كنت أعرف الشيخ يوسف القرضاوي منذ مدة طويلة على أنه شخصية معتدلة بين علماء أهل السنة, طالعت بعض كتبه العلمية ولاحظت بعض لقاءاته الصحفية, خاصة برنامجه الخاص على قناة الجزيرة (الشريعة والحياة), فكنت أراه عالماً متفتحاً خلافاً لأشباه العلماء الوهابيين، سائراً نحو التقريب بين المذاهب الإسلامية... ولكن أسفاً.. ما كان متوقعاً لمتخرج من جامعة الأزهر الشريف أن يسلك طريق متخرجي جامعة آل سعود, بل كان المتوقع أن يسير على ما سار عليه العالم المصلح شيخ الأزهر محمود شلتوت وأن يجري الحق على لسانه، أو على الأقل أن يسير على ما سار عليه المفتي الأعظم في مصر الشيخ علي جمعة الذي أعلن بكل صراحة وشجاعة في قوله: (( إنه علينا الاعتراف بما تحرزه هذه الطائفة من تقدم يُمَكننا من التعاون معها في الوقت الحالي..لا حرج من التعبد على مذاهبها, فلا فرق بين سني وشيعي.. ان الشيعة بطبيعتها طائفة متطورة, وهم يُسلمون بذلك, باعتبارهم الواقع جزءا لا يتجزأ من فقههم .. وأكد أنه يجوز التعبد بالمذاهب الشيعية ولا حرج, وقد أفتى بهذا شيخ الأزهر الراحل محمود شلتوت, فالأمة الإسلامية جسد واحد لا فرق فيه بين سني وشيعي, طالما أن الجميع يصلي صلاة واحدة ويتجه لقبلة واحدة", واضاف "انهم كانوا دائما جزءا لا يتجزأ من الأمة الإسلامية)) .
ولكن للأسف فإن القرضاوي قد ضيع الطريق، ولا علم لنا بالسبب، فهل ذلك لكبر سنه؟ أم لمشاكله العائلية؟ أو تشيع ابنه؟ أو العوامل السلفية والوهابية المؤججة لنار الفتنة؟, هذه مسائل قابلة للنقاش والدراسة.
قال القرضاوي لـ"العربية.نت" اليوم الأربعاء 11-3-2009 أثناء مشاركته في مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية الذي ناقش مجموعة من القضايا الفقهية: (( أن إيران ماضية في غزوها المذهبي للدول السنية. وقال: إنه يؤيد إيران كدولة مسلمة إذا تعرضت لأي هجوم بسبب برنامجها النووي، لكنه يرفض بشدة نشرها لمذهبها الشيعي في البلاد الإسلامية السنية. وأضاف بكلمات قاطعة "لا نقبل أن تقوم إيران بنشر التشيع في بلادنا، ولا نقبل أن تغزونا في عقر دارنا، فنحن مؤمنون بأننا كأهل سنة على حق، ولا نريد أن يحولنا الايرانيون إلى شيعة!)).
وهذه ردود سريعة سجلناها على مواقفه الأخيرة:
أولاً: إن الشيعة على مر الزمن كانوا على دوام المخالفة للحكام الجائرين والظالمين في مختلف الأحوال, ولكن مع ذلك احتفظوا بمذهبهم ومكانتهم الأصيلة وموقعهم الرفيع بوجود عشرات الآلاف من الفقهاء والمتكلمين والمفسرين والفلاسفة والعلماء في أمور مختلفة، وظهور شخصيات بارزة في المجال الاجتماعي والسياسي والثقافي, فلو تمكن مذهب من المذاهب أن يستقطب ذوي الفكر والعقل فلماذا يؤدي ذلك إلى ردَّة فعل غير مناسبة؟! فلو افترضنا أن أحد المذاهب الأربعة (كالشافعية مثلاً) تمكنت من استقطاب عدداً أكثر من الموالين, فما هو ضرر ذلك على سائر المذاهب الأخرى ما دام الكل في حدود الإسلام والمسلمين؟ لهذا نحن اليوم نجد أن المسيحية على رغم التضاد والمخالفة مع اليهود قاموا بالمصالحة معهم, فلماذا نحن المسلمين لم نتصالح؟ ولماذا لم نعترف بالمذاهب الموجودة في الساحة؟ ولماذا لم نعط حق الخيار للمسلمين باختيار مذهبهم؟ فهل أصبح إتباع منهج عترة الرسول (ص) الذين هم وصيته وعدل القرآن -كما هو مفاد حديث الثقلين الصحيح المتواتر- جريمة وخطيئة؟ فما المانع في ذلك الذي جعلكم تخرجون عن طوركم، وتلجؤون إلى الحدة في الكلام.
ثانياً: نحن في وضع لو يطير غراب في الهواء لقيل هذا فعل إيراني, إن انتشار الشيعة في العالم يرجع إلى عوامل عديدة وأهمها ما يرجع إلى روح المذهب وقدرته على دخول القلب, وابتعاده عن مظاهر البدع، و ابتنائه على أسس عقلية متينة، لا ريب أن الثورة الإسلامية في إيران قد فتح آفاقاً جديدة للاطلاع على الفكر الشيعي وخاصة من زاوية السياسة والحكومة, ولكن في واقعها فإن الثورة الإسلامية في إيران استمدت قدرتها من المذهب الشيعي, وليست هي التي أعطت القدرة للمذهب بل أخذت واستلهمت منه, فحب الشعب الإيراني المسلم لأهل البيت(ع) وحضورهم المليوني في أيام تاسوعاء وعاشوراء وأربعين الإمام الحسين(ع) في عام1979م, ودور المرجعية الدينية، والعلاقة القوية والمستمرة المتبادلة بين العلماء والناس, والقيادة الصلبة والحكيمة للإمام الخميني(قده) الذي رآه الناس صادقاً في كلامه فاتخذوه مرجعاً لتقليدهم قائداً لمسيرتهم, هذه وعوامل أخرى أدّتْ إلى حضور الناس ومشاركتهم في إسقاط النظام الملكي في إيران, ومع ذلك فإن الثورة في إيران نشأت بعنوان ثورة إسلامية شاملة، وإن كان التشيع هو نفس الإسلام الأصيل النابع من الرسول و العترة (ع), ومن المعلوم أنّ انتشار التشيع لا يرتبط بدولة إيران, إذ التشيع لم يوجد بوجود الثورة الإسلامية في إيران بل هو موجود قبلها في كثير من البلدان. وبالعكس تجدون الشمولية في تعاطي الثورة، فإن إيران باهتمامها بالمقاومة الإسلامية في لبنان تهتم أيضاً بالمقاومة الإسلامية في غزة وفلسطين بشكل عام، مع العلم بعدم كونها مقاومة شيعية.
إن الحقيقة تكمن في أمر آخر وهو أن المشكلة الأساسية بين العالم وإيران هي اتخاذ ايران الموقف المشرف في قضية فلسطين، وتحملها على مدى أكثر من ثلاثين سنة صعوبات الحصار المفروض عليها، وعدم تنازلها قيد أنملة عن مواقفها, فهل كان الفلسطينيون شيعة لتهتم إيران بهم لهذه الدرجة؟! إن قضية فلسطين أصبحت اختباراً حقيقياً لمن يدعي الولاء لها حقيقة في قلب عالمنا الإسلامي, فتبين من خلاله الذي يقول فقط والذي يقول ويفعل إيماناً بقضيته.
إن إيران ترى في مسألة فلسطين أنها مسألة إسلامية مرتبطة بجميع الأمة الإسلامية،ومن هنا اتخذت مواقفها ، ولا تتجه إلى المذهب... فأين إنصافكم؟!
ثالثاً: أما ادعاؤكم بحقانیت~م فهذا لا يخصنا, المهم أن تأتوا بالدليل، ومكانه في المحافل العلمية، وهذا لا يحتاج إلى غوغاء إعلامية, أما هذا الكلام بأن السنة لا يحبون بسط مذهبهم بين الشيعة فهو غير صحيح، فقد نرى كل عام أن السعودية توزع الملايين من الكتب و الكراسات و أقراص السيديات بين مئات آلاف الحجاج والمعتمرين الشيعة في مكة والمدينة وغيرهما من الأماكن، مع أن الكتب الشيعية تصادر من لحظة وصول الشيعة إلى المملكة السعودية في المطارات والنقاط الحدودية, فما هو الداعي لذلك؟ أليس ذلك للدعوة إلى مذهبهم في أوساط الشيعة؟ وأيضاً يقومون بتأليف الكتب والكراسات الكثيرة بأسماء مؤلفين لا وجود لهم أساسا، مع ارتكابهم الخيانة العلمية في نقل النصوص عن المصادر، وينسبون الأكاذيب والتهم إلى الشيعة، فما هو الداعي لكل ذلك؟! أما أنكم لا تحبون أن تصبحوا من الشيعة فهو أمر متعلق بكم، فكل فرد يعرف وظيفته ومصلحته، ولكن المهم إتباع الحجة, كل فرد يجب أن يعتقد بمذهبه على أساس المنطق و إقامة الحجج والبراهين، وليس على أساس التعصب الأعمى. وأما الإقبال القوي نحو تقبل الفكر الشيعي فيحتم عليكم أن تقوموا بدراسته ومعرفة أسبابه, أليس من الاحتمالات أن إخفائكم الحقائق التاريخية في هذه السنين الطويلة عن الناس من أهم الأسباب؟ أليس من الاحتمالات أن بعض ما تنسبونه إلى الشريعة لا يطابق موازين العقل, أليس من الاحتمالات أن مقابلة الشيعة بالعنف وصب الأذى والسجن والنفي والاضطهاد والحرمان عليهم عبر السنين قد يزرع سؤالاً في أذهان الناس عن سبب هذه القسوة في التعامل معهم؟! أليست قوة معتقدات الشيعة وتمسكهم الشديد بالقرآن والعترة الهادية وابتعادهم عن الخرافات والموهنات من الأسباب الداعية إلى هذا المذهب؟ نترك هذا ونسألكم تجاه المسلمين المظلومين سنة وشيعة في العالم، فماذا فعلتم أنتم في حرب تموز وفي غزو المتوحشين الصهاينة على لبنان وهجمتهم الشرسة على حزب الله؟, ألم يفت بعض علمائكم (وهو ابن جبرين) بعدم نصرة المقاومة الإسلامية وحتى عدم الدعاء لنصرتهم؟ ألم يقل النبي(ص): (من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم)؟! فمفاده وجوب إغاثة ونصرة كل إنسان يستغيث بالمسلمين, فكيف إذا كان منهم, وفي حرب 22 يوماً على غزة ماذا فعلتم؟ ولا يخفى على الناس قيامكم بحملة إعلامية نصرة لغزة ما قبل رئيسكم في مصر بشيء منها, حتى مجرد اللقاء بكم!, فهل جرم إيران كان في الوقوف إلى جانب المقاومة والشعب في غزة على عكس حكامكم المتخاذلين؟ فلو خالف الاستكبار العالمي وعلى رأسها أمريكا وإسرائيل إيرانَ فلا عجب، ولكن العجب من أمثالكم الذين تقلدونهم في الكلام والاتجاه ضد إيران! و مع ذلك فهل التشيع خاص ومحصور بحدود إيران؟ وهل يمكن النكران بثلث المسلمين الذين هم من الشيعة؟ أنتم تعلمون أن الشيعة هي أقدم المذاهب الإسلامية ولها جذور عربية نابعة من قلب المدينة المنورة، وفي زمن النبي (ص) كان بعض الصحابة يطلق عليهم عنوان الشيعة مثل: سلمان وأبي ذر والمقداد وعمار رضوان الله عليهم، فلماذا تحصرون الشيعة بإيران؟ إذا يكون الكلام في دور الإيرانيين والفرس في المذاهب الإسلامية فإن كبار علماء أهل السنة منهم، مثل البخاري والترمذي ومسلم النيسابوري وابن ماجة القزويني والحاكم النيسابوري وأبو حنيفة الكابلي وابن جرير الطبري والسرخسي وأبو نعيم الأصفهاني والآلاف من المحدثين والفقهاء تجدونهم في ترسيخ المذاهب الفقهية والكلامية عند السنة، وفي المقابل تجدون دور الشيعة العرب مثل أشعريي اليمن في بسط المذهب الشيعي في إيران, فإذا تكلمنا في الجذور العربية والعجمية للمذهبين فالنتيجة عكس ما أردتم, ولكن نحن لا نرى المسألة من منطلق قومي، و إنما المهم هو قوة البرهان وصلابة المنطق.
رابعاً: يا ليته لم يدخل نفسه في المجال الدبلوماسي وكان اتخذ موضعاً إرشادياً من موقعه كعالم ديني, ولكن إذا كان يريد أن يدخل في المجال السياسي لكان المتوقع منه أن ينصح دولتي مصر والأردن -لأجل ارتكاب اسرائيل أفظع الجرائم ضد الشعب الفلسطيني المقاوم في غزة، حيث قتلت أكثر من 1300 منهم وأكثر من نصف هذا العدد كان من النساء والأطفال-,بأن على الأقل تسحب سفاراتها من إسرائيل, وقد وصلت درجة تخاذلهم إلى أنهم لم يقوموا حتى بطرد السفير الإسرائيلي واتخاذ الموقف الحازم كما فعلت فنزويلا.