داء لاعبي كرة القدم قد يكون مدار بحث وتفكير فلسفيين. وثمة ست حوادث كروية ذائعة الصيت في أوساط هواة كرة القدم وغيرهم، يتناولها كتابي «في مديح المآثر السيئة». والنماذج هذه موضوعها حركة أو سكنة ارتكبها لاعب معروف، وما كان ينبغي له أن يرتكبها. وتقوم صلة بين الحوادث هذه وبين الفكر اليوناني وفلسفة سارتر وسبينوزا وأخلاق كانط. وقد تحصى في النماذج هذه نطحة زين الدين زيدان، ويد مارادونا، ويد تييري هنري، وركلة ايريك، وتهليل بلاتيني على رغم وفاة 39 شخصاً في ملعب هايزل.
فنطحة رأس زيدان ليست حركة غير متعمدة أفلتت من صاحبها في لحظة غضب، بل هي بادرة مجنونة أداها صاحبها ببراعة مهندس لامع. وذلك أن زيدان لم يوجه النطحة الى رأس ماتيرازي، بل الى قلبه، بؤرة الشجاعة والغضب. وهي ضربة من الرأس الذي تعتمل فيه حسابات باردة وعقلانية الى الصدر العامر بالرغبات المتنازعة والمشبوبة.
ومارادونا لم يتستر على غشه ولمسه الكرة بيده. ولكنه جمع يده الى يد الخالق أو البارئ، على زعمه، فسدد هدفاً آخر رائعاً و «كاملاً» وخارقاً من غير غش سبق هدفه المغشوش. فكأن مارادونا افتدى هدفه الإنساني الفائق الانسانية بهدف «ماورائي»، أو كأنه اختبر سلطة الارادة وحققها، وعزم على أن يمنح نفسه «معجزة» صغيرة أو كرامة.
ويد تييري هنري، بعد 24 عاماً على يد مارادونا، تبين من سابقتها. فمارادونا احتفى بغشه، وأقر به، بينما تواطأ تييري هنري مع الواقعة التلقائية والمؤاتية، ولم يقر بغش لم ينتبه إليه أحد لحظتذاك.
ويعيد عمل هنري إلى الاذهان سؤال جيجيس في أحد حوارات أفلاطون. فجيجيس هذا وقع على خاتم إخفاء، مثل «طاقية الإخفاء». وهو يسأل: «من يَلزم الاستقامة إذاً أمِن الناس ألاّ يراهم أحد؟».
وعدسات الكاميرا تلاحق اللاعبين، وتُسجل حركاتهم وسكناتهم. فيضطر اللاعبون الى الإقرار بأخطائهم وهفواتهم. ولكن ماذا يبقى من اللعب، والحال هذه، إذا علم لاعب كرة القدم أن الأنظار والعدسات تحصي عليه أنفاسه، وتحجز بينه وبين ارتكاب تجاوز بعد اليوم؟
ويليق ركل كانتونا مشجعاً شتمه، ببروس لي. والركلة هي في مثابة درس في الاخلاق. وكأن كانتونا ديوجينوس الملاعب. فينقض مثل كلب حانق على أبله اعترض طريقه. وشوماخر وجه ضربة عنيفة الى باتيستون، في 1982، وبدا كأنه وضيع حاذق أو بارع، على ما يقال لص حاذق. وضاعة شوماخر لا تمت بصلة الى ما فعله بلاتيني يوم لم يخف فرحه في الملعب، على رغم موت عدد من الاشخاص. فاللعب يصدق فيه قول باسكال: «لا نسعى وراء المحادثة واللهو إلا لأننا عاجزون عن أن نقبع في أنفسنا». وكرة القدم، اذا نزلت موضعاً في القلب، انتشلت جمهورها من الحياة والموت.
* استاذ فلسفة، «لوموند» الفرنسية، 9/6/2010،