آخر الأخبار

النظــرات

قرأت في كتاب "النظرات " للمنفلوطي مقطوعة أدبية( ) ، يواسي فيها المنفلوطي تلميذاً أصابه الصمم وهو في السابعة عشرة من عمره . في هذه النظرة يعبر الأديب اللغوي عن إحساسه نحوه ، وعن إحساس التلميذ لعالمه الجديد من حوله ، وقد ذهب سمعه . تعال معي بداية أيها القارئ الكريم ، لنقرأ بتمعن جزءاً من هذا الرثاء :
(لقد انقطع عنك بفقد سمعك أيها البائس المسكين كل ما كان بينك وبين الناس جميعاً من سبب وصلة ، فأصبحت وأنت في دار الأنس والاجتماع وبين ضوضاء الحياة وضجيجها ، كأنك تعيش من وحشتك وكآبتك في مدينة متحجرة من مدن التاريخ القديم لا تأنس فيها بأحد ولا يأنس بك فيها أحد ، ولا ترى بين يديك إلا نصباً ماثلة وتماثيل جامدة :
تحسـب العين أنهم جِدُّ أحياءِ
لهم بينهـم إشـارة خـرس

لا يرفّه عن نفسك في ساعة من ساعات ضيقك وضجرك نغمة غناء ، ولا رنةُ حداء ، ولا خرير نهر ، ولا تغريد طير ، ولا حفيف شجر ، ولا زفيف ريح ، ولا ثُغاء شاة ، ولا نعيق ضفدع ، ولا صرير جندب ، سواء لديك ليلك ونهارك ، وصبحك ومساؤك ، ويقظتك ومنامك ، فإن فررت من وحشتك هذه إلى مجتمع من مجتمعات العامة فجلست إلى الناس ساعة تتفرج فيها مما بك لا تسمع شيئاً مما يقولون ولا يعنيهم أن يسمعوا شيئاً مما تقول ) .
بعدما قرأت هذا الوصف ، الذي حاول كاتبه ، أن يدخل إلى سريرة من أصابه داء الصمم ، فعبر عن هذه الأسارير أروع تعبير ، قلت في نفسي :
أين المنفلوطي من أحوال عالمنا ، وما جرى ، ويجري لنا وبنا هذه الأيام ؟ على سبيل المثال من حالة "وضّاح" العربي الأصل ، المقيم في المغترب ، الذي تعرفت عليه قبل زهاء عامين ، وهو طريح السرير ، في دار للعناية بالمرضى الذين لا يرجى شفاؤهم ، بعد أن أصابته أزمة دماغية ، أعطبت أجزاء كبيرة من دماغه ، فشلّت يده اليمنى ، فأصبحت مقبوضة إلى عنقه ، وأخلّت في وظائف أطرافه ، فلا يستطيع ، أن يقف على قدميه ، أو أن يمشي بواسطتهما ، ولا يستطيع أن يستخدم يده اليسرى لقضاء أي من احتياجاته ، وأصابت وظيفة الفم والبلعوم بأذى كبير، فذهبت بقدرته على النطق والمضغ والبلع والتنفس الطبيعي ، فأصبح يغذى بالسوائل المغذية ، التي تضخ عن طريق قثطرة ، تمر عبر جدار البطن ، لتنتهي الى المعدة ، ويتنفس بواسطة فتحة إضافية ، أنشئت له في القصبة الهوائية تحت الحنجرة .
وضّاح طريح السرير ، بجسده ، وما تَبَقّى له من حواسه .. وما أقلها . فهو يستطيع ، إذا كنت في مرمى نظره ، أن يتابعك بعينيه بقدر محدود ، وهو يبتسم لك ، عندما تصل لزيارته . إذا تحدثت إليه بأخبار ، يمكنك أن تستشعر شيئاً من تأثره ولكن ليس بالشكل الواضح . سألت الطبيب : عما تبقى من حواسّه وقدراته ؟ فقال: إنه يُقَدِّر بأنه يرانا ، ويسمعنا ، ولو بشكل منقوص ، وأن حيِّزاً من ذاكرته ما زال فاعلاً ، وأن انفعالاته نحو محيطه أصبحت محدودة جداً ، فهي ما نلاحظه عليه من انفراج سريرته بالابتسامة ، ومن انقباض واحمرار وجهه عند الحزن ..
هنا أتوقف وأقول : أين المنفلوطي وأمثاله، ليروا ما وصل إليه العلم والتكنولوجيا ، وأصبحت عليه أحوال الإنسان في عالمه المتطور ؟! .. صحيح أن الإنسان أصبح يستطيع خلال بضع ساعات من الزمن ، أن ينتقل من الشرق الأوسط إلى أوروبا ، أو إلى أمريكا ، أو إلى أواسط آسيا . وصحيح أن الإنسان أصبح يستطيع ، أن يتابع ، ويرى عبر الشاشة المرئية ، ما يجري ، وما يحدث في العديد من بقاع الأرض في آن واحد . وصحيح أن الإنسان أصبح يستطيع ، أن يكون بواسطة الشبكة العنكبوتية قارئاً ومقروءاً ، وسامعاً ومسموعاً ، وشاهداً ومشاهداً في جميع أصقاع الأرض الموصولة بهذه الشبكة ، وصحيح ، وصحيح .. الطب الحديث أصبح بمقدوره ، أن يبدل كلية بكلية ، وكبداً بكبد ، وقلباً بقلب ، وأن ينقذ أحياناً حياة الإنسان -بإذن الله- بعد أزمة صحية ، فيستبقيه على قيد الحياة ، ما شاء الله له أن يبقى ، ويستنقذ له ، ما يستطيع أن ينقذ من وظائف جسمه وحواسّه -بمشيئة الله وبما توصل الإنسان إليه من العلم ومن الوسائل والتقنيات الحديثة- طالما أن قلبه ينبض ، وتنفسه ولو بشكل منقوص يجري . في كثير من الأحوال ، يُستبقى المريض على الحياة ، دون أن يكون له إرادة على قبول أو رفض دواء أو علاج . كل ما هنالك يقوم الأطباء ، بما توصلوا إليه من علم ، وما يستخدمونه من وسائل وتقنيات حديثة ، بالتعامل مع المريض في كثير من الأحيان كجسد فقط .
حال وضّاح ، كحال إنسان ، ما إن سقط في بئر ، واستقر به ، حتى وقع لوح فوق فُوَهة البئر ، وأَحكم إغلاقها .. اللوح من ناحية ثقيل جداً ، يصعب أو يستحيل إزالته، سوى أنه أمكن مدُّ خرطوم ، ليصل إلى معدة وضّاح ليغذيها ، ويتابع وضّاح حياته ، ومن ناحية أخرى شفاف ضئيل الشفافية ، فلا ينفذ عَبْره إلا القليل ، فيفصل وضّاح عن عالمه المعتاد فصلاً شبه كامل ، فلا يستطيع أن يسمع ويرى ويتابع ما يدور حوله إلا بشكل جزئي . إنّ ما بقي له من ذاكرته ، يُحَرّض سريرته على الفرح والحزن .
في بئره لا يستطيع وضّاح ، أن يأكل إذا جاع ، أو يشرب إذا عطش ، أو أن يعرب عن أي رغبة ، أو طلب ، أو استنجاد إذا ألم به وجع ، أو برد ، أو حر ، أو خوف ، أو ملل ، أو ضجر ، أو شوق ، أو شهوة .
وضّاح في بئره ، كأنه خرج في معظمه من الحياة الدنيا . فهو يتدلى بمعظمه أكثر إلى القبر ، منه إلى الحياة العادية . وقد يراوح على هذه الحال الشهر تلو الشهر ، والسنة تلو السنة .
في البئر حَيّزُ حركة وضّاح ضيق جداً ، ولا ندري عما نشاهده عليه من حركات إرادية كانت أم غير إرادية . إذا عادت ذاكرته به إلى طعام أو شراب ، فلا سبيل لأن يعبّر عن ذلك من خلال هذا اللوح الذي يفصله عن عالمه القديم ، فهو لا يرى سوى أناس يرتدون -في غالب الأحيان- اللباس الأبيض ، ينشطون حوله ذهاباً وإياباً ، في أوقات متقاربة أو متباعدة ، لا يستطيع أن يبادرهم بتحية أو شتيمة معبراً عن رضى أو غضب . أحياناً يلمح وضّاح زوجته وأبناءه ، وقد يسمع بعض ما يوجهون إليه من تحية ونداء ودعاء بالشفاء ، وأنهم بخير ومشتاقون لعودته إليهم ، وأن إخوانه وأخواته وأقاربه في الشرق يهدونه السلام ، ويتمنون له الشفاء العاجل . في هذه المواقف لا ترى على وجه وضّاح ، سوى ابتسامة أحياناً ، أو اضطراباً ، أو احمراراً للوجه ، أو حركات يجريها بيده ورأسه على غير هدى ، أحياناً أخرى .
مُحدّث وضّاح لا يدري ، ما يجدر به الحديث معه ، أو ما لا يجدر ، ما يمكن أن يسره ، أو ما يمكن أن يغضبه ، وسرعان ما يملّ محدّث وضّاح الحديث إليه . في الأغلب يختصر معجم الكلام على :
- كيف حالك
- الله يعافيك
- وإن شاء الله بخير .
في هذه العزلة كيف يشعر وضّاح مع ما بقي لديه من أحاسيس ومشاعر بالزمن ؟
كيف يقضي ساعات اليوم وأيام الأسبوع وأسابيع الشهر وشهور السنة والسنة تلو السنة ؟
هل يميّز بين الليل والنهار ، وبين الشتاء والصيف ؟
وضّاح باقٍ على قيد الحياة بإذن الله ، ثم بعناية ما توصل إليه العلم ، وبفعل ما يُستخدم من وسائل وتقنيات حديثة ، وهو لا يستطيع ، أن يبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه ، ولا أن يأكل مما تُنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ، ولا أن يمشي في مناكبها ، ولا أن يجهر بالقول .