آخر الأخبار

بين رجلين

في حضرة الموت , ربما لا يليق أن تطرح إشكاليات وقضايا للنقاش ..
ولكن حين يكون هذا الموت يحمل ويحمّل رسائل ويكون قضية , ويكون فكره..فأظن أن نفس الراحل يليق بها حينئذ وترضى بأن يكون رحيلها قد أثار أفكارا كانت تؤمن بها وتعمل لها..
قلائل هم الأشخاص الذين يثيرون بموتهم الغبار ,ويثيرون أفكارا وقضايا , وهذا ناجم عن حقيقة بسيطة وهي :أن هؤلاء لم يكونوا في حياتهم أشخاصا عاديين .
وهذا ينطبق على مستوى الثقافة والسياسة والعلم ..وحتى الحياة العادية.
وقلائل هم الأشخاص الذين يتجردون ويجرأون على التفكير بصوت عالي , غير آبهين لا بالحسابات ولا بالشعبية ولا بمن زعل وبمن رضي , همهم أن يكونوا كما هم في الحقيقة ...
وعمرو الخير كان من هؤلاء ...

لم أعرفه شخصيا , إلا من خلال متابعتي لمقالاته ,ولمشاركاته في في الشبكة,وما يلفت فيه هو أنه كان مثقفا شاملا جمع بين العلم والأدب واللغة والسياسة .
وبنفس الوقت أسفت لانجراره للمحاورات العبثية التي أخذت من وقته وأعصابه الكثير في مشاركاته الغزيرة في النقاشات , فمن المعلوم أن المنتديات هي عوالم افتراضية , يختبىء الأعضاء تحت مسميات ليتحرروا من وطأة الأسم , أما هو فحرم نفسه من هذه الميزة ..ونزل الميدان عاريا ...
وهذا أمر متوقع لمن كان باعتداده وثقته وفكره , وأظن أن ظروف الغربة والمرض كما علمت ,هي التي ساقته لهذا الطريق ,فهذه الطريقة كانت ربما نوعا من التعويض عن مجتمع حقيقي مفقود.

وأتوقع أنه استنفذ طاقته في ردود عبثية وفي معارك دونكوشيتيه ..مع أشخاص وهميين متقنعين.
لقد كان حقيقيا أكثر من اللازم في مكان ومع ناس افتراضيين.
وهذا هو الجانب الأول من مأساة عمرو ...
ربما يقع اللوم هنا على رفاقه الذين لم يعرفوا كيف يجعلون هذا العقل وهذه المقدرة تعمل في مجالها وتبدع كما كان يفعل حين يكتب المقالات بصرامة ومنطق وبنفس الوقت بأسلوب مشوق محبب .
أقول رفاقه ,لأنني أعلم أنه لا توجد مؤسسة حقيقية ترغّب عمرو وأمثاله بالعودة والمشاركة بشكل فاعل وجاد في مشروع وطني لنهضة البلد .
أما الجانب الآخر الذي يطرحه رحيله :
كم من موهبة وفكر وعلم عمرو الخير يعيش حاليا في الغربة بانتظار شيء ما (قد يكون الموت) ...وكم عقلا وموهبة وعالما وفنانا ...ينزف هذا الوطن ...
أليس من الأجدى أن يكون الوطن هو الذي ينتظر أولاده هؤلاء , ألم يحن الوقت لكي يصبح لهؤلاء وطنا حقيقيا لا وطنا يقهرهم ويهجرهم (طوعا أم قسرا) لأنهم لم يقدروا على مواجهة واقع ليس لهم فيه مكان ولا يشبه لا أحلامهم ولا طموحاتهم ولا علمهم...

أما الرجل الآخر :

فلنقرأ الخبر الثاني :
إلقاء الحجز (الخبر ورد في صحيفة تشرين) على أملاك وأموال من كانت له اليد الطولى بشؤون الجمارك أي : حسن مخلوف (وهو موقوف حاليا) وسرت شائعات بأن ما وصل ليده يقدر بالمليارات.

كم من فرق بين الخبرين , على الرغم من أنهمامرتبطان سببيا ...فالذي هجر عمرو وجعله يموت غريبا في أرض غريبة ..هو هذا وأمثاله .

لم يعد هناك مجال من خيار ...
فإما وطنا يعيد أولاده المشردين الذين رحلوا بعدما عجزوا عن الوقوف في وجه آلة ضخمة تنخر في كل ما هو حقيقي وتميته وهو على قيد الحياة , ويحاسب من فسد واساء ونهب وظلم ...وإما لا يكون .