثل كتاباته وأفكاره الهيكل الرئيسي لمبادئ الحزب، والذي كرس له أكثر من خمسين عاماً من التضحيات ومن النضال القومي.
من الحقائق المؤكدة ان زكي الارسوزي، الذي كان شاباً وطنياً متعلقاً باقليم الاسكندرون، لم تكن له علاقة أو دور في تأسيس حزب البعث، الأرسوزي لجأ الى دمشق بعد ضم لواء الاسكندرون الى تركيا، وأخذ يعبر عن حنينه وحرقته لضياع اللواء في جلساته متنقلاً في المقاهي الدمشقية، وكان يلتف حوله جمع من أصدقائه ومحبي جلساته وحديثه المتأرجح ما بين الحنين الى اللواء والنقد اللاذع لكل من يحيط به. وكان بشخصيته الغريبة لا يتمتع بأي من الصفات اللازمة للخوض في عمل سياسي منظم ومنسق، بل بقيت أحاديثه أقرب الى الخواطر والتعليقات الساخرة. وهو لم يكن منتمياً الى حزب البعث، ولم يكن حاضراً في أي اجتماع للحزب، لا قبل فترة التأسيس ولا بعدها، وحتى لم يكن حاضراً في مقهى الرشيد أيام انعقاد المؤتمر التأسيسي الاول واعلان تأسيس الحزب رسمياً. اما وجود مجموعة من «اللوائيين» في هذا المؤتمر (المقصود بـ «اللوائيين» مجموعة الشباب الذين كان يترددون الى الجلسات التي كان يقيمها الأرسوزي، وبعضهم كان سابقاً في لواء الاسكندرون، والذين انضموا الى صفوف حزب البعث)، فذلك يعود الى اقتناعهم بالافكار التي طرحها حزب البعث وكذلك الى رغبتهم في الانخراط في الحياة السياسية في سورية من خلال حزب البعث، وان أحسوا بتوافق مع المبادئ والايديولوجية التي طرحها حزب البعث، فهذا قرارهم ورغبتهم ومنهم نذكر وهيب الغانم وغيره.
ولكن، وبعد ان استولت (اللجنة العسكرية) وعلى رأسها صلاح جديد وجماعته على الحزب والحكم في سورية وانتحلت اسم حزب البعث لتضفي الشرعية على نفسها، بدأت عملية التزوير للتاريخ، فلجأت الى شخص الارسوزي لاعتبارات فئوية أولاً ولبناء الهيكلية الضرورية التي تفتقد اليها، فنسجت مسرحية هزيلة ذات سيناريو محكم، وللأسف تعاون معها الارسوزي وقبل ان يلعب دوره فيها لا بل استرسل فيه، فأخذ يجوب الثكنات العسكرية ومراكز تجمعات الشباب برفقة ممثلي الفئة «الشباطية»، وأخذ يردد على مسمع من يشاء الاتهامات التي لفقوها ضد القيادة التاريخية الشرعية لحزب البعث، والتي كانت حينها إما في السجون وإما مشردة خارج البلاد.
اما الذين يتذرعون بكلمة البعث التي استخدمها الارسوزي كي يدعوا انه هو المؤسس، فأقول ان كلمة أو لفظة «البعث» هي كلمة من اللغة العربية والقاموس العربي، وهي ليست حكراً لأحد... وكانت، حسب ما سمعت، كثيرة الرواج والتداول في تلك الحقبة. الموضوع الاساسي هنا هو تأسيس «حزب البعث العربي» وليس كلمة البعث. نحن بصدد الكلام عن حزب له تنظيم ودستور ونظام داخلي وترخيص وهيكلية وفلسفة قومية شاملة ونظرية سياسية واجتماعية متكاملة، لها أبعادها الحضارية والانسانية.
هنالك أهداف ونهج مبدئي وشعار يؤمن برسالة الأمة الخالدة. هناك أدبيات الحزب وايديولوجيته، وفي كل هذا العمل والنضال لم يكن للارسوزي أي دور، واصحاب الضمير الحي يشهدون على ذلك بكل بساطة، وليس كل من استعمل عبارة «البعث» أو تكلم عن القومية العربية هو من أسس حزب «البعث».
من التشييع الرسمي الذي اقيم لجثمان عفلق في بغداد.

أكرم الحوراني

> ماذا عن اندماج أكرم الحوراني في الحزب؟

- حزب البعث العربي، منذ تأسيسه، كان حزباً يسارياً اشتراكياً. وهو لم ينتظر حتى اندمج به حزب أكرم الحوراني «الاشتراكي العربي» كي يصبح اشتراكياً، كما نقرأ في بعض المقالات.
حزب أكرم الحوارني «الاشتراكي» هو الذي اندمج في حزب البعث، وليس العكس. وعند الاندماج، لم يجر اي تعديل على الاسس الفكرية للبعث، ولا على نظامه الداخلي، ولا على هيكليته، ومبادئه وأهدافه. كل ما حصل هو اندماج كتلة أكرم الحوراني في داخل الحزب، وإضافة كلمة «الاشتراكي» بعد «البعث العربي» فأصبح حزب «البعث العربي الاشتراكي».
إن توقيع أكرم الحوراني على بيان الانفصال سنة 1961 كان مفترق الطرق الرسمي بين ميشال عفلق والحوراني.
كتب الحوراني مذكرات مطولة أساء فيها الى ميشال عفلق والى العديد من البعثيين، وروى الأحداث والوقائع بطريقته الخاصة وفقاً للرواية التي تناسبه بعيداً عن الصحة وعن الحقيقة التاريخية.

> هل كانت علاقة تربط والدك بياسر عرفات؟

- زارنا الرئيس عرفات مرات عدة سواء في بيروت أو في بغداد، كما أنه كان موجوداً في الحفل التأبيني وألقى كلمة في ذكرى الأربعين لوالدي. وفي هذا الحفل نفسه ألقى ايضاً المفكر الفرنسي جاك بيرك كلمة تأبينية.

> في أي تاريخ شيع والدك في بغداد؟

- توفي في 23 حزيران (يونيو) 1989 في باريس، نقل الجثمان الى بغداد يوم 24، وسجي في مبنى القيادة القومية يومي 25 و26، ودفن يوم 27 حزيران، وكانت كل القيادة موجودة، وعلى رأسها الرئيس صدام حسين وجميع أعضاء الحكومة العراقية والرئيس عرفات إضافة الى ممثلي 47 حزباً والهيئات الشعبية والجماهيرية العربية ووفود من سائر الدول.
عند وفاته كان العراق قد خرج منذ أقل من سنة من الحرب مع ايران، اي في وقت كان يعتبر فيه العراق في أفضل حال سواء على الصعيد الداخلي، حيث كانت حركة الإعمار والتطوير قد اكتسبت زخماً جديداً بعد انتهاء الحرب، أم على الصعيد الخارجي، حيث كان العراق يحظى بدعم وتأييد الغالبية الساحقة من الدول العربية ومن دول أوروبا وأميركا.

> هل كان والدك على علاقة قوية مع الدكتور عبدالمجيد الرافعي؟

- الرافعي كان من المسؤولين البعثيين القدماء الذين كانوا يزورونه بشكل منتظم في بغداد وباريس وقبلها في بيروت.

> ماذا كان لقب والدك؟

- الأمين العام لـ«حزب البعث العربي الاشتراكي»، وأطلق عليه تسمية «القائد المؤسس» في سورية سنة 1965.
وكانت القيادة تضم في حينه جميع أطراف البعث، ومن ضمنهم التكتل الذي قام بحركة 23 شباط 1966، والذين انشقوا عن القيادة التاريخية للحزب وانتحلوا اسم الحزب «حزب البعث العربي الاشتراكي» واتخذوه غطاء لإضفاء الشرعية عليهم والاستفادة من الرصيد التاريخي للحزب.

> هل كان يلتقي في باريس بمعارضين عراقيين؟

- لا، أبداً.

> ألم يكن يحاول احتواء شخص على خلاف مع صدام حسين؟

- إذا كان الشخص على علاقة سابقة أو قديمة معه، أي مع والدي، كان يحاول تقريب وجهات النظر، ولكن لقاء معارضين للرئيس صدام حسين كان أمراً غير وارد.