آخر الأخبار

الحقيقة المرّة-2-

وباستثناء حفنة قليلة من وجوه القبيلة فالأكثرية الساحقة بيوتهم عبارة عن خيمة صغيرة أو من جلود الماشية بالكاد تكفيه ليستظلّ تحتها صيفاً من الحرّ أو المطر شتاءً وهو يستطيع فكّها وتركيبها أو حملها بعيداً في دقائق قليلة كما يستطيع حصان أو جمل دهسها على رؤوس ساكنيها وهي قائمة في حال حدوث غارة، يأكل الكثير من الناس الدّم والوبر والجراد، وتقديم الطعام في تلك الأيام منتهى الكرم، وإن تصريحات القادة العرب عن أحوالهم المعاشية والحياتيّة قبل الإسلام أصدق تعبيراً وأدق وصفاً من أي كلام نقوله اليوم لوصف أحوالهم في الجاهليّة، فعندما ذهب وفد من القوّات العربيّة المقاتلة على جبهة فارس بناءً على طلب يزدجرد ملك فارس بادر المغيرة بن زرارة بن النباش الأسيدي بالردّ على خطاب يزدجرد أيها الملك هؤلاء رؤوس العرب ووجوههم ... إلى قوله فأما ما ذُكرت من سوء الحال فما كان أسوأ حالاً منّا وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع كنّا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيّات فنرى ذلك طعامنا وأما المنازل فهي ظهر الأرض، ولا نلبس إلاّ ما غزلنا من أوبار الإبل و أشعار الغنم، ديننا أن يقتل بعضنا بعضاً، وإنّ أحدنا ليدفن ابنته حيَّة كراهية أن تأكل من طعامنا وفي رواية أخرى قال المغيرة كنّا نأكل الميّت والدّم والعظام أفضلنا في أنفسنا الذي يقتل ابن عمه ويأخذ ماله فيأكله.
وبعد النصر في معركة الولجة قام خالد بن الوليد خطيباً في الناس يرغبهم في بلاد العجم ويزهدهم في صحرائهم فقال: ألا ترون الطعام كرفع التراب وبالله لو لم يلزمنا الجهاد في الله والدعاء إلى الله عزّ وجلّ ولم يكن إلاّ المعاش لكان الرأي أن نقارع على هذا الريف حتّى نكون أولى به، وقال الخليفة عمر (راع) عندما كان يندب الناس إلى العراق: إنّ الحجاز ليس لكم بدار إلاّ على النجعة ولا يقوى عليه أهله إلاّ بذلك، أين الطرَّاء المهاجرون عن موعود الله، سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب أن يورثكموها. فشعب هذه حاله لا يمكن أن يستمرّ هكذا وعليه فالتغيير أمر تحتمّه طبيعة الحياة في بلاد العرب قبل الإسلام حيث كان التفكير باحتياجات المعدة والأمن أهم بكثير من التفكير باحتياجات العقل ولحياة أكثر هدوءً واستقراراً تُغنيه عن التنقل الدائب للبحث عن مرعى أو ماء أو صيد أو غزو يقوم هو به، ولذا فإنّ جوهر الدعوة الإجتماعي حقيقة لفارس التغيير تتلخص في أن بقاء العرب في صحرائهم أمر مستحيل وإنّ مستقبلهم لم يعد فيها فحسب بل في الخروج إلى بلدان وأراضٍ أكثر خصباً وعطاء لقوله تعالى: الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنّا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ... الآية
وكانت الميزة الإيجابيّة لهذه الحياة البدوية أنّ أفراد القبيلة جميعاً يتدربون على القتال منذ الصغر حتى النساء فالجميع يُحسنون استخدام أسلحة تلك الأيام وركوب الخيل والجمال فكل قبيلة هي وحدة قتالية مدرّبة ومنظّمة ومقادة جاهزة للقتال في كل لحظة فعندما يقيِّض الله لهذه القوى من يجمعها ويستخدمها للصالح العام ستحدث خللاً حقيقيّاً في توازن القوى السائدة ذلك الزمن وذلك ما حدث فعلاً. ولكن هيهات للأنا القبلية أن تدرك ذلك أو أن ترتقي إلى أنا تواجد عربي عام ذلك المرض القديم الحديث العاجز عن فعل شيء إلاّ التبعيّة للغرباء.
الحالة الثقافية: لم يكن لدى رؤساء القبائل وشعرائها أفكار وآراء يمكن مخاطبة الآخرين بها إلاّ طروحات قريش التجارية حول اقتسام أو تبادل المنافع وهي أفكار جيدة ولا بأس بها وهي تشكل زاوية مهمة في العلاقات الدولية ايامنا هذه و لكنها ليست كافية لمن هو حول قريش على امتداد الساحة العربيّة مع أنّ جزيرة العرب كانت مليئة تلك الأيام بالأفكار المسيحية واليهوديّة والحنفيّة دين ابراهيم الخليل مع ازدهار الشعر والخطابة إضافة إلى خبرة قريش الخاصّة بالحياة لكن قريش كانت ترى نفسها متفوقة بعبادتها على الآخرين وما نعبدهم (أيّ الأصنام) إلاّ ليقربونا إلى الله زلفى الزمّر3 أما اليهوديّة فلخصت رؤيتها بعزير والد ابراهيم والمسيحية لخّصت رؤيتها بعيسى بن مريم و لهذا كان انتشار المسيحيّة و اليهوديّة محدوداً في المنطقة العربيّة مع أنهم أهل كتاب وكل منهم يدعو للإيمان بإله واحد إضافة إلى عبدة النار والكواكب وغيرهم ولما كانت ظاهرة الإله المشخّص عالمية كما مرّ معنا فكانت هي المسألة الفكريّة الأولى التي يجب التصدّي لها ومحاولة تجاوزها وذلك برفع مستوى الإيمان درجة من المحسوس إلى المجرّد ومن المحدود إلى المطلق اللاّمتناهي ومن المادّة إلى الرّوح لأنّ الإيمان اليقيني بإله موصوف ومحدّد كبقية الماديات يجعل العقل الإنساني دوماً في حالة تساؤل غير مطمئن حول صحّة اعتقاد كهذا الذي يسود المنطقة العربية لهذا لا بدّ من إعطاء العقل دفعة قوية للإنتقال من هذه الرؤى المجسّمة إلى رؤية أكثر تجريداً وروحانيّة نعقلها ونؤمن بقدرتها على الفعل كحقيقة كونيّة وحيدة يعود إليها فعل كل شيء وبالرغم من بروز تيار الأحناف على السطح في أكثر من مكان من جزيرة العرب وخاصّة مكة لكن أفراده قلائل وتباعد الزمن وظهور أنبياء كثر بعد ابراهيم وفقدان صحفه يجعل الضرورة ملحّة لإعادة طرح الفكر التوحيدي الإبراهيمي بصيغة أكثر علمية ووضوحاً وواقعيّة يصبح التغيير حتمياً في حالة العرب هذه موضوع البحث ومع أنّ مصادر اليهوديّة والمسيحيّة تبشر بمقدم الرسول العظيم أحمد فلم يحاول أحد من الناس أن يدّعيه حتى جاء أحمد بشخصه المبجَّل ورسالته السماوية السامية ومن تيار الأحناف لأنه هو المؤهّل أصلا لحمل الرسالة التوحيديّة على ملّة ابراهيم ومن ذريته تحديداً ولا عجب أن يكون من آل هاشم فمكرمة عبد المطلب في يوم الفيل لهي أكثر إعجاباً من مشاركة الملائكة بالحرب يوم بدر.
الحالة السياسيّة: كانت الوحدة الإجتماعيّة السياسيّة عند العرب هي القبيلة فبالرغم من الحرية الفردية التي يجدها العربي في صحرائه لم يكن له ما يميزه عن قبيلته (عدا كفاءته الفردية) فإله القبيلة إلهه وقيمها قيمه وعاداتها وعاداته ومجدها مجده فالقبيلة تمثل الغيرية بالنسبة للأنا الفردية، أما الأنا القبلية فلا غيرية تقابلها وتعلو عليها لا عربية ولا إنسانيّة حتى ولا دينيّة لأنّ لكل قبيلة صنمها الخاصّ بها ممّا جعل المجتمع العربي في الجاهليّة مجتمعاً متنافراً يقاتل بعضه بعضاً من أجل كل شيء، إذ لا شيء يجمع تلك القبائل و لا قاسم مشترك بينها تراه، إلاّ بعض الضرورات المؤقتة كالدفاع المشترك الذي يجمع بين قبيلتين أو أكثر أحياناً، وإنما العكس هو الصحيح لأنّ الأنا القبلية ذات القطب السلبي الوحيد يجعلها بعيدة عن الآخرين برغم الجوار والمعرفة بعضهم بعضاً يسلكون كالذئاب كل يتربص بالآخرين حتى إذا أحسَّ الغفلة من أحدهم انقضَّ عليه يستبيح كل ما يستطيع أخذه بالقوة، فمجتمع هذه صفاته لا يمكن له أن يتطور نحو الأفضل بل العكس يتآكل من الداخل ولولا من صفاته كثرة التناسل حيث المواليد أكثر مما تأكله الحرب والمرض والجوع لكان يجب أن يكون قد نكص اجتماعيّاً بينما الجزيرة مكتظة بالقبائل عندما جاء الإسلام. وبالرغم من الحالة المثلى التي تدير بها قريش مجتمعها المكي لم تبادر بشيء نحو الآخرين فكل مبادراتها السياسيّة وتحالفاتها القبليّة هي للحفاظ على تجارة السادة من قريش وحتى المحافظة على حق القبائل بالحج وحفظ آلهتها وحماية المظلومين داخل مكة هو لصالح التجارة أيضاً لأنّ هذا يشجع الناس على القدوم إلى مكة والمتاجرة مع قريش. فقبيلة قريش مؤهلة للقيادة ولكنها تأبى إلاّ تجارتها وقريش مثقفة سياسياً ودينياً إذ تتعايش مع كل الأديان من الأوثان وحتى الحنفية ملّة ابراهيم الخليل مروراً بالمسيحيّة واليهوديّة وقريش مثقفة إدارياً وإجتماعيّاً، ولكن الأنا القبلية القرشية هي الأنا التجارية الذاتية المستغرقة في أنا ها ترفض كل تطوير، ويفترض بالأكفاء أن يتقدموا الصفوف لأنّ الكفاءة تفرض على صاحبها المبادرة وذوو الكفاءات مسؤولون على مستوى كفاءتهم في محيطهم وكفاءة قريش تجاوزت الحدود العربية إلى الدوليّة ولهذا يفترض بقريش أن تكون مسؤولة أمام العرب، وفعلاً عندما دقَّ ناقوس العمل لم تتهرّب قريش وكانت بحجم المسؤولية، ولكن تناقضاً توضّحت معالمه بين قريش الأحناف و قريش الوثنية، فتقدم الأحناف وقصّر الوثنيون. وقد اكتسب سادات قريش في أسفارهم التجارية إلى بلاد الروم وفارس والحبشة وحتى الهند خبرات سياسيّة ومعرفة حقيقيّة بأحوال مجتمعات وحكومات ذلك الزمن ممّا كوّن لديهم كفاءات قلّ نظيرها عند العرب، ولكن العرب والعروبة لم تكن تعنيهم كتجارتهم فلم يكلّفوا أنفسهم عناء التفكير في حالة العرب الماثلة لهم المتنافرة والمتخاصمة على كل شيء كما مرّ إلى صيغة أو مبدأ يكون عاملاً موحداً يؤالف بين الناس على مستقبل أفضل. دعني أفهم أنّ قريش قدمت نفسها للعرب كنموذج يُحتذى به من غير كلام تقوله ولسان حالها يقول انظروا إلينا كيف ندير مجتمعنا دون حاجة إلى حكومة أو حكام أو شرطة وغيرها من أدوات الحكومة، انظروا إلى عدالتنا وحماية المظلومين انظروا إلينا كيف نعطف على فقيرنا ونشركه في تجارتنا انظروا إلى بيوتنا المفتوحة التي تقدم الطعام إلى الجياع وما إلى ذلك من الميّزات التي تفوّقت بها قريش الوثنية على غيرها من العرب، ولكني أتساءل أيضاً طالما حجم قريش هو حجم قبيلة واحدة من قبائل العرب فهل كل قبيلة من العرب تتمتّع بنفس الموقع المميّز كموقع مكّة الجغرافي؟أم لكل قبيلة كعبة يؤمّها الناس؟أم أنّ هناك كعبة واحدة؟ وهل كل قبيلة أو مجتمع قبلي يحكمه أبناء أسرة واحدة وبمستوى أبناء قصيّ بن كلاب وبقية وجوه قريش من الثقافة والإدارة والمال؟ ولنفرض جدلاً أنّ كل قبيلة من العرب استطاعت أن تعمل نفسها كقريش ألاَ يظل المجتمع، مجتمعاً قبلياً؟ وحكومات قبائل؟ هل تستطيع أن تصمد لأية مخاطر خارجيّة؟ أيّ قادمة من غير العرب بالتأكيد لا! وبرهان ذلك عندما هاجم أبرهة الحبشي مكه أمر عبد المطلب قريشاً أن تعتصم بالجبال وأن للبيت رباًّ يحميه وبقيَ عبد المطب قائماً على صلاته بجانب الكعبة حتى أنهى الله معركته بهزيمة الأحباش بالطير الأبابيل، وحتى بعد مضيّ أربعة عشر قرناً ونيّف فلا تزال حكومات القبائل قائمة في أيامنا هذه، هل رآها أحد من أحياء هذا الزمن إلاّ في أحضان الغرباء؟ ما الفائدة من نموذج قريش بالنسبة لشعب يعيش حالة مزرية من التفكك لا مثيل لها إلاّ في أيامنا هذه! عفواً أقسم أنّ رؤساء قبائل ذلك الزمن كانوا أكثر أنفة ورفضاً للعبوديّة من حكامنا اليوم ومثاله عثمان بن الحويرث عندما اتصل بالروم لينصبّوه ملكاً على مكه تصدّى له سادات قريش وأفهموه أنّ قريش لقاح لا تملك ولا تملِّك فخرس ابن الحويرث. وبالعودة إلى قريش فإنّ معلوماتنا تقول لم يكن باستطاعة أيّة قبيلة من قبائل العرب أن تكون نموذج قريش إلاّ قريش نفسها، وقد ثبت تاريخيّاً أنّ شكل الإدارة في قريش بشقيها الأبطح والظواهر نموذج واحد وحيد في العالم لم يتكرّر إلى يومنا هذا. فالعرب وحالهم القبلية هذه معزّزة بالإله الصنمي لكل قبيلة يستحيل عليهم قبول أيّ تطوير مع وجود هذه الأصنام ولا أقول أن تحطيمها يحطّم الأنا القبليّة ولكن نقول أنّ صدمة نفسيّة من هذا النوع لا بدّ أن تجعل الأنا القبليّة تعيش حالة تصعيد نحو الغيريّة وأكثر انفتاحاً على الغير لتكوين مجتمع موحّد متماسك الذي لم تخلق غيريته بعد ومع كل الحاجة الملحة للتغيير لم تؤثّر بشيء في قريش الوثنية بالاتجاه العربي العام بل تمسكّت بما هي عليه لا تنفع فيها الحوارات الشاملة ولا الحقائق الموضوعيّة ولا النصائح والوعود الخيّرة التي قُدِّمت لها من قبل فارس التغيير طيلة عشرين عاماً و نيّف من عمر الدعوة إلى الإسلام فمن دواعي السؤال أنّ قصيّاً كان سيّداً لقريش ثم هاشم وبعده عبد المطلب ثم أبو طالب سيّداً لقريش أيضاً ولم تشترط قريش على سيادة أحد ممن ذكر فلماذا تعترض على سيادة محمّد وتشترط عليه تواجد أصنامها، هل يعقل أن تكون الغيرة والحسد السبب الكامن وراء هذا العنت القرشي؟ يقول الدكتور جواد علي في كتابه المفصَّل في تاريخ العرب بالجاهليّة أنه كان بين هاشم وتوأمه عبد شمس بعض التحاسد وانتقل إلى الأبناء بعدهما وذكر أهل الأخبار أنّ أميّة ابن عبد شمس حسد عمه هاشماً وكان أميّة ذا مال فدعا عمّه إلى المنافرة (التفاخر) فرضي عمه بذلك مكرهاً على أن يتحاكما إلى الكاهن الخزاعي فنفَّر هاشماً عليه فأخذ هاشم الإبل التي نافر عليها من أميّة فنحرها وأطعمها من حضره وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين بحسب حكم الكاهن حيث كان هاشم قد نافر عليها أيضاً ونفس المصدر ونقلاً عن ابن الأثير أنّ سبب افتراق عبد المطلب عن حرب بن أميّة كان بسبب جار لعبد المطلب اسمه أُذينة وكان تاجراً وله مالٍ كثير فغاظ ذلك حرب بن أميّة فأغرى به فتياناً من قريش ليقتلوه ويأخذوا ماله فقتله عامر بن عبد مناف وصخر بن عمرو بن كعب التميمي فلم يزل عبد المطلب يبحث عن القاتل حتى عرفهما فاستجارا بحرب بن أميّة فأتى حرباً ولامه وطلبهما منه فأخفاهما فتغالظا بالقول حتى تنافرا إلى النجاشي ملك الحبشة فلم يدخل بينهما وذهبا إلى نفيل فنفَّر عبد المطلب عليه فأخذ عبد المطلب مائة ناقة من حرب فدفعها إلى ابن عمّ أُذينة القتيل وارتجع ماله إلاّ شيئاً هلك فغرّمه عبد المطلب من ماله وترك هذا الأخير منادمة حرب ابن أميّة ونادم عبد الله بن جدعان وذكر نفس المصدر (جـ 4 ص 208)أنّ رجلاً من تميم كان متجره بمكه وقد اختلف مع حرب بن أميّة فاعتدى عليه حرب فذهب التميمي إلى بني هاشم فاستجار بهم فأجاره الزبير بن عبد المطلب رئيس بني هاشم وسيّد قريش انتهى.
يبدو أنّ كفاءة هاشم وبنيه من بعده جعلتهم سادة قريش مما جعل الغيرة والحسد يفعلان فعلهما في نفوس أبناء العمومة من أميّة بن عبد شمس وذريته من بعده حتى عندما خرج الرسول بآراء مخالفة لقيم قريش وجدوها فرصة للنيل من الهواشم واستطاعوا تجميع الغالبيّة العظمى من بطون قريش للتخلّص نهائياً من التفوق الهاشمي هل يعقل استنتاج كهذا؟ ولكن حقيقة الأمر أنهم عُمُوا وصُمُّوا عن الحقيقة عندما أعلنت ودعا الرسول العظيم صلعم الناس إليها.
حرّية الرأي في عهد الرسول صلعم : من مكه وليس من غيرها ومن ذلك الوسط الثقافي حيث كانت حرية الرأي سائدة في مجتمع مكه وفي سوقها العكاظي شعراً ونثراً وكذلك حرية التجارة وحرية العبادة وحرية التنقل خرج رجل الإيمان دافعاً ذلك الرصيد من الحريات كل إلى مداه منسِّقاً الضَّار منها ومعزِّزاً المفيد منها ومبشراً بالخير العميم إذا استجاب الناس ومنذراً إذا تخلّفوا عن الإجابَة بما سيلاقونه من شرور أعمالهم وبدأ بمخاطبة العقول أولاً وتحريرها من نماذجها المشخصة ولتأخذ مداها بقدر ما تستطيع فالواقع القائم ميداناً لها، ولم يطل الشرح فلخَّص المبدأ الأساسي للإيمان بالحقيقة الكونيّة المقدّسة بكلمةٍ واحدة لا شريك لها الله كلمة واضحة وبسيطة شاملة وعميقة مفهومة من أبسط الناس إلى أكثر الناس علماً وثقافة كل على قدر استطاعته إذاً المثل الأعلى الكوني الله المفارق للمادة هو الحلّ الأمثل لتحرير العقل من كل قيد إيماني مادي وتابع الشرح عن المثل الأعلى بتتابع الوحي حيث الخطوط مفتوحة بين السماء والأرض أيّ بين الله ورسوله وبدأت ردود الفعل متفاوتة حسب المساس التوحيدي لتوجه كل طرف فيما يؤمن.
أهل الكتاب: لم يتفق العرب بمجملهم من مختلف الفئات على مدى التاريخ حول شيء ما، كتاب، عقيدة، شخصيّة موقّرة ومحترمة من الجميع سوى شخصية ابراهيم الخليل، فمقدّسات أهل الكتب السماوية الثلاث هم جميعاً من ذرية ابراهيم ومع أنّ أهل الكتاب قد بشّرتهم مصادرهم بمقدم الرسول أحمد إلاّ أنهم وفي حقبة من الزمن التفوا على البشرى وقالوا بأنّ الرسول القادم خاصّ بهم. وقالت اليهود عُزير بن الله وقالت النّصارى المسيح بن الله وجاءت الرسالة المحمّدية لتصحيح ما جانب الصواب والعودة إلى التوحيد مصدّقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل، وجاء التصحيح على لسان ابراهيم في توجهه إلى الله كيف تجاوز الأشكال والمحسوسات من الكواكب وغيرها إلى المطلق اللاّمتناهي بقوله تعالى على لسان ابراهيم: وكذلك نري ابراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين. فلما جنّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفُلَ قال لا أُحب الآفلين. فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفُلَ قال لئن لم يهدني ربي لأكوننَّ من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفُلت قال: يا قوم إني بريء ممّا تُشركون. إني وجهّت وَجهي للّذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين الأنعام آيات 75-79 ثمّ أعاد التأكيد على تجاوز الماديات المشخصة وعلى لسان ابراهيم أيضاً في حواره مع نمرود لقوله تعالى: ألم ترَ الّذي حاجّ ابراهيم في ربه أن أتاه الله الملك إذ قال ابراهيم ربي يُحييّ ويُميت قال أنا أُحييّ وأُميت قال ابراهيم: إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب فبُهتَ الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين البقرة آية258 ثمّ أتى التوجيه على لسان ابراهيم لقوله تعالى: وإذ قال ابراهيم ربيّ أرني كيف تُحييّ الموتى قال أوَ لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصُرَّهنَّ إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثمّ أدعهنَّ يأتينك سعياً واعلم أنّ الله عزيز حكيم البقرة آية 260 فإنّ ما يجري من أعمال غير عادية كإحياء الموتى أو شفاء المرض وغيره يحدث بإذن الله فإنّ القدرة ممنوحة لإبراهيم في هذا الفعل وليست أساسية فيه فإبراهيم والمسيح وكل المخلوقات مفتقرة في قوتها ووجودها إلى الله والله هو الغني الحميد ومع كل قدسيّة ابراهيم لدى أهل الكتاب من يهود وسيحيين وما جاء على لسانه لم يؤثّر فيهم بشيء ولا خفف من غلوائهم في تجسيد المطلق اللاّمتناهي في أشكال آدمية ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خير لكم إنّما الله إله واحد سبحانه أنّى يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً النساء آية 171 وممّا يثير الدهشة أنّ أهل الكتاب يعلمون أنّ ابراهيم كان موحّداً ولم يدع إلى أحد مع الله أو أنه ابن الله أو أيّ شيء من هذا القبيل ومع ذلك لما رأوا محمّداً صلعم يدعو إلى ملّة ابراهيم لم يتبعوها وهكذا فإنّ أولاد الست رفضوا الحكمة من أولاد الجارية ولم يتفقوا وتمرّسوا خلف معتقداتهم حتى تمرّد عليهم أبناء ملّتهم من الشيوعيين والمستقبليين وتجاوزتهم علوم العصر ووقعوا في الإحراج عندما بدأت مراكب الفضاء تغزو الكواكب وتهبط على القمر والمريخ بينما العلم التجريبي ورجاله عليهم الكثير حتى الآن ليكشفوا كل ما جاء في القرآن من إشارات كونيّة وغيرها من العلوم.
أهل الشرك: لم يكن الحوار والدعوة موجهة لفئة دون أخرى فظاهرة الإله المشخص كانت سائدة في العالم ولا زالت حتى يومنا هذا تسود أكثر العالم ومع ذلك عبدة الأصنام وما شاكل الأصنام من خارج أهل الكتاب كانوا معنيين بالرسالة أكثر من غيرهم فالرسول منهم ولهم ولمن شاكلهم خاصّة وللناس كافّة فعبدة الأوثان والنار ... الخ لم ينذروا من قِبَل رسل الإله ولذلك ثَبُتَ عليهم التوجه بمقتضى الإسلام ولم يقبل منهم غير ذلك أما أهل الكتاب قد أُنذروا من قَبل ثمّ اجتهدوا حتى وقفوا على ما هم عليه حتى اليوم ولذلك خُيّرُوا بين الجزية والإسلام وقد نزل القرآن بلغة عبدة الأوثان، وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه ابراهيم آية4 وحاورهم الرسول وجادلهم بالتي هي أحسن وصبر وهو المحاور الأول ثلاثة عشر عاماً وهو يدعو قريشاً ومن يزور مكه متحملاً إيذاءات المستهزئين منهم ولكن قريشاً مصرّة على موقفها لا تتزحزح قيد أنملة بل بالعكس تكتلت قريش الوثنية ضدّ محمّد (صلعم) وأهله وكتبوا إعلانا ووضعوه بالكعبة ليراه الناس بمقاطعة بني المطلب وحلفائهم مع أنه ظهر نفرٌ قليل برأي مخالف يقول بتمزيق الإعلان. تعتقد قريش بفائدة أصنامها بسبب الحج والمتاجرة مع الحجيج ولم تستطع ولو للحظة واحدة أن تفعل أو تتصور شيئاً مهما كان زهيداً أن ينقص من تجارتها أو وجاهتها فطغت عليها أناها القبلية التجارية، لا أحد ينكر أنّ قريشاً كانت تجني فوائد من وجود المجمع الصنمي لديها حيث تتاجر مع الحجيج الزائر فتشتري وتبيع وتربح إضافة إلى الوجاهة، فقريش بكعبتها ومجمعها الصنمي المذكور محطّ أنظار الناس من كل الاتجاهات، ولكن ما هذه الفائدة وهذه الوجاهة بالقياس إلى ذلك الوعد الشهير من صاحب التغيير لقريش، قولوا الشهادة: تدين لكم العرب وتملكون بها العجم ومع ذلك لم تجرِ قريش أيّ حوار مع محمّد كيف يتم تحقيق هذا الوعد قبل فتح مكة، مع أنّ الثابت لدينا من الطرفين أنّ قريش تريد التعايش مع سلامة أوثانها من قولهم مثلاً خذ المال والأجمل من النساء تزوَّج والوجاهة على أن لا تعيب آلهتنا، من قولهم لك إلهك ولنا إلهنا وقولهم اعبدوا آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة ثم نرى أيّهما أكثر فائدة وكلام من هذا القبيل مع شكواهم أكثر من مرّة إلى سيّد قريش عمه أبو طالب حول هذه الأمور إذاً قريش الوثنية تشترط المستحيل لتسويد محمّد عليها ومن طرف الرسول العظيم صلعم لم يخفِ حرصه على قومه فهو يعلم إمكانيات قريش فعندما تستجيب له تصبح مواجهة الآخرين أكثر يسراً وأقصر مدّة بالنسبة للساحة العربيّة وصَبَرَ وحرَصَ وذلك ظاهر في كثير من الآيات كقوله تعالى لعلك باخعٌ نفسك ألا يكونوا مؤمنين الشعراء آية 3 وقوله: فلا تذهب نفسك حسراتٍ عليهم فاطر آية 8 قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله الجاثية آية 14 وما حدث عند تلاوة سورة النجم حتى أشيع بين الناس أن قريش قد آمنت، وقوله فاصفح وقل سلام فسوف يعلمون الزخرف آية 89 ولكن ما لفائدةٍ من الرغبة إذا كانت ضدّ العقل فمجتمع الأصنام يعني مجتمع القبائل فقريش الوثنية عمياء وصمّاء عن المضمون السياسي لدعوة محمّد صلعم إلى الإسلام وهو أن عامل التفرقة المفروض على العرب من قبل القوى الدولية هو نفسه يجب أن يكون عامل التوحيد لتوجيه القوّة نحو الخارج لإبعاد الظلم والنفوذ الدوليين بعيداً عن العرب، فقريش تقول بالشرك والرسول يدعوا إلى التوحيد، قريش تحافظ على مجتمع القبيلة والرسول يدعوا إلى مجتمع الأمة، فالأنا القبلية لا يمكن أن تكون بديلاً عن الأنا العربيّة، ومما زاد الطين بلّة هو ضيق صدر وجوه قريش الوثنية على محمّد وعدم إجراء أي حوار يعبّر عن مستوى كفاءاتهم مع أنّ قريش بنت حياتها على المسالمة والحوار وحلّ المشاكل بالاتفاق والمشاركة واقتسام المنافع قريش التي تتقرّب إلى الآخرين بالكلمة الطيبة والنية الحسنة وأكثر من يحترم الرأي الآخر وينصت له بل يمكن القول أنّ قريش من أسّس للرأي و الرأي الآخر، فلماذا هذا الرفض الحادّ للرأي الآخر؟
كل هذا لأن الرسول قال إنّ هذه الأصنام لا تضرّ ولا تنفع أم من أجل نفع بسيط تجنيه من متاجرة زائري هذه الأصنام ألم يدعُ إلى البديل الأسمى والأجلّ؟ ألم يحافظ على الحج وبزخم أكبر من قبل؟ غريب أمركِ يا قريش! يتسع صدرك للحوار مع كل الأطراف على امتداد الساحة من بلاد الروم إلى اليمن ومن الحبشة إلى فارس والهند ويضيق صدرك بالحوار مع الرسول صلعم مع ما في وعوده من منافع ومستقبل باهر كم كان يقول ويح قريش ماذا لو خلّوا بيني وبين العرب فإن أصابوني كان ذلك الذي أرادوا وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة فوالله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السّالفة (أيّ الموت) لماذا نحن العرب هكذا! لا يسع بعضنا بعضاً ما اشبه ذلك بأيامنا هذه فقد كان أحد حكام العرب قد اتسع صدره لثلاثين سنة من المماحكات والمفاوضات مع إسرائيل ومراسلي إسرائيل من الأمريكان وغيرهم على حد قوله وما كان يتسع صدره لتلميذ في ثانوية أو جامعة إن يتهم بأنه من حزب غير مشارك في الجبهة الحاكمة أو حتى يتهم بأنه يقرأ نشرات لحزب أو أحزاب غير مشاركة في جبهته الحاكمة! وهكذا فإنّ قريش الوثنية لم تتنازل عن أيّ من رؤاها الوثنية أمام محمّد صلعم وكل حواراتها ومطالبها في صيغة الإبقاء على الحالة الراهنة الأنا القبلية عدوة كل تغيير بل بادرت وبكل قوتها تعادي وتقاتل رجل الإسلام الأول ولما أثقلت قريش على الرسول صلعم اضطر تحت ضغط الظلم القرشي له ولمن هو برأيه إلى مغادرة مكّه إلى المدينة ولما كانت الأعمال بآجالها والرسول تجاوز الخمسين من العمر فلا يمكن أن يمضي حياته كلاماً كما حدث ويحدث في أيامنا هذه، فالانتقال من الكلام إلى الفعل أصبح أمراً تحتمه مقتضيات التغيير والزمن وبأسلوب القوّة بعد مضي ثلاثة عشر عاماً من الصبر والحرص على قريش والحوار معها، فالقوة أصبحت الملاذ الأخير الذي لا بد منه لإحداث الصدمة النفسيّة لدى العرب عموماً وقريش الوثنية خصوصاً. و بهجرة الرسول إلى المدينة أصبح للإسلام صوته المسموع وانفتح الصراع مع قريش على مصراعيه وعلى كل المستويات وأخذ الشعراء دور الإعلام في أيامنا هذه وتبلور شعر شعراء مكه حتى عام الفتح في إيذاء الرسول صلعم والإسلام وهجاء المسلمين وتمجيد قريش الوثنية ورثاء من قتل من المشركين في المعارك وتعظيم أمر الجاهلية وسنّة الآباء وما ألفوه عنهم من أمور وأهم شعرائهم أميّة بن أبي الصلت وبالمقابل فإنّ النبي أعدّ للردّ عليهم كلاً من حسّان بن ثابت وكعب ابن مالك وعبد الله بن رواحة وقد قال الرسول صلعم لحسَّان اهجهم أو هاجهم وجبريل معك وقال لحسّان أيضاً إن قولك فيهم أشدّ من وقع النبل وقال هيِّج الغطاريف على بني عبد مناف والله لشعرك أشدّ عليهم من وقع السهام في غبش الظلام، وكان حسّان وكعب يعارضان شعراء قريش بمثل قولهم في الوقائع والمآثر والأيام ويذكران مثالب قريش الوثنية وكان عبد الله بن رواحه يعيرهم بالكفر وعبادة الأوثان ما لا يسمع ولا ينفع فكان قوله يومئذٍ أهون القول عليهم وقول حسّان وكعب هو أشدّ القول عليهم ولما أسلموا وتفقهوا أدركوا أنّ أشدّ القول عليهم هو شعر عبد الله بن رواحه وعمِلَ كل من المشركين والمسلمين على نشر شعر شعرائه على أوسع نطاق وبلغ التعارض أشده في معارك بدر وأُحُد والخَندَق ثم هدأ قليلاً بعد صلح الحُديبيّة مع بروز الأحلاف إلى العلن ودخلت خزاعة في حلف مع الرسول ثمّ تبعتها سليم ومزينة وأسلم وتميم وفزارة ودخلت بكر في عقد قريش وعهدها وصاحب فترة الهدنة هذه فتور في همة الطرف المشرك في حضّ الناس أن يحافظوا على ما وجدوا عليه الآباء، حيث بدأوا يهتمون بتجارتهم بينما الجانب المسلم بدا صوته عالياً يَطرق كل الأبواب إما بواسطة الغزو أو الترغيب بدخول الإسلام وبالكتب الموجهة إلى الملوك ورؤساء القبائل وحتى الصعاليك في تهامه كاتبهم الرسول وأمنهم إن هم آمنوا وأقاموا الصلاة وصدقوا، فعبدهم حرّ و مولاهم محمّد ومن كان منهم في قبيلة لم يردّ إليها وما كان فيهم دم أصابوه أو مال أخذوه فهو لهم وما كان لهم من دين في الناس رُدَّّ إليهم ولا ظلم عليهم ولا عدوان، هذا وقد تضاعف عدد المسلمين في سنتي الهدنة مع قريش ومن كبائر الأمور في العلاقات العامّة هو نقض العقود ولا تزال في أيامنا هذه فلما نقضت قريش وحلفاؤها عقد الهدنة مع الرسول جمع لهم الجموع فاستسلمت قريش الوثنية دون حرب فكانوا فيئاً لرسول الله وعلى رأسهم أبو سفيان وولده معاوية، وكم كانت وقفة الرسول صلعم رائعة أمام قريش وقد جُمِعُوا له وهو يعفو عنهم بقوله اذهبوا فأنتم الطلقاء، وهكذا فعدوّ الأمس هو صديق اليوم وتسامى فوق الانتقام والأحقاد وكرّم أعداءه لما ظفر فيهم وجنّد الناس لخدمة العقيدة التي تشكل الخلاص الوحيد للوضع العربي آنذاك وعمّ الإسلام الجزيرة في وقت قصير وهكذا هُزِمَت عقيدة الشرك وقيمها وآراءها إلا من بعض الهنات هنا وهناك وانتصرت عقيدة الإيمان وقيمها، ولكن النفوس وما استقرّ فيها فذلك يعود لإيمان الرجال والنساء بعقيدة الإسلام، وكانت المواقف متفاوتة وكان على الرسول صلعم أن يكون النموذج الذي يُقتدى به في قبول الرأي الآخر والتعايش مع المشككين والطامعين والخوالف عن الجهاد وحتى المتآمرين واستيعاب التناقضات وتوظيفها ما أمكن في خدمة الاتجاه العام وتوحيد الجهود ضد المظالم التي على العرب من الخارج ولذلك كانت حملة زيد بن حارثة إلى مؤته ضد الروم وقاد الرسول صلعم حملته على تبوك بنفسه، وتمثّلت المعارضة في عهد الرسول صلعم بعد فتح مكة بما يُسمّون عقيدياً بالمنافقين أو مرضى النفاق وكافحهم الرسول صلعم بفضح أعمالهم وكشف نواياهم السيّئة في مواطن كثيرة من القرآن وهناك سورة اسمها المنافقون تبيّن للناس سلوكهم وأقوالهم و تحذّر منهم كما يوجه الإنذار إليهم لقوله تعالى: لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثمّ لا يجاورونك فيها إلاّ قليلاً. ملعونين أينما ثقّفوا أخذوا و قتلوا تقتيلاً. سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجدَ لسنة الله تبديلا أحزاب آيات 60-61-62 وكذلك المؤلفة قلوبهم وهم مجموعة من أشراف القبائل كان لهم مخصصات وعطايا إضافيّة على حقوقهم من الغنائم يتآلفهم لتقوية المسلمين والإسلام ومنهم أبو سفيان وولده معاوية من قريش وعينيه بن حصن من فزارة والأقرع ابن حابس من تميم وعباس بن مرداس من بني سليم وحكيم بن حزام وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وآخرين وعندما رفض عينية والأقرع وعبّاس التنازل عن حقّهم من سبي هوازن لم يجربهم الرسول صلعم بل وعدهم النصيب المربح من أول غنائم يصيبونها، وكذلك عندما وقف ذو الخويصرة من تميم واتهم الرسول صلعم بأنه لا يعدل في توزيع الغنائم (من هوازن) غضب الرسول صلعم وقال: ويحك إذا لم تجد العدلَ عندي فأين يكون! ولما اقترح أحد الصحابة قتله قال الرسول دعوه، كما كان عليه أن يتحمّل خشونة بعض الأعراب فمثلاً عندما قدم وفد تميم إلى الرسول صلعم دخلوا المسجد وهم يصيحون يا محمد اخرج إلينا نريد أن نفاخرك فأذن لخطيبنا بالكلام ثم لشاعرنا فأذن لهم فتكلم خطيبهم عطارد بن حاجب فأمر الرسول صلعم ثابت بن قيس أن يردّ عليه ثم تكلم شاعرهم الزبرقان بن بدر فأمر الرسول صلعم حسّان بن ثابت بالردّ عليه فلما انتهى قال الأقرع بن حابس: وأبي إنّ هذا الرجل أيّ (الرسول صلعم) لمؤتى له! لخطيبه أخطب من خطيبنا ولشاعره أشعر من شاعرنا وأصواتهم أعلى من أصواتنا فلما فرغ القوم أسلموا فأجازهم الرسول صلعم وأحسن جوائزهم، وكذلك الخوالف أيضاً عن الجهاد ومنهم الجدّ بن قيس وعبد الله بن أُبيّ بن سلول وعسكره وعبد الله بن نبتل أخا بنو عمرٍ وبن عوف ورفاعه بن زيد بن التابوت أخابني قينقاع وعبد الله بن أبي أخابني عوف وكانوا من عظماء المنافقين وممن يكيدون الإسلام وأهله وقال قائل منهم لا تنفروا بالحرّ زهادة بالجهاد وشكاً بالحق وإرجافاً بالرسول فأنزل الله تعالى فيهم (وقالوا لا تنفروا في الحرّ قل نار جهنم أشدّ حرّاً لو كانوا يفقهون) إلى قوله (جزاء بما كانوا يكسبون) سورة التوبة آيات 81-82 فلم يتخذ الرسول صلعم إجراء ما ضدهم لكن القرآن بيّن سلوكهم وسوء عملهم و قعودهم مع النساء والعجائز وعدم نصرة الإسلام وسوء أعذارهم غير المقبولة مع حرصهم على الحصول على نصيب من الغنائم لقوله تعالى سيقول المخلّفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم الفتح آية 15 كما وجّه نقداً شديداً للمشككين والمزاودين بقوله تعالى : قد يعلم الله المعوِّقين منكم والقائلين لإخوانهم هلمَّ إلينا ولا يأتون البأس إلاً قليلاً. أشحةً عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حدادٍ أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيراً أحزاب آيات 18-19 كما كان هناك منآمرين على حياة الرسول صلعم وذلك في موقع العقبة وهو عائد من حجة الوداع وقد أشار إليهم القرآن بقوله تعالى: يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهمّوا بما لم ينالوا التوبة 74 وذكر في جـ3 ص 75 يوم هزم المسلمون أمام هوازن (يوم حنين ) تاريخ الطبري وقال شيبه بن عثمان بن أبي طلحة، أخو بني عبد الدار قلت: اليوم أدرك ثأري- وكان أبوه قتل يوم أُحد- اليوم أقتل محمداً قال: فأردت رسول الله لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطق ذلك وعلمت أنه مُنِعَ مني. ومع كل هذا المدّ المناوىء لم يتخذ الرسول صلعم إجراءً عقابياً واحداً بحق أحد من المسلمين، بل تعايش مع الجميع واستوعب كافّة تناقضات أهل زمانه من المسلمين وغير المسلمين من العرب إلاّ من نقض العهود وكان بالنسبة للمسلمين عدا الرسالة الأخ والقائد والمعلّم ووضع الأساس السليم للدولة والمجتمع وقبل الرأي الآخر على أوسع نطاق ولم ينقص من الحريات المتعارف عليها قبل الإسلام إلا ما كان ضاراً منها كعبادة الأوثان ووأد البنات بل العكس عزّز الصالح منها وأكّد على قيم العرب الأساسيّة وأثبتها الله في محكم تنزيله فأكد على الصدق والأمانة فقال تعالى: وجعلنا لهم لسان صدقٍ علياً مريم آية 50 ليجزي الله الصادقين بصدقهم أحزاب 24 هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم المائدة 119 إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها النساء 58 كما أكّد على الشجاعة في مواجهة العدو قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ومن يولّهم يومئذٍ دبره إلاّ متحرفاً لقتال أو متحيزاً لفئة فقد باء بغضب من الله ومثواه جهنم وبئس المصير الأنفال 15-16 وعلم الناس الإسلام فُحسُنَ إسلامهم وعلّم أصحابه الحرب فأحسنوا قيادتها وعلمهم الإحكام الشرعية فأتقنوا وضعها في مجراها إلا ما كان متعلقاً منها بالأنا ذلك المرض القبلي الفردي المعادي للتطور، كما أكّد على التعلّم والتفقّه في أمور الدنيا قال تعالى: ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلاه إسراء 7 كما أكّد على العمل في آيات كثيرة قال تعالى فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرّاً يره الزلزلة 7-8 وإن ليس للإنسان إلا ما سعى. وإنّ سعيه سوف يرى النجم 39-40 كما أكّد على النظافة الوضوء قبل الصلاة وأكّد على التعاون واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البيّنات آل عمران 103 و105 ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم أنفال 46 وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان المائدة 2 وعلّم أصحابه الدرس الكبير.
إنّ مستقبل العرب ليس في صحرائهم فحسب بل في خروجهم إلى الناس يُعلّمون ويتعلّمون ووضع بيدهم ديبلوماسيّة يخاطبون بها كل الناس وهي الإسلام وكان لشعار المساواة والملك لله سحر كبير أكثر من لفظة ديموقراطية هذه الأيام وسهّل التعايش بين العرب وغير العرب فالإسلام تلك المهمة العظيمة التي فتحت لهم الأبواب على مصاريعها وبكل الاتجاهات ونالوا ملكاً عظيماً وبتعبير من عصرنا هذا فمحمد هو رجل الحرّية الأول عند العرب وربما الوحيد حتى الآن.

حرية الرأي في العصر الراشدي:
الدور المناط قرأنياً بالصفوة من آل محمد (الولاية ):
لم يأتِ الإسلام بفريضة اختلف فيها المسلمون كالولاية ولهذا السبب ليس لي أن أسبح في ذلك البحر الخلافي الذي بدأ منذ أربعة عشر قرناً ونيّف ولا يزال مستمراً وعميقاً ومما زاد الأمر تعقيداً أن مجمل الأطراف المشار إليها بذلك الخلاف والذي بدأ منذ أواخر عهد الرسول وظهر علناً في مؤتمر السقيفة واستمرّ حتى يومنا هذا ولم ينقص من زخمه ونحن اليوم أضعف من سابقينا في إمكانية تجاوز شيء منه إلاّ إذا أرشدنا الله إلى الحق بمنّه وكرمه، وكما أشير فإنّ رؤوس الأطراف المشتركة فيه هم من مقدساتنا اليوم لأني أدان من قِبَل الجمهور إن ذكرت اسماً ولم أقل صلعم أو رضي الله عنه راع أو كرّم الله وجهه ك ا و إن الخوف يتملكني وأنا أفكر في الحديث عن ما افتتن فيه المسلمون ولكن كيف الحديث عن حرية الرأي موضوع البحث إذا تجاهلت مسألة الولاية ولذلك لا بدّ من أن أجانب الدخول في متاهات الحجج لدى الطرفين المشتركين في الجدل حول الولاية إذ هما بنظري متساويان بالقيمة العقائدية كما لا يمكن أن أتبنى وجهة نظر أحدهما في ذلك فقد رأيت أن المخرج و النبأ اليقين الصائب هو في الجهة التي أجمع عليها المسلمون قاطبة وبالتأكيد سأجد فيها ما يفيد الموقف الصحيح بعيداً عن أية حساسيّة لدى أيّ كان وتلك الجهة الفيصل هي القرآن صاحب الإجماع ولا شيء آخر.
قال تعالى: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين سورة البقرة(213) وبدأ الله يخبر نبيَّه صلعم عمن سبقه من الأنبياء تفصيلاً منذ بدء التاريخ المدوّن في منطقتنا العربية وهو عهد نوح عليه السلام لكي يكون لمواليد الزمن البعيد عن مهبط الوحي فرصة التثبت مما يذكر في القرآن الكريم بواسطة الآثار المكتشفة وبما توصل إليه العلم التجريبي في مجال الكونيات التي يتابعها علماء الفيزياء والفلك والرياضيات .. الخ ولهداية الناس فقد اختار الله الصفوه من خلقه لتلقي الوحي كما يذكر عزّ وجلّ: الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس إنّ الله سميع بصير. الحج(75) وبدأ بآدم ونوح قال تعالى: إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين. ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم. آل عمران 32-33 ووجّه إليهم الوحي لنقل الهداية إلى الناس، ومن حسن حظ المنطقة أنهم الذرية التي أتى الاختيار الإلهي للرسل منها بالأخص ذرية ابراهيم ليسهل على الناس الفهم والمتابعة حيث تتالى منها الرسل، رسول بعد رسول قال تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه. ابراهيم 4 .
وقد جاء في الذكر الحكيم عن ابراهيم: وإذا ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فأتمهنّ قال إني جاعلك للناس إماماً (فَسُعدَ بذلك ابراهيم وأراد المزيد من فضل الله) قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين البقرة 124 فأجاب الله طلب ابراهيم مشروطاً بالصفوة حصراً من الذرية وليس الظالمين حيث أشار الله أن سيكون منهم ظلاّم لقوله تعالى: ولقد أرسلنا نوحاً وابراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوّة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون الحديد 26 وعندما رزق ابراهيم بولده اسماعيل أسكنه وأمه هاجر عند البيت الحرام بتوجيه من ربه و هناك وقف ابراهيم يدعو ربه (وإذ قال ابراهيم ربّ اجعل هذا البلد آمناً وأجنبني و بنيَّ أن نعبد الأصنام). ربِّ إنهنَّ أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم (ابراهيم 35-36) وبعد أن عاد ابراهيم إلى سارة جاءته البشرى قال تعالى: ولقد جاءت رسلنا ابراهيم بالبشرى قالوا سلاماً قال سلام فما لبث إن جاء بعجل حنيذ . فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجسَ منهم خيفةً قالوا لا تخف إنّا أرسلنا إلى قوم لوط. وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب. قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إنّ هذا لشيء عجيب. قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد هود 69-73 فأبان هنا أن لفظة البيت معرّفاً دون إضافة إلى اسم آخر في القرآن معني بها بيت الله الحرام وليس بيت آخر حتى الأنبياء، ولما أمر إبراهيم بتجديد بناء البيت يساعده في ذلك ولده إسماعيل قال تعالى: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل إلى قوله ربّنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم إنك أنت العزيز الحكيم البقرة آيات 127 - 129 فلمّا إختصّ الله محمّد صلعم بالنبوة كان ذلك الإثبات الحق أنّ محمداً صلعم من ذرية ابراهيم المصطفين لجهة ولده اسماعيل و بعدها أخبر الله نبيّه محمّد صلعم عن ابراهيم وذريته قال تعالى: وتلك حجتنا أتيناها ابراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إنّ ربّك حكيم عليم. ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داؤود وسليمان وأيّوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين. وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين. واسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاً فضلنا على العالمين ومن آبائهم وذرّياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراطٍ مستقيم. ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون. أولئك الذين أتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين. أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجراً إن هو إلاّ ذكر للعالمين الأنعام آيات83-90 فأخبر الله نبيّه بأنه نفى عنهم الشرك كما نفى عنهم أن يكونوا من الظالمين أو المشركين لقوله تعالى ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون كما خاطب نبيّه إن تكفر فريش بالرسالة لقوله تعالى إن يكفر بها هؤلاء فالموكلون بها من ذرية ابراهيم المصطفين ليسوا بكافرين وأمر رسول الله صلعم بالاقتداء بالذرية المهتدية بهدى الله كما أمره أن يتبع ملّة ابراهيم قال تعالى: قل صدق الله فاتبعوا ملّة ابراهيم حنيفاً وما كان من المشركين آل عمران 95 ثمّ أوحينا أن اتبع ملّة ابراهيم حنيفاً وما كان من المشركين النحل 122 ثمّ يعيد التأكيد على أفضلية ابراهيم وذريته في سورة الأنبياء قال تعالى: وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين. إلى قوله تعالى: إنّ هذه أمتكم أمّة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون الأنبياء آيات 73 و92 فأعاد الله التأكيد أنّ الرسالة والإمامة اختصّ بها الذرية المهتدية المصطفاة التي لم تعبد الأصنام قطعاً بدءاً من ابراهيم ولم تشرك ولم تظلم ولم تكفر كما هو واضح من سياق الآيات المارّة الذكر ولما وصل سياق الذرية إلى الهواشم أمر الله نبيّه أن يصدع بما يؤمر به بدءاً من الأقربين لقوله تعالى وأنذر عشيرتك الأقربين الشعراء 21 فكان الأقربون بنو عبد المطلب وحتى نتبين أسرة الرسول من بني عبد المطلب فهو محمّد بن عبد الله فقد مات عبد الله قبل أن يولد محمّد صلعم فكفله جدّه عبد المطلب وهو صغير ثمّ مات عبد المطلب فكفله عمّه أبو طالب وهناك شبّ وترعرع حتى بلغ أشدّه فأسرة محمّد الحقيقيّة هي أسرة أبي طالب حيث عاش فيها كواحدٍ منها ثمّ كفل محمّد ابن عمّه علي وعاش علي في كنف النبي حتى بلغ أشدّه و زوّجه ابنته فاطمة وأنجبت الحَسَن والحُسين ومن ثمّ حدّد الوحي للرسول امتداد ذرية ابراهيم عبره عندما أمر الله نبيَّه بمباهلة نصارى نجران قال تعالى: فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهلّ فنجعل لعنة الله على الكاذبين أيّ اللهم إلعن الكاذب بشأن عيسى آل عمران 61 فبرز محمّد صلعم بأهله وهم علي وفاطمة والحَسَن والحُسين فهؤلاء الخمسة هم خلاصة ذرية ابراهيم المصطفين عليهم السلام في القرآن لأنّ ذرية ابراهيم المصطفاة من جهة اسحق توقفت عند عيسى عليه السلام، ثمّ كرّم الله آل محمّد بأن سلّم عليهم بقوله تعالى: سلام على آل ياسين الصافات آية 130 إل معناها الآل أو الأهل وياسين من أسماء محمّد في القرآن لقوله تعالى ياسين والقرآن الحَكيم إنّك لمن المُرسلين ياسين آية 1-2 فأيّ مديح يذكره القرآن لبني البشر فالآل هم في الصدارة من هذا المديح ثمّ طهرهم الله بقوله تعالى: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً الأحزاب 33 في سياق حديث طويل نسبياً عن نساء النبي وذلك بعد تدمير بعض الحصون المعادية وقد عاد المسلمون بغنائم كثيرة ويبدو أنّ نساء النبي كُنَّ يفترضنَ وهنَّ الأكثر وجاهة بين نساء المسلمين أن يخصهنَّ الرسول بما يميزهنّ عن غيرهن من الحلي واللباس ولكن لما تجاوز الرسول أمنية نسائه، أُصبن بالخيبة وحصل شبه عتاب بين الرسول ونسائه فجاء الوحي بالحلّ قال تعالى: يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردنَ الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكنَّ وأسرحكنَّ سراحاً جميلاً إلى قوله تعالى وقرنَ في بيوتكن ولا تبرّجن تبرّج الجاهليّة الأولى وأقمن الصلاة وأتينَ الزكاة وأطعنَ الله ورسوله إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً. واذكرن ما يُتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إنّ الله كان لطيفاً خبيراً الأحزاب آيات 28-34 إنّ البيت هنا ليس بيت النبي حيث للنبي بيوت كثيرة وهي بحاجة لأن تضاف إلى النبي لتعرف لقوله تعالى في نفس السورة آية 53 يا أيّها الّذين آمنوا لا تدخلوا بيوتَ النبي إلاّ أن يؤذَنَ لكم ... الآية أما ورود كلمة البيت معرّفة دون إض