*عصام شرتح
قصيدة ( دواة السنونو) أنموذجاً
لاشكَّ في أنَّ القصيدة المقطعيَّة من أكثر القصائد الحداثية صعوبة في التحليل والتأويل والاكتشاف؛ نظراً إلى تعدُّد رؤاها؛ وتفرُّع مداليلها، وغناها بالمثيرات الأسلوبيَّة؛ والمؤولات النصّيّة المفتوحة؛ ولا عجب في ذلك “
فالقصيدة المقطعية “تتصدر قائمة الشعر العربيّ الحديث؛ فهي تُجَسِّدُ نظاماً جماليًّا يَصْنَعُهُ الشاعر بعد مكابدة تجربة وجدانيَّة طويلة. ولذلك، فإنَّها تمتازُ بتنوعها، وشمولها، وإحاطتها بالفكرة الشعريَّة من جوانبها كافة؛ وبالإضافة إلى ذلك فإنَّ طبيعة تشكيل القصيدة المقطعيَّة تمنح القارئ فرصة التوقف المتكرِّر بعد انتهاء كل مقطع؛ لاسترداد الأنفاس أولاً؛ وانكشاف الخيط الواصل بين التوقيعة؛ وما يسبقها ويليها من توقيعات”( ).
والَّلافت أنَّ جوزف حرب يشعرن القصائد المقطعيَّة؛ من دون تحديد المقطع بعنوان جزئي؛ أو توقيعة مستقلة بحدّ ذاتها؛ بل يُرَقِّم المقاطع الشعريَّة ترقيماً متتابعاً؛ لتبدو حرَّة منطلقة في إيحائها من دون أن يقيِّدها عنوان، أو يحدِّد رؤيتها دالٌّ محدَّد؛ إذْ إنَّ كل مقطع يطرح رؤية؛ ويقدِّم صورة، أو لمحة شاعريَّة شفيفة، تؤكِّد حداثة رؤيته، وعمقها في تبني المواقف، والتعبير عن الرؤى؛ “ولما كان الشعر ركيزته الأساسيَّة شكله الفني – على حد تعبير الدكتور رجاء عيد- والذي يتكوَّن من نسيج لغويّ وإيقاعي يتناغم تركيبه مع مفرداته من خلال التناسق الموسيقي المنبث في إطاره النغمي ككل، بل وحتى في المفردات نفسها؛ فإنَّ هذه الظواهر الإيقاعيَّة تكون واحدة من مهام المحلّل الجماليّ من خلال التحليل الصوتي؛ وذلك بمتابعة النسق التوزيعي المنتشر على سطح النصّ في وحدات صوتيَّة معينة؛ وأثر ذلك التوزيع في منح القصيدة بعض الزخم لبنية القصيدة”( ).
ونلاحظ – في قصائد جوزف حرب المقطعيَّة- حركة تكاملية، وانسجاماً فنيًّا بين المقاطع، رغم انفراد كل مقطع برؤيته، ومغزاه الفني؛ وهذا يعني أنَّ ثمَّة ائتلافاً على المستوى الدلالي في قصائده المقطعيَّة؛ لتستحوذ على عالمه الشعريّ برؤى تفاعليَّة متآلفة؛ ترصد تأملاته المفتوحة؛ وتبين درجة شاعريَّة الرؤية لديه؛ إذْ إنَّ القصيدة تشكل توحداً عضويًّا على مستوى مقاطعها؛ لتبدو في حراك دلالي، وانفتاح مدلولي؛ وتُعَدُّ قصيدة (دواة السنونو) ملحمة شعريَّة تأمليَّة؛ تحاول ارتياد عالم الدهشة والسحر التشكيلي في تنسيق المقطع، وقفله بقفلة شعريَّة مرهفة، تبين حجم إبداع الشاعر، وحسِّه الجماليّ المرهف؛ في التقاط الفكرة، والتعبير عنها؛ مما يجعل متلقيه يشعر بالانجذاب للنصّ؛ رغم تعدد مقاطعه الذي يصل إلى خمسين مقطعاً في بعض الأحيان؛ وهذا ليس بغريب على شاعر يملك المهارة الّلغويّة والنفس الشاعري العميق، في خلق الرؤية التكامليَّة؛ للتعبير عن الموضوع المطروح؛ بمتعة جماليَّة تستولي على القارئ ؛ وتهيمن هذه المتعة على النسق التشكيلي للنصّ؛ كما لو أنَّ النصّ حياكة فنيّة متلاحمة؛ تطرح رؤى وجوديَّة جماليَّة في كل مقطع من مقاطعها؛ لخلق شكل من التوافق الفني في إنتاج نصّ شعري متميِّز؛ يرقى سُلَّم الشعريَّة بمهارة واقتدار؛ وتُعَدُّ هذه القصيدة الموقعة بعنوان [دَواة السنونو] شاعريَّة في توجهها الفني، وطرحها لموضوع الغزل، والترسيم الجسدي، والتصوير الحّسّي الغريزي للمرأة من جهة؛ وللإحساس بروحانيَّة الجسد ونحته نحتاً جماليًّا معتمداً أسلوب الصورة اللمحة، أو الصورة المُرَسَّمة مشهديًّا؛ بإيقاع بصريّ حسيّ مدرك شعوريًّا؛ وانفتاحاً نصّيًّا مكثفاً دلاليًّا؛ كما في قوله:
1
“طَعْمُ التبغِ من أفخاذِ النساءْ،
طيبُ النبيذْ من أقدامِهِنّْ
2
جَسَدِي قيثارةٌ.
نَهْدَايَ فِيْهَا، فَمِي، خَصْرِي، وما تحتَ صحنِ الصبحِ في بطني، وإطراقةُ العينِ إذا ما شهوتي رنَّتْ بها، أوتارْ.
فاعْزِفْ أيُّها الأعمى على القيثارْ، تستيقظُ الشهوةُ بي مِثْلَمَا إنْ لانَتِ الريِحُ، وطافَ الموجُ في قمصانِهِ، تستيقظُ الأسفارْ في البَحَّارْ”( ).
هنا؛ يتبدَّى الجمال التشكيلي في شعرنة الجسد؛ فالشاعر يحاول أن يرسم حركة نفسية مونولوجية تعكس إحساساً عميقاً بالمداعبة التشكيليَّة بين قوله [طعم التبغِ= طيبُ النبيذ] و[أفخاذْ النساءْ/ وأقدامهن]؛ وهذه الحركة تمثّلت في المقطع الأول؛ لإثارة إيقاع الدهشة، والمداعبة التشكيليَّة المثيرة دلاليًّا وشعوريًّا؛ وهذا الرسم الإيحائي الفكاهي حينًّا؛ والتكثيفي الرومانسي الشاعري حيناً آخر يؤكِّد تنامي شعوره المرهف، وحسه الشعريّ، إزاء إثارة الحركة الجدليَّة في المركبات الإضافية، أمَّا المقطع الثاني؛ فجاء كاشفاً أكثر عن الامتداد التشكيلي الترسيمي لحيِّز الجسد الأنثوي، بصور انبلاجية تعتمد الترسيم التشبيهي البليغ؛ باعتماد أسلوب الصورة ذات المنحى الإخباري [مبتدأ= خبر]، كما في قوله: [جَسَدِي قيثارةٌ./ نَهْدَايَ فِيْهَا، فَمِي، خَصْرِي، وما تحتَ صحنِ الصبحِ في بطني، وإطراقةُ العينِ إذا ما شهوتي رنَّتْ بها، أوتارْ]، ثم يتابع الحركة النسقية، بإيقاع ترسيمي جمالي؛ معتمداً أسلوب الشرط الذي يقوم بدور الموجِّه الدلاليّ، أو الرابط الفني الذي يكشف تماسك الرؤى، ولملمة أشلائها؛ وهنا، تبدو الصور ملتئمة فنيًّا؛ متفاعلة في ترسيم الجسد الأنثوي، ونحته بأسلوب جماليّ؛ معبِّرٍ عن نسج فني، وقدرة إبداعية فائقة على إنهاء القفلة المقطعيَّة بأسلوب فني؛ يخلق شكلاً من التوافق بين فاتحة الاستهلال، وفاصلة الختام من جهة، ويخلق حالة من التماسك الرؤيوي في ترسيم المشهد الغزلي الملتئم لحركة الصورة وتتابعها النسقي من جهة ثانية، كما في قوله: “تستيقظُ الشهوةُ بي مِثْلَمَا إنْ لانَتِ الريِحُ، وطافَ الموجُ في قمصانِهِ، تستيقظُ الأسفارْ في البَحَّارْ”، إنَّ هذا النسق الشرطي الذي يعتمد إيقاع الأنسنة يُسهمُ في تحفيز الرؤية، واستقطابها للمتلقي، لتخلق – لديه- الشعور بالمتعة الجماليَّة التي تخلقها حركة الأنساق الّلغويّة بالتئامها، وتفاعلها النسقي ضمن حيِّز الصور الاستعاريّة المبلورة للمشهد الغزلي؛ الذي يحاكي لغة الجسد، أو إيقاع شعرنة الجسد. ولعلَّ هذا النحت الجماليّ للجسد الأنثوي قد عبَّر عنه في المقطع الثالث، إذْ يقول:
“يا أيُّهَا النَّحاتْ، لا تُعْطِ الحجارةَ استيقاظَةَ الوُجُوهْ؛
أَعْطِ الوُجُوهْ، نومَ الحجارَهْ”( ).
إنَّ الشاعر يُعبِّر تعبيراً ديالكتيكياً عن حركة الذهن، في بلورة الحكمة، وخلق التشكيل الجدليّ المباغت في نسقه الشعريّ؛ ليصنع نسقاً متآلفاً صوتيًّا، أو إيقاعيًّا مع حركة الصورة؛ والتوجه الدلاليّ الجدليّ الّلامتوقع للأنساق الجدليّة، كما في قوله: [لا تُعْطِ الحجارةَ استيقاظَةَ الوُجُوهْ،/ أَعْطِ الوُجُوهْ، نومَ الحجارَهْ]؛ فالشاعر خلق حركة جدلية بين [استيقاظة الوجوه/ ونوم الحجارة] و[لا تُعْطِ الحجارة/ أعْطِ الوُجُوه]؛ وهذه الحركة النسقيَّة تداعب القارئ ذهنيًّا؛ بما تثيره هذه المركبات الجدليّة، من تباعد ذهني بين النسق الأول، والآخر؛ ليخلق حالة من المقارنة بين النسقين الجدليين؛ باتباع حيلة تشكيليَّة تؤكِّد مهارته الذهنية، وحساسيته الشعريَّة العالية؛ لبلورة الفكرة، وتكثيف منطوقها الصوتي، وإيقاعها الجدلي على المستوى الدلاليّ، لتعزيز الصورة؛ وبلورتها للقارئ بأسلوب شائق مثير، وهذا ما اتبعه الشاعر في المقطع الرابع؛ ليخلق هذه الحركة الجدليَّة من خلال ثنائية [الشعر/ والنثر] معبِّراً بذلك عن رؤيته النقديَّة إزاء كلّ من النثر والشعر؛ إذْ يقول:
“النثرْ قَصَبَهْ.
الشِعْرْ نايْ”( ).
إنَّ منظور جوزف حرب للنثر والشعر؛ منظور نقديّ إبداعي بعيد الرؤية، يؤكِّد تلازمهما؛معاً في الخلق الإبداعي؛ فالنثر وعاء للشعر. والشعرُ نايُ ولحنٌ للنثر؛ فالكلام الجميلُ لابُدَّ أن يصل إلى القلب، ويسكن بأنغامه العذبة؛ التي تطرب القلوب، وتلهب المشاعر؛ وقد دلَّل الشاعر على إحساسه النقدي الرفيع، وتعبيره الشاعريّ عن هذه الرؤية، مؤكِّداً حساسيته الشعريَّة والنقدية في آن؛ من خلال هذه التآملات المفتوحة، والرؤى الممتدة التي تملك تجاوزاً في الفكر، وجرأة في التعبير لا يملكها إلاّ كبار الفلاسفة، والشعراء، النقَّاد.
وقد امتدّ المقطع الخامس، ليشكِّل قصيدة غزليَّة؛ تكاد تكون متفرِّدة بمنحاها الجماليّ الترسيمي، وشعورها العالي، وحسها المتدفق، كما في قوله:
“بعدما شاهدتُ كُلَّ البِحارْ.
اكْتَشَفْتُ أنْ لا بَحْرَ أجْمَلُ من عينيكِ.
بَعْدَما تأمَّلتُ غُروبَ الشّمسْ، اكتشفتُ أنْ لا غُروبَ شمسٍ أجملُ من فَمِكْ.
ورجعتُ إليكِ.
لَمْ أجِدْ أحداً.
وها إنِّي وحيدٌ على صخرةٍ للبحرِ أمامَ الغروبْ. بين الزَرْقَةِ التي ليستْ لعينيكِ،
واليواقيتِ التي ليستْ لِفَمِكْ.
وجاءَ الليلُ، وصوتُ المَوْجِ، والمَطَرْ، فَوَزَّعتِ على عينيَّ موجَ البحرْ؛
وعلى قلبي العاصِفَهْ؛
وعلى نسياني لكِ النومْ.
ومن غيرِ أنْ تَدْرِيْ
حَمَلْتِكِ القطاراتُ إلى حيثُ تصيرين مِثْلي”( ).
سبق أن قلنا: إنَّ هذا المقطع يمثل قصيدة كاملة بشعورها الغزلي، مبلوراً إحساسه بانفتاح تأملي؛ بما أثارته محبوبته من صور جماليَّة إشراقية؛ فعيناها أجمل من البحار، وفمها يشفُّ حمرة برَّاقة أجمل من غروب الشمس، إنَّ إدراك الشاعر لهذه الصور الغزليَّة البسيطة؛ يمتِّع القارئ البسيط؛ ويلهمه الرقة، والشفافية، والوضوح فلا غموضاً ولا تعقيد في الصور أو استهجاناً يمزِّق سلاستها وتدفقها الشاعري الرقيق؛ وهذه البساطة أتبعها برؤى عميقة فعَّلت مجراها الفني، وأزاحت عنها غبار البساطة، والمباشرة، بأن حلَّق في مجراها الجماليّ؛ كاشفاً عن شعوره التأملي العميق بما حلَّ بهما من أثر الفراق؛ فكلاهما يائس، يحاول النسيان بالنوم والرحيل؛ ومتاهات السفر؛ إنَّ الفكرة تتوافق شذراتها/ وتنسجم خيوطها؛ فلا تغريب في المعنى، أو ارتحال ذهني بعيد في مداليل الصور، وأبعادها الدلاليَّة، ومثيراتها النفسية؛ فالجملة تقود الجملة؛ والكلمة تقود الكلمة؛ لتندفع الرؤية الغزليَّة المجسدة في هذا المقطع صوب التكامل، والتفاعل، والتضافر، والانسجام.
ويعاود الشاعر في المقطعين السادس والسابع إلى الذائقة الأدبيَّة الرفيعة التي يملكها في رؤيته للشعر؛ والأشياء الأخرى التي ينظر إليها بمنظار نقدي ذوقي حساس لمعرفة كنهها؛ أو خلق متعة التصور الذهني إزاءها؛ كما في قوله:
“الشِّعِرْ ليسَ تكريمَ الكلماتْ،
الشِعْرْ تكريمُ الجمرْ
* * *
زهرة الياسمينْ تطريزٌ دمشقي”( ).
هنا؛ يفاجئنا الشاعر في تعريفه النسقي الفلسفي لطبيعة الشعر؛ برؤى تصوريَّة عميقة؛ فالشعر ليس تنظيم للكلمات في نسق شعريّ؛ وتجميل الكلمات بشكل فني مزوَّق مخصوص، وإنما هو تعبير عن الجمر المصطهج في باطن الذات؛ وتعبير إيحائي عن عمق المعاناة التي تخلق التجربة الشعوريَّة؛ لهذا، جاء حدسه الشعري النقديّ معبِّراً بعمق عن حقيقة الشعر، ورسالته الموجهة من الذات إلى الآخر؛ أمَّا المقطع الآخر فجاء تعبيراً عن شطحة تأمليَّة من شطحاته التخييلية، ورؤاه التأمليَّة المنفتحة في حسها وشعورها ونبضها الجمالي الدافق؛ بقوله: “زهرةُ الياسمينْ تطريزٌ دمشقي”، وهنا يباغتنا الشاعر بهذه الخطفة التأمليَّة، والحدس الشعري صوب الأشياء؛ وهذه الرؤية مردها حبّه لمدينة دمشق؛ وتأكيد انتمائه لها؛ وحبه لطبيعتها؛ وهكذا؛ يتابع الشاعر جوزف حرب المسارات التأمليَّة المقاطع الأخرى بروحانية شعريّة متماسكة، تؤكِّد نزوعه التأملي، وحرصه على خلق المباغتات المقطعيَّة في كل مقطع من قصائده.
أما المقطع الثامن فجاء تقديساً لماهية الجسد، بلغة تحمل من الشفافية والعمق ما يجعلها تتبوَّأُ حيِّز الترسيم التصويري الشعوري الجمالي، وكأنَّ الجسد الأنثوي – لديه- نبيذ، وخمر، وشرابٌ ومتعة روحية؛ تقود الذات إلى التحليق والانطلاق من قيد الذات وحصارها إلى فضاء الملكوت الروحاني الإلهي المطلق، كما في قوله:
“جسدٌ أم نبيذٌ؟!
وأُسْقَى، وأُسْقَى، وهذا مُتَّكايَ، وَذِيْ جراريْ.
كؤوسِيْ رياحٌ، وغيمٌ شَرَابِيْ، وما أنتِ إلاَّ بحارِيْ.
أبَحَّارُ هذا الجَسَدِ النبيذيِّ اسمي؟ والأُفقُ دارِي؟
وأحيا بين غمسِ المجاذيفِ فيكِ؟ وشوقِ الصواريْ؟
وإنِّي وإنِّي لم أفق بَعْدُ من دُوَارِيْ”( ).
يعتمد الشاعر حيِّز التنامي التصويريّ الترسيمي لحركة الجسد؛ برؤى تصويريَّة تكثيفيَّة؛ ترصد مثيرات الجسد الأنثوي، وما تفجره من مثيرات جماليَّة، ومفرزات إيحائيَّة؛ فالأنثى، والنبيذ، والكؤوس، والشراب، والأفق، والشوق، وهي ميدان الألفة، والسكر، والجمال هي العالم الصوفيّ الذي يشقُّه الشاعر؛ وهكذا؛ يأتي هذا المقطع شاعريًّاً أقلّ ما يقال عنه أنّه ترسيمي في توصيف الجسد ومثيراته الجماليَّة؛ وهكذا؛ يأتي المقطع التاسع فاعلاً في تنسيق المشهد الشعري، وتكثيف إيحاءاته، كما في قوله:
“تَرْتَدي المِنْهَدَهْ،
فوق حَلْمَتَيْهَا تضع الياسمينْ تحتَ الخصرْ، تَرْتَدِي ورقَهْ من عريشِ الدنْتِيلْ
وَفِيهَا على الشَعرِ الأسوَدْ، تضع الغاردينيا.
هكذا تبدأُ القصيدهْ
هكذا تنتهي”( ).
إنَّ المسار النصّيّ لمداليل الجسد، بما يحويه من مثيرات جسديَّة؛ تُحفِّز درجة إيحاء القصيدة وبؤرتها النصيَّة؛ فالجسد الأُنثوي هو مولِّد الشعور الحسّي الجمالي بالأشياء؛ فهو جمال الياسمين، وهو عريش الدنتيل؛ وهو زهرة الغاردينيا؛ إنَّ هذا التآلف النصّيّ في ترسيم الجسد، وتشعيره؛ يؤكِّد درجة إيحاء قصائده المقطعيَّة؛ فكل مقطع يشي برؤية جديدة؛ مُحَفِّزة للرؤى الأُخرى رغم انفراد كل مقطع برؤيته الخاصة؛ كما في قوله:
“الغبارُ صدأُ الريحْ”( ).
إنَّ هذا المقطع على اقتصاده اللغوي، واختزاله التركيبي يعبر بفاعلية وكثافة دلالية إلاّ أنَّه يعبِّر عن رؤيته الجدليَّة للوجود، وجرأته في طرح الأفكار الجديدة؛ فالغبار كيف يتحوَّل إلى صدأ للريح؛ هذه الرؤية الجديدة منطلقها طرح الأفكار الجديدة والصور المبتكرة بإيحاءات بعيدة، وانتهاكات لغويَّة صادمة مستفزة للقارئ ليرقى أبعد المستويات.
ويأتي المقطع الحادي عشر طويلاً مُجَزَّأً إلى مقاطع جزئية تجسيديَّة للجسد الأنثوي؛ كما في قوله:
“رِجْلاكِ بيضاوَانْ.
تنتهيانْ بأصابعَ عَشْرٍ كجداوِلَ عَشْرَهْ،
يجلسُ فوقَها عشرةٌ من أمراءِ اللؤلؤ.
حين جَلَسْنَا، ومَدَدْنَا أرْجُلَنَا، شاهدَ الناسْ
قُرْبَ رجليكِ البيضاوينِ كم رِجْلايَ حمراوانِ داميتانْ.
زوَّدَتْني أمي بخبز سَنَابِلِهَا، وأبي بعصا قَطِيعِهْ.
ومن لونِ رجليَّ الليلكيّْ وجراحِهِما، تعرفينَ كم سرتُ إليكِ”( ).
إنَّ الطابع التجسيديّ للجسد الأنثوي يشكِّل حيِّزاً تكامليًّا في تخليق الصورة الشعريَّة، مما يجعلها ذات طابع رومانسيّ؛ يستقي جلّ مثيراته من جماليَّة التوصيفات الجسديَّة، وإيحاءات المشاعر العاطفية المرسومة بمشاهد رومانسيَّة دقيقة؛ تحفِّز القارئ إلى سيرورة نسقية؛ تجعل الصورة مفتاح ألقها الجماليّ؛ فكما يصوِّر الشاعر اللقطات المشهديَّة الرومانسيَّة المكثفة بظلالها الإيحائيَّة، يصوِّر جراحاته، ومآسيه بأسلوب جمالي توصيفي دقيق في التعبير عن الحالة وعمقها النفسي، كما في قوله: “حينَ جَلَسْنَا معاً، ومَدَدْنَا أرْجُلُنَا، شاهد الناسْ/ قُرْبَ رجليكِ البيضاوينِ كَمْ رجلايَ حمراوانِ داميتان”؛ إنَّ هذا التعبير التجسيدي يشي بإمكانية نصوصه الشعريَّة على خلق الدهشة النصّيّة رغم إغراقها في توصيف الحالات الشعوريَّة، وترسيم معاناتها بألق جمالي مثير، يؤكِّد مهارة جوزف حرب في استقطاب القارئ إلى لبّ الوصف الشعوري المستعصي الذي تضجّ به الذات من ألق نفسي، وشعور عاطفي ودلالات مُكَثَّفة تنمّ عليها نصوصه كلها.
وتأتي المقاطع التالية (12، 13، 14، 15، 16)؛ للتعبير عن حسّ شعوري مرهف قائم على إثارة الجدل، والرؤى المتضادة صوب ماهية الأشياء، لتحميلها رؤى متداخلة تنمّ على حركة ذهنية مبتكرة جديدة في إسناد الأشياء، واكتشاف صخبها التشكيلي الجدلي، كما في المقاطع التالية:
“* المُسْتَقْبَلْ طِفْلْ
كُلَّما ازدادَ عُمْرُهُ كَبِرَ الماضِيْ.
* تَأْكُلُ لي جَبِيْنِي
وتَشْكُو من المِلْحْ؟!
* القناديلْ أوسمةُ الليلْ.
* ما مرَّةً فَكَّرْتُ في خاتمْ
حبَّاتُهُ كَشُعَاعِ أَدْمُعِهَا إلاَّ أحَسَّتْ ألْسُنَاً للنارِ مسَّتْ شمعَ إصْبَعِهَا.
* تَكْتُبُ الأوديَهْ
تقرأُ الجبالْ”( ).
إنَّ كلّ مقطع يطرح رؤية؛ وهذه الرؤية مرتكزة – أساساً- على تحريك الذهن لدى القارئ؛ ليحاكم الأشياء؛ من منظار شاعريّ، تأملّي؛ فكل مقطع يطرح رؤية تأمليَّة منفتحة في تأويل الأشياء، وخلق الجدل في إسناد علاقاتها؛ كما في قوله: “المُسْتَقْبَلْ طِفْلْ/ كُلَّما ازدادَ عُمْرُهُ كَبِرَ الماضِيْ”؛ إنَّ هذه الحركة الذهنية رغم دقتها وصحتها إلاَّ أنها تركت مسافة ذهنية للتأمل في مدلولات هذا النسق التشكيلي الجديد؛ وهذا القول ينطوي – كذلك- على مفاجأة نسقية؛ فتحت أمامه الطريق؛ لخلق حركة ذهنية جديدة في المقاطع التالية: “القناديلُ أوسمةُ الليلْ”، فالحركة الذهنية في هذه التراكيب فتحت أبواب التأمل على مصراعيه؛ فالعبارة الشعريَّة دقيقة في مدلولها تعبِّر عن ذكاء وفطنة في تشعير الأشياء، والتلاعب بها تلاعباً فنيًّا إسناديًّا يثير القارئ، ويفتح باب التأمل والإدراك على أشده؛ لتزاحم الرؤى، وتتفاعل الأنساق الّلغويّة، ثم ينتقل – فجأة- في حركة النسق في المقطع التالي؛ ليثير مشهداً عاطفيًّا فيه الكثير من الرهافة والحساسية الشعريَّة، كما في قوله: “ما مرَّةً فَكَّرْتُ في خاتمْ/ حبَّاتُهُ كَشُعَاعِ أَدْمُعِهَا إلاَّ أحَسَّتْ ألْسُنَاً للنارِ مسَّتْ شمعَ إصْبَعِهَا”؛ إنَّ هذا النسق التشكيلي الغزلي يؤكِّد حساسيته الشعريَّة في التقاط المشهد الغزلي الذي يثير الحركة الشعريَّة؛ ويكسر رتابة الصورة، ويخلق الانتهاكات المستمرة التي تزيد هوّة المسافة بين مداليل الجملةمن جهة، ومستوى فهمها لدى القارئ من جهة ثانية؛ إذْ يقوم بين الفينة والأخرى بتشكيل مقطع شعري يشي بالغزل، والتأسيس الرومانسي لحركة المشاهد الشعريَّة المجسدة؛ في حين يأتي المقطع التالي: “تَكْتُبُ الأدويَهْ/ تقرأُ الجبالْ” ليثير الحركة الذهنية رغم بساطته وسهولة مدلوله. ولعلّ هذا الأسلوب التشكيلي الذي يعتمد الحنكة في ترسيم المشهد، وبث الصور الرومانسيَّة؛ يعزز مدلول الصورة، ويعمِّق مستوى شعريتها؛ لكن رغم ذلك تبدو هناك انزياحات ترهق القارئ وتدفعه إلى إعمال ذهنه في الكثير من صوره المفاجئة، ورؤاه الجدلية، كما في المقطع التالي:
“* نيتشه
عنْدَمَا اكتشفَ الداءَ، فَتَّشَ عن دواءٍ صارَ فيهِ يُعَالجُ سِرَّ دائِهْ،/ غيرَ أنَّ آلامَهُ ازددنَ حتَّى باتَ في حاجةٍ لدواءٍ، يَشْفَى به من دوائِهْ”( ).
إنَّ هذه الرؤى الجدليَّة التي يخلقها الشاعر في تكثيف رؤية قصائده لدليل اهتمام وحرص على خلق المجاذبة الدلاليَّة لنصوصه الشعريَّة؛ لتبدو مقاطعه مغامرة في منحاها التصويري، وجدلها الإسنادي؛ فالمقطع السابق يؤكِّد أنَّ الدواء والداء هما متلازمان في حياتنا الوجوديَّة، فعندما نجد الدواء لداءٍ ما، نحتاج إلى دواء آخر لداءٍ آخر؛ وهكذا دواليك؛ فصراعاتنا الوجوديَّة أزليَّة في حياتنا بين المتناقضات، وحاجاتنا متتابعة ومستمرة، فكلما انقضت حاجة تولدت لدينا حاجات أخرى، وكلما شفينا من مرضٍ واكتشفنا دواءً له سقطنا في مرض آخر، واحتجنا إلى دواء آخر؛ وهذا هو منبع الجدل الوجوديّ في عالم الكون والحياة.
وقد يطعم الشاعر قصيدته برؤى تصويرية تعتمد إيقاع الأنسنة في تحريك الأشياء، وإضفاء رؤى بصريَّة تجسيديَّة محركة للنسق الشعري عبر الأنسنة، وتحريك الجماد؛ كما في قوله:
“شَرِبَ العصفورُ فِضَّهْ.
طارَ في الهواءِ مع الفيروزْ.
غَطَّ فوقَ غُصْنِ الزُّمُرُّدْ؛ حاملاً لفراخِهِ من حقلِ القمحِ حبًّا من الذهبْ.
لا شيبَ في ريشةِ العصفورْ.
وعلى حريرِ الغروبْ، عندما يموتْ،
تَضَعُ الريحُ قَلْبَهُ في يَدِهَا خاتماً من الياقوتْ”( ).
هنا؛ يعتمد الشاعر إيقاع الأنسنة في تكثيف مداليل الصور الرومانسية التي تأخذ القارئ بسيرورتها الجماليَّة وألقها الرومانسيّ؛ فكل صورة تثير حيويّة المشهد؛ وتعمق سيرورة النصّ، بنسق تآلفي رومانسيّ يحفِّز الرؤية؛ ويرسم صداها جماليًّا؛ كما في قوله: “طارَ في الهواءِ مع الفيروزْ./ غَطَّ فوقَ غُصْنِ الزُّمُرُّدْ؛ حاملاً لفراخِهِ من حقلِ القمحِ حبًّا من الذهبْ”؛ إنَّ هذا الألق التصويريّ الرومانسي في حمل الشحنات الجماليَّة وتكثيفها بأنساق رومانسيّة تضفي على المقطع الشعري حركة نسقية متكاملة، تسهم في بلورة الرؤية، وتحميلها بألق شاعري رومانسي مثير؛ وهذا الأسلوب يكاد يكون طاغياً في تفعيل الائتلاف التشكيلي في هذه القصيدة، ليكون سمة فارقة على جمالية أسلوب الشاعر في صياغة مقاطعه؛ بموجات نسقية متفاوتة، تارة بالاستغراق والتمطيط التصويري، وتارة بالاختزال التام للمقطع الشعري؛ حتى يبدو المقطع الشعري – في كثير من الأحيان- مجرد جملة واحدة لا تتعداها، أو شذرة تصويريَّة جزئيَّة تميل إلى التكثيف، والعمق، والإيحاء؛ وهذا ما تبدَّى لنا في المقاطع التالية “19، 20، 21” التالية:
“* لا شيءَ في الكونْ، ليس في جسدي.
* الهواءْ قلمٌ أزرقْ.
زهرةُ الّلوزْ دواةٌ بيضاءْ.
* الحورْ ماءٌ واقفْ
الماءُ حُوْرٌ ذائبْ.” ( ).
إنَّ القدرة البالغة التي يملكها جوزف حرب على مفاجئة القارئ بالتشكيل الجدلي، وطرح الأفكار بذهنية منفتحة، جريئة، لدليل فاعلية شعريته وواجهتها الدلالية والإيحائية التي تحاول إثارة المتشاكلات الّلغويَّة، والأنساق البالغة في المراوغة، واللّعب اللغوي الإسنادي الواعي بميزان الجملة، وديدانها الجمالي؛ وهذا يؤكِّد – بشكل قاطع- مقدرة نصوصه على الجذب الجمالي للقارئ بهذه الرؤى الجدليَّة [الهواءْ قلمٌ أزرقْ./ زهرةُ الّلوزْ دواةٌ بيضاءْ]؛ ولا يكتفي الشاعر بإيراد الأنساق الجدليّة فحسب بقصد المماحكات الأسلوبية فحسب،وإنما يحاول خلق المتشاكلات الذهنية ذات البراعة النسقية في الحركة، والمداعبة الذهنية بحركة الأنساق المتضادة بين السلب والإيجاب؛ بالانتقال من السلب إلى الإيجاب أو العكس، بقلب التشكيلات اللغويَّة، كما في قوله [الحورْ ماءٌ واقفْ/ الماءُ حُوْرٌ ذائبْ]؛ إنَّ هذه الحركة الذهنية في إثارة المتباعدات الّلغويَّة، وحركتها النسقيّة لتقنية جد مهمة تثير القارئ؛ وتدفعه إلى تأمل طرح الشاعر للرؤى الجدلية العميقة داخل النسق الشعري.
وتأتي المقاطع الثلاثة (22، 23، 24) ؛ لتطرح رؤاها بموجات تأمليَّة منفتحة؛ إذْ إنَّ كل مقطع من مقاطعها يشكل رؤية تتراوح بين الاستغراق والاقتصاد، لدرجة يبدو التفاوت فيما بينها نسقيًّا متسعاً جداً؛ بين حركة ذهنية مطولة، وحركة أخرى مختزلة، كما في المقاطع التالية:
“* شَجَرٌ، وعصافيرُ من فلسطينْ،
طُرِدَتْ مع مَنْ طُرِدوا، ولمَّا تَزَلْ تحملُ في جَيْبِهَا منديلَ
النسيمْ، ومفتاح الترابْ.
* الصمتُ كلامٌ نائِمْ
* ريحُ البحرْ، تحملُ الأَمواجَ سلالاً بيضاءْ، وعلى الشاطئْ، تنثرُ الَّلوزْ”( ).
إنَّ التماوج التشكيلي – في حركة المقاطع الثلاثة- تحكي واقع الرؤية، أو الفكرة المطروحة في كل مقطع؛ فالمقطع الأول جاء كاشفاً عن ثورة الذات، وإرادة المرء على الصمود في وجه التحديات من خلال رمزية الشجرة والعصافير؛ فما تزال العصافير تحتفظ بالإرادة والعزيمة على العودة رغم طردها؛ مؤكِّدة عودتها القادمة لا محالة؛ إنَّ هذا التلاعب الرمزي – في حركة المقطع الأول- تشير إلى مهارة في صنع الرمز، واستشفاف أبعاده؛ في خلق الدهشة، والمناورة، والتعتيم الجمالي؛ الذي يثير لذة الكشف والاستدلال؛ أو متعة الكشف بعد مغامرة التأمل، والاستغراق في مخزون الكلمات؛ وما تحمله الجمل من رؤى ودلالات مستبطنة في أعماقها؛ في حين جاء المقطع الثاني مختزلاً جداً، لا يتعدَّى الجملة الواحدة؛ وهي [الصمتُ كلامٌ دائمْ]؛ معبِّراً – من خلالها- عن جرأته في خلق التراكيب الجدليَّة المثيرة التي تشكِّل بإسناداتها الّلامتوقعة حركة نسقية دلاليَّة مفتوحة؛ تدفع عجلة الرؤى إلى التحفيز والإثارة؛ كما لو أنَّ الشاعر آثر مثل هذه التراكيب، ليطرح رؤاه بجرأة وجسارة؛ مؤكِّداً ذائقته النقدية والأدبية العالية، وحساسيته الشعريَّة صوب الأشياء؛ وعلاقتها الاصطراعية الجدلية المتنافرة في كثير من الأحيان، وهذا الأسلوب جاء – كذلك- في المقطع الثالث، ليطرح رؤيته بتمام تحفيزها، وتنامي أسلوبها التصويريّ المراوغ الذي يسعى إلى التركيز، والاستقطاب الجمالي للمتخيلات الجماليَّة البعيدة ذات المد التأملي؛ كما في قوله: “ريحُ البحرْ، تحملُ الأَمواجَ سلالاً بيضاءْ، وعلى الشاطئْ، تنثرُ الَّلوزْ”، إنَّ هذا الاستقطاب الجماليّ يدفعنا إلى القول: إنَّ الشاعر الحقّ هو الذي يُفَعِّلنا برؤيته؛ ويخلق لنا عالماً جديداً ممتداً بامتداد رؤيته؛ ولهذا؛ يسكننا الشاعر بروحه؛ ويمدنا بألقه؛ وشرارة إبداعه؛ ليوقظ فينا شهوة الإبداع، أو شهوة التلقي الجمالي لهذا الإبداع؛ كما لو أن نصه هو ممزوج بشرارة أحاسيسنا وأصداء نفوسنا الداخلية المشرئبة إلى الخلق والإبداع، ولهذا؛ فالناقد والمبدع صنوان في العملية الإبداعيَّة؛ والناقد الحقّ هو “الذي يجتذبنا إلى ناره الخاصَّة إلى لغتِهِ التي تبدو مفتونةً بذاتها أحياناً، يُغْرِينَا بالعيش معه، أو مرافقته في التحامه بالنصّ والاستمتاع بالعملية النقديَّة على أكثر من مستوى. ولعلَّ أهم هذه المستويات، مكابداته الجميلة للوصول إلى حقيقة النصّ، إنْ كان ثمَّة حقيقة أصلاً، كما أنَّ لغته الريَّانة الثملة هي التي تُجَسِّد مغامراته مع النصّ من جانب، وتضمن له تلك اللذة الّلغويَّة الكبرى من جانب آخر”( ).
وما يثيرنا – في مقاطع هذه القصيدة جميعها- أنَّها نفثات شعوريَّة مكثفة الرؤى، منفتحة المداليل؛ تتراوح موجاته بين “الطول/ والقصر” و”الإلغاز/ والوضوح” والمتعة والسهولة والخلق والتموج الإبداعي، والسلاسة والتعقيد؛ والالتحام/ والانفصال؛ إنها لغة اللغة؛ أو لغة خلق اللغة؛ وصناعة أمواجها الدلاليَّة تبعاً لنفثاته الشعوريَّة التي تزداد طولاً وقصراً؛ على حسب المنوال النفساني أو المسار النفساني الذي تخطه روحه الشاعرة بما يحدث أمامه من مشاهد، ورؤى، ومحاور، وأحداث؛ إنَّ قصائده قصائد موجيَّة؛ إذاً؛ تبث مقاطعها؛ تبعاً لهذه التموجات الداخلية التي تشحنها نفسه الشاعرة، وتبثها للقارئ على دفعات متفاوتة الطول والقصر؛ وهذا ما يحسب لهذه القصيدة أنها متلونة، متموجة تخلق جمالها من تفاوتها؛ وأنساقها التشكيلية؛ ولو تتبعنا مسار القصيدة وتمفصلها المقطعي لتبدَّى لنا سحرها الجمالي، وتألقها الشعوريّ، سواء أكان ذلك على مستوى المقاطع الجزئية، أم على مستوى المقاطع الكليَّة أو المتفرعة؛ يقول الشاعر في المقطع الخامس والعشرين:
“في دَوَاةِ البِنَفْسَجِ حِبْرٌ لنهديكِ.
في النَّاي لصٌّ تَسَلَّلَ في الرقصِ إلى خَصْرِكِ.
والزَّبَدُ الرخاميُّ في فخذيكِ يَعْلُوهُ تاجٌ لمملكةِ السِّرِّ، أسْوَدُ،
يَحْرُسُ نبعَ بهاءِ العهرِ فيكِ.
لا مُقَدَّسَ قَدْ رافَقَتْهُ الآهُ، والّلذَّةُ، والتلويْ، والتنهُدُ، والأنَّاتُ كالعُهْرِ تحتَ التاجِ فوقَ فخذيكِ اللتينِ من بينهما تخرجُ الشهوةُ، والطِفْلُ.
أُعطيكِ يا ربَّةَ العُهْرِ كلِّي.
أَجْلِسينِي، يا رَبَّتِيْ ملكاً بين قيثارتي شهوتي، وطفلي”( ).
يعتمد الشاعر – في هذا المقطع- التوصيفات الجسديَّة التي تثير الإيقاع التجسيديّ النحتي الجمالي للجسد الأنثوي؛ معزِّزاً الإيقاعات التصويريَّة الترسيميَّة ذات المدّ التأملي الانفتاحيّ في تأسيس الصور المبتكرة التي تتبع مثيرات الجسد الأنثوي؛ بأوصاف غاية في الشعريَّة، والالتقاط الحسي الدقيق، والرهافة في تتبع منحاها الجمالي، كما في قوله:
“في دواةِ البنفسجِ حبرٌ لنهديكِ.
في النايِ لصٌّ تسَلَّلَ في الرقصِ إلى خصرك””؛
وممَّا يدفع الحركة التعبيريَّة إلى تنامي الصدى الجماليّ؛ يإيقاعات بصريَّة متتابعة؛ هذه القدرة الترسيمية في تتبع مثيرات الجسد وأوصافه الحسيّة التي تعلن عن درجتها التصويريَّة الفاعلة بإيقاع شعوري عميق، كما في قوله: “أُعطيكِ يا ربَّةَ العُهْرِ كلِّي./ اجلسيني، يا ربتي ملكاً بين قيثارتي شهوتي، وطفلي”.
وقد جاءت المقاطع التالية (26، 27، 28، 29، 30، 31، 32) ؛ كاشفة عن اتجاهات رؤيوية منفصلة؛ تعتمد الجدل والحدس الفني في إثارة القفلة المقطعيَّة، بما يوائم النحت الجماليّ للصورة الدهشة، أو الصورة الومضة؛ مما يجعلها غاية في الترسيم الدقيق للمشاهد الشعريَّة المجسدة؛ كما في قوله:
“* شَعْرُهَا الطَّوِيلْ
الليلُ الأَخيرُ مِنْ أَيْلُولْ.
* أَعْجُنْ وَرْدَهْ، تَصْنَعْ رغيفاً من الخُبْز.
قَسِّمْ رَغِيْفاً من الخُبزْ، تُوَزِّعْ أوراقَ وردْ.
* التقمُّصْ من عقائِدِ الشَّمعْ.
* لا يُفَتِّشُ الخيطْ إلاَّ عنِ الإبْرَهْ
لا يُفَتِّشُ الخيطُ والإبْرَهْ إلاَّ عن قميصِ الخريفْ.
* طائِرُ البَجَعْ بدويٌّ أبيض.
* قالَ الشيخْ: آخِرُ أصدقائِي الأوفياءِ، طفولتي.
* طارَ مِنْ قفصِ الذَّهَبْ، غطَّ على شوكةِ العوسَجْ وغنَّى”( ).
إنَّ الحسّ الجماليّ الذي يملكه الشاعر جوزف حرب في شعرنة الجملة، والتركيب باللقطة الرومانس أو المشهد الرومانسي هو ما يُبَوِّئ أشعاره إحكاماً جماليًّا؛ لتشع بالضوء الجماليّ والملامسة الروحيّة، لتصل إلى ذروة إضاءتها التصويريَّة، وتماسها الجماليّ؛ الذي يثير القلق والدهشة في آن؛ فكُلُّ مقطعٍ من المقاطع السابقة يترك حيِّزاً تأمليًّا مراوغاً، قادراً على استقطاب اللقطة المثيرة الأخرى والرهافة الشعوريَّة المكثفة، كما في قوله: [شَعْرُهَا الطَّوِيلْ/ الليلُ الأَخيرُ مِنْ أَيْلُولْ./ التقمُّصْ من عقائِدِ الشَّمعْ]؛ والَّلافت أنَّ درجات التصوير الرومانسيّ، قد تتضاءل عندما يفتّش الشاعر عن الدهشة الذهنية والتلاعب الذهني بالتشكيلات، لإثارة الفكرة وممغنطتها جماليًّا أمام القارئ، كما في قوله: “لا يُفَتِّشُ الخيطْ إلاَّ عنِ الإبْرَهْ/ لا يُفَتِّشُ الخيطُ والإبْرَهْ إلاَّ عن قميصِ الخريفْ”؛ ومما يثير القارئ تحفيزها الجماليّ، وإثارتها الذهنية، وحركتها التلاعبية الفاعلة في اختراق التوقع إلى فلك كل ماهو مدهش ولا متوقع أو مفاجئ لدرجة الذهول الجمالي؛ وقد كان الناقد علي جعفر العلاّق مُوَفَّقاً في تعريفه القصيدة وعالمها الشعوري، الذي يبرق بالشعور، وعمق الإحساس، وبداعة الاستقصاء والتأمل؛ إذْ يقول:
“إنَّ القصيدة عملٌ خاصّ جداً، لا تذهب بنفسها إلى الآخرين دائماً، ولا تفتح مغاليقها لهم جميعاً وفي كلّ وقت؛ فهي ليست أُغنية، أو حكاية، أو إعلاناً، بل هي عمل غائم ومشعّ في آن واحد. ولذلك فإنَّ ما فيها من ضوء يظلُّ كامناً أو مؤجَّلاً في انتظار بينه وبين النصّ، وليس كُلُّ القرَّاء قادرين، بطبيعة الحال، على الوصولِ إلى نقطة التماس تلك؛ حيث مكمن الضوء، أو الرعد، أو الإثارة. وهكذا، كُلَّما ازدادت القصيدة إحكاماً أو تعقيداً قلّ عدد قرائها المتميزين، أعني القادرين على الوصول إلى نقطة الاندماج بالنصّ وتفجير مكنوناته الفكريَّة والوجدانية والبنائيَّة، وتأسيساً على ذلك، يظلّ عدد المرهفين، من قرَّاء الشعر قليلاً من العصور كلها؛ فالشعر، كما يقول الشاعر الأمريكي اللاّتيني رامون جيمنز، هو فن الأقلية الهائلة”( ).
وتأتي المقاطع التالية (33، 34، 35، 36، 37، 38)، لتؤكِّد مقدار تنوّع الرؤى وانفتاحها الوجودي على ماهية الأشياء وحركتها الصاخبة؛ إذْ يُكَثِّف الشاعر من رؤاه بحركة مشهديَّة مكثفة؛ ترتقي حيّز الإيحاء، والعمق، والغزل الشفيف، الذي يستقي جلّ مثيراته من حركية الصورة الجسديَّة؛ ذات الصدى التأملي، والكثافة التصويريَّة، كما في قوله:
“* يا لزُنَّارِ الجُلَّنَارْ، كيفَ تَحُلُّهُ الشمسُ عن خَصْرِهَا في المساءْ، وهي تُعَلِّقُ قمصانَ الغمامْ،
في خزانةِ الريحْ، وتنامْ.
* النهرُ بيتٌ من قصائِدِ البحرْ.
* عندما هبَّ الهواءْ، ألبسَ الماءُ في النهرْ، أرْجُلَ الحورْ، خلاخيلَ فِضَّهْ.
* الهواءُ نساءُ القُرَى…الغمامُ جرارُ الماءْ.
* الموجْ، رسائلُ مَلْفُوفَةٌ زرقاءْ، يَحْمِلُهَا الهواءُ
ساعي البريدْ،/ ويَفْتَحُهَا الشاطئْ ورقاً
أبيضْ
* المطويُّ تحتَ المِشْنَقَهْ، منشورٌ فوقَ السَارِيَهْ”( ).
تَنْطوي هذه المقاطع على رؤى تكثيفيَّة؛ مردّها تشعير إيقاع الأنسنة بأُسلوب غزلي، يستثير الموقف العاطفي ويحرك الشعرية من جسد الصورة وألق الرؤية وحراكها الجمالي؛ ناهيك عن الصور المفاجئة التي تخطّ إيقاعها؛ بنسق تصويري مباغت يعتمد إيقاع [المبتدأ/ والخبر]؛ أو المضافات المتباعدة في الإسناد، كما في قوله: [النهرُ بيتُ من قصائِدِ البحرْ./ الهواءُ نساءُ القُرَى…الغمامُ جرارُ الماءْ]؛ إنَّ هذه الجرأة في الإسناد، والتحليق التخييلي في إضافة الأشياء، وتركيز مدلولها؛ يستثير القارئ؛ ويبعث في نفسه التفكر والتأمل بهذه الاختراقات التصويريَّةالمباغتة، والعبث بالأشياء والتلاعب بإيقاعاتها البصريَّة؛ ذات المدّ التأملي المفتوح؛ وهذا ما يجعل بعض المقاطع متجاوزة حيّز التوقع إلى المفاجأة والمباغتة الجدليّة؛ كما في قوله: [المطويُّ تحتَ المِشْنَقَهْ، منشورٌ فوقَ السَارِيَهْ].
ويُحَلِّق الشاعر في المقاطع التالية (39، 40، 41، 42، 43، 44) في عباب الشاعريَّة؛ مغامراً بفضاءاتها التخييليَّة، بعيداً فوق حيِّز البساطة، والسهولة الإسناديَّة إلى حيِّز المداعبة اللغويَّة والانتهاكات التأمليَّة لمداليل الصور وإيحاءاتها الشعوريَّة المكثفة، كما في قوله:
“* مَقْعَدٌ حَجَرِيّْ، وَعَصَاً من سنديانْ؛
عرشُ جدِّيْ وصولجانُهْ،
قُرْبَهُمَا حائِطُ الحَقَلْ، مكتبةُ
الملوكْ.
* أنْهَى الفلاَّحونْ، كلَّ قصائِدِ القمحْ،
وطاحونةُ الماءْ،
طبعَ دواوينِ الطَّحينْ.
* الرَّمادْ رفاتُ المَوْتَى مِنَ الجَمْر.
* سنديانةٌ دائماً خضراءْ، تحتها قبرُ شاعِرْ.
* الشجرُ المحنيّْ، قناني نبيذٍ أخضرْ
تشربُهُ العاصِفَهْ.
* السَّحابُ، رخامُ التماثِيلِ عندَ الرّياحْ”( ).
إنَّ اللغة الشعريَّة تتجاوز منطق الحس الشعوري البسيط، والفكرة البسيطة الساذجة، لتبني رؤيتها على إيقاعات أنسنة الطبيعة، وشعرنة المرئيات، وتحريك النسق الشعريّ بالمثيرات المشتقة من حقل الطبيعة الصامتة، والمتحركة؛ لتؤذن قصائده بقصائد رعويَّة أو قصائد جبلية؛ فالمقاطع السابقة، تدل دلالة قاطعة على انشغال الشاعر بالطبيعة الجبلية المعيشة؛ إذْ تأخذه مشاهد الفلاحين، ومشاهد السنديان، والحقل، والجبال، والثلوج، والأشجار المحنية، والسحاب، والرياح، لتسيطر على عالمه الشعريّ؛ وتستحوذ على حسّه الشعوري المرهف؛ فتبدو القصيدة – لديه- مغامرة فنيَّة من مغامرات الطبيعة، فهو يتلاعب فيها كيفما يشاء؛ لإضفاء حركة جماليّة على نصوصه تعيده إلى رحم البراءة، والطهر، والجمال الذي تمتاز به الطبيعة بسحرها، ونضارتها، وإشراقها، وجمالها؛ فهو يتمنى دائماً أن يدفن تحت روابيها، مشرئباً إلى جمالها، وصفائها؛ قائلاً:
“سنديانةٌ دائماً خضراءْ، تحتها قبرُ شاعِرْ”؛ فالشعر الجميل روحه الطبيعة، ودواة خلوده ظلالها، وألقه وجماله سكونها. ولولا الطبيعة لانعدم الشعر؛ وفقد خصوبته الجماليّة؛ وهكذا جاءت المقاطع كلها مقاطع رعويَّة ترصد حياة الطبيعة بكل ما فيها من دقائق وتفاصيل وصور مشتقة من حقل الطبيعة؛ ليبث من خلالها إيقاعه النفسي وشعوره العبثي بالأشياء؛ لإعادتها إلى فطرتها الأولى أو طبيعتها الصافية التي وجدت عليها الطبيعة منذ الأزل؛ فالإنسان مرجعه الطبيعة وهي قاموس عطائه ولولاها لانعدم الشعور الجماليّ، أو انعدم الشعر الصافي الجميل من أصله وجذره الوجودي؛ يقول الشاعر: “الشجرُ المحنيّْ، قناني نبيذٍ أخضرْ/ تشربُهُ العاصِفَهْ”؛ إنَّ هذا الشعور المرسوم بحسّ جماليّ تجسيدي للطبيعة يعبِّر عن نشوة عارمة بالتقاط جزئيات الطبيعة، والتمتع بتفاصيلها؛ ليسكر على إيقاعها العذب الصافي الجميل؛ وكأنَّه يعود بالشعر إلى فطرته وأصالته الوجوديَّة الأولى التي كان عليها.
وتأتي المقاطع التالية (45، 46، 47، 48، 49، 50) لِتُكَرِّس مغامراته التأمليَّة الوجوديَّة في كُلٍّ من الحقول التالية: حقل الأنثى، والطبيعة، وحقل الجدل الوجودي، الذي يتجلى بالإسنادات المراوغة، والتقصي الجماليّ للمشاهد الشعريَّة، كما لو أنَّ الشاعر جوزف حرب ينقل القارئ نقلة ذهنية مفاجئة، من حقل دلاليّ إلى آخر، لإثارة جماليّة اللقطة، أو جماليّة الرؤية، لتكتمل لوحته الشعريَّة، أو ومضته الجماليّة الآسرة؛ التي تأسر المتلقي؛ وتدفعه دفعاً إلى فضائها الجماليّ، كما في قوله:
“* أقْبَلَ الَّليْلْ
الموجُ مقامٌ أزرقُ في ترتيلةِ البَحرْ.
وما الريحُ إلاَّ صوتُ مزمارِ الغُروبْ.
إنَّها كاتدرائيَّةٌ أُرجوانيَّةٌ سوداءُ هذه الغيمةُ،
فيها سبعةُ قدِّيسينَ، كُلٌّ مِنْهُمْ لونٌ في قوسِ قُزَحٍ، يُعْطُونَ الأرضَ ألوانَهُمْ، عندما يَذُوبُونْ.
كاتِدْرائيَّةٌ ليس في داخِلهَا سِوَى راهبٍ يَدْعُونَهُ الشِّعرْ.
* عِنْدَما تَدْخُلُ الفراشاتُ كنيسَةَ القِنْدِيِلْ،
تُغَطِّي رَأْسَهَا بمناديلَ من ورقِ البنفسجِ.
أيَّتُها الراهِبَةْ
أُدْخُلِي العشقَ الإلهيَّ واحْتَرِقيْ.
* خلفَ الشَّفَتَينْ، لسانٌ مِثْلَ جُمْلَةٍ من سُكَّرٍ، بينَ هِلالينْ.
* الغيمُ والرِّيحُ
أوَّلُ مَنْ أسَّسَ في الأرضِ نقابةَ النحَّاتينْ.
* لم تَكُنْ عينايَ مِرْآتَهَا
كانَتَا وهيَ عارِيَهْ
مُتَّكَأَ الكشميْرِ في بيْتِها.
* كُلَّ عامْ، يَظُنُّ الشاعرُ الأبيضُ الورديّْ، ألخَوخْ أنَّهُ يَكْتُبُ زَهْرَهُ الخوخيَّ الأخيرْ”( ).
تتماسك – في هذه القصيدة- الرؤى الجدليَّة، لتؤكد نزوعها التأسيسي لشعريَّة الاختلاف أو شعريَّة [اختلاف/ الاختلاف]؛ فالجمل تنطوي على روحانية تشكيليَّة، وحس شعوري تأمليّ عميق؛ يؤذن بشعريَّة منفتحة، تخطُّ عالمها على اللقطة الدهشة، أو اللقطة الومضة الخاطفة بأنسنتها/ وحركتها البصرية، أو حركتها الذهنيَّة المتخيّلة المبتكرة، كما في قوله: [خلفَ الشَّفَتَينْ، لسانٌ مِثْلَ جُمْلَةٍ من سُكَّرٍ، بينَ هِلالينْ]؛ إن هذه الجملة النسقية تخفي مراوغة تشكيلية، ونقلة ذهنية مفاجئة؛ تجعل القارئ في حيرة من هذا التماهي الجمالي الفضائي المثير بين حركة الشفتين، وحركة الهلالين؛ وكأنّي بالشاعر يرسم اللقطة الدهشة رسماً، ويبث هذا الألق على باقي التأملات في المقاطع الأخرى؛ وينتقل – أحياناً- في مقاطعه إلى القصيدة السرديَّة؛ ذات المغزى القصصي الشائق التي تحايث قصص الأطفال؛ لخلق البراءة والجمال في ترسيمها الشعري، كما في قوله: “عِنْدَما تَدْخُلُ الفراشاتُ كنيسَةَ القِنْدِيِلْ،/ تُغَطِّي رَأْسَهَا بمناديلَ من ورقِ البنفسجِ./ أيَّتُها الراهِبَةْ/ أُدْخُلِي العشقَ الإلهيَّ واحْتَرِقيْ”؛ إنَّ هذه الرهافة الإسنادية، والسرد القصصي، التأملي الجمالي الشائق، يحايث البراءة الطفلية؛ ذات المشهد الرومانسي من حركة الفراشات، والقنديل، والبنفسج”، ولعلَّ هذا الأسلوب في ترسيم الطبيعة ورسم معالم جمالها يؤكد لنا مقولتنا السابقة على أنَّ شعريَّة جوزف حرب شعريَّة أنسنة المكان، وأنسنة الطبيعة، وتذويب الذات في كأس التوق والعشق إلى الأنثى والطبيعة؛ فالأنثى والطبيعة هما معين الشاعر في خلق عالمه الشعري، ومادام الجسد الأنثوي هو قبّة الشاعر التأمليَّة؛ فالطبيعة هي رأس سنام عالمه الشعوري؛ وإحساسه الشعري؛ مؤكداً لنا أنَّ الشعريَّة هي بناء؛ وهدم من جهة، واستغراق، وتأمل؛ في ماهية الكون والوجود وخرق لهذا الوجود؛ إنَّ شعريته شعريّة لذة، ومتعة، ومكاشفة دائمة، وتوثب دائم، وحركة مستمرة؛ إنَّها شعريَّة الانبثاقة التأملية من ركام الروتين، ليسبح في فضاء الطبيعة، مؤكداً عشقه لها لدرجة التصوف والهيمان الروحي، والعشق المطلق، لهذا جاءت جلّ المقاطع السابقة رسماً فوتوغرافياً جماليًّا لمثيرات الطبيعة ومفرزاتها الجماليَّة.
وتسير باقي المقاطع (51، 52، 53، 54) على هذا المنوال التشكيلي الذي يشعرن الطبيعة، ويبث جمالها بتلاعب ذهني غريب، وإحساس شعوري عميق، وحركة مستمرة؛ لخلق الدهشة في جلّ مقاطعه؛ للاستحواذ الجمالي، والحيازة الروحيّة لشعور المتلقي، بجذبه إلى دائرة الروح لا دائرة الإيقاع والحركة الشكلية المتوسمة بالتشكيلات المراوغة و النمنمات الإيقاعيَّة المصطنعة؛ كما في قوله:
“* ألرَّبيعْ ديوانُ الشتاءْ.
يا لَلشِّتاءْ
كَمْ يُشْبِهُ موتَ الشعراء
قبل نشرِ دَوَاوِيْنِهمْ!
* لا تَنْتَظِرْ الحُبّْ
اِذْهَبْ إليهْ.
قامَتُهُ غَمَامَهْ،
قَدَمَاهُ حجرانْ.
* من أوَّلِ سِجنْ، من أوَّلِ جُوْعْ، وفي السُّنُبُلَهْ رائحةٌ للعصفورْ، وفي العصفورْ رائحةٌ
للسُّنْبُلَهْ
* غَطِّ عصفورٌ على غُصْنِ لوزْ،
الغُصْنُ مَالْ،
العصفورُ غَنَّى،
الغُصْنُ تَرَاقَصْ،
مَدَّةُ الصوتِ في العصفورْ صارتْ بِطُولِ الغُصْنْ،
وصارَ الزهرُ خلاخِيلْ”( ).
هنا؛ يأخذنا الشاعر إلى عالم شعريّ ممتد، فهو يرصد تأملاته بانفتاح شعوري ممتد، فهو لا يقتصر في جمله على رؤية محدّدة؛ أو معنى سطحي ساذج؛ فهو يولِّد المعاني، ويفرِّع الرؤى، ويكثف الدلالات؛ دلالة إثر دلالة؛ ورؤية إثر أخرى؛ في مسار تأملي مفتوح؛ يعتمد الأنسنة، والتلاعب الذهني مقوِّماً أسلوبياً في تنامي حركة الصور، وتكثيف مؤولاتها النصّيّة؛ فهو يبث في الحبّ الحركة، ويمنحه شكلاً بصريًّا مؤنسناً له شكل مخصوص، لا شعور باطني فحسب، كما في قوله: لا تَنْتَظِرْ الحُبّْ/ اِذْهَبْ إليهْ./ قامَتُهُ غَمَامَهْ،/ قَدَمَاهُ حجرانْ”؛ إنَّ هذا الأسلوب المتنامي في تحريك الأشياء، والتلاعب الجمالي بإيقاعاتها يدل على شعريَّة تأملية؛ ترتقي حيّز الحس والشعور إلى فضاءات الإمتاع والإدهاش الجمالي، بوساطة الترسيم الدقيق للصور والمعنويات، لإضفاء حركة جماليَّة على المحسوسات والمجسمات الوجوديَّة، لتأخذ إطاراً محدداً، أو قالباً بصريًّا مُعَيَّنًا؛ فالشاعر جوزف حرب يملك مهارة شعريَّة فائقة في نقل الصور من إطارها الحسي إلى المجرَّد؛ ومن المجرَّد إلى الحسيّ؛ بأسلوب فني انتقالي مثير، يحرِّك الأشياء؛ ويثير إيقاعاتها النفسية والجماليَّة؛ وكأنَّه يحكي من داخل الأشياء؛ ويحركها بنفس شاعري أصيل ورهافة شعوريَّة عميقة، وحسّ جمالي مفعم بالشعور والإحساس؛والإثارة اللغوية كما في قوله: “مَدَّةُ الصوتِ في العصفورْ صارتْ بِطُولِ الغُصْنْ،/ وصارَ الزهرُ خلاخِيلْ”؛ وهكذا؛ يرسم الشاعر جوزف حرب قصيدته الملحميّة بريشة جمالية مزركشة بالألوان والظلال،كما في ترسيم الطبيعة، لتكون الطبيعة والأنثى أسطورته الخالدة. وما قصيدته (دواة السنونو) التي رصدنا مسارها الجماليّ إلاّ صدى روحاني عميق في ترسيم الطبيعة، وتشعير الجسد الأنثوي؛ ليأخذ شعره مساراً إبداعيًّا انتقاليًّا من المرحلة الأسطرة الواضحة، إلى مرحلة الأسطرة المُبَطَّنة؛ وتُعَدُّ هذه القصيدة نقلة نوعية في مسار قصائده رغم بساطتها؛ لكنها تحكي عظمة شعريته، وتنوع مشاربها؛ وسرعة انتقالها من( الحسّ/ والشعور) إلى (الباطن/ والغامض/ والمثير)؛ إنها حركة دؤوب تسعى إلى شعرنة الطبيعة والأنثى والعبث الذهني بالأشياء؛ لإثارة مكنوناتها الوجوديَّة؛ فشعريّة جوزف إذاً ليست شعريَّة عفويَّة مبنية على حدس بسيط، أو رؤى سطحية ساذجة؛ إنها بناء من الداخل؛ إنَّ شعريته ذات حركة متموجة؛ تنقل الباطن لترسمه بفن وجمال معكوساً على صفحة الظاهر على بياض الصفحة الشعريَّة، وكأنَّ القصيدة –لديه- قطعة من كبده لا تخرج إلى الخارج إلاّ وهي ممسرحة بداخله بإيقاع معاناته؛ وحرقة كبده عشقاً، وتوقاً، وصبابةً إلى الإبداع. فالكتابة الشعريَّة – من خلال ما تبدَّى لنا من مطالعة نصوصه- هي ضرورة حتمية من ضرورات وجوده، لهذا، تأتي قصائده ذات وظيفة تطهيريَّة، لتُطَهِّر رؤيته للوجود، وتمنحه الانعتاق من ربقة الواقع وصدماته المدمرة، إلى تحثث جمال الأشياء لرؤيتها بعين جديدة؛ لهذا؛ تلبس شعريته دائماً أثواباً جديدة؛ لأنَّ عينيه ترى الأشياء بتجدد دائم، وحيوية مستمرة… ولهذا أقول عن شعرية جوزف حرب:
إنها شعريَّة التأمل، والتفتح الذهني، وشعريَّة الخلق، والتنامي الجمالي، وشعريّة القلق، وإثارة الأسئلة، وخلق المجردات المطلقة، والسعي إلى محاثية الجمال في الطبيعة، وبتقديرنا إن الطبيعة ربَّةُ وجوده؛ وهي الملهمة لعطائِهِ، والأنثى هي الربّة الطاهرة كعشتار التي منحته صفاءها، وجمالها، وجسدها، ليشرق من خلالها، ويحلق بها في سماء الإبداع، والجمال، والفن؛ وما تحليقه بالجسد الأنثوي إلى فضاءات روحانيَّة خصبة إلا للتحليق من قيود الواقع، وبراثنه الظالمة، ودناسة الحياة، وروتينها الممل إلى صفاء الوجود، والتأسيس الجماليّ لمظاهر الأشياء الوجودية، والسعي إلى أسطرة الجمال؛ تأسيساً لأسطرة وجودها، وحيازتها على عالمه الوجودي بالشكل المطلق؛ وهذا يكشف عن أسلوبه التشعيريّ للطبيعة والأنثى والجسد الأنثوي عموماً.
وصفوة القول: إن شعرية القصيدة المقطعية – عند جوزف حرب – شاعرية بتنوع الصور المحفزة لشعريتها،وغالباً ماتكون الصورة المحرك الأساس لتفعيل قصائده جمالياً لتخلق متعتها وتناميها الجمالي،وغالباً ما يوظف الطبيعة بكل مظاهرها الجمالية من ظلال، وأخيلة، وألوان، وأطياف، وخطوط، ليخلق قصيدة اللوحة، لتبدو قصائده – وإن كانت مقطعية- أشبه بلوحات جزئية تمتزج فيما بينها في نسق اللوحة الكلية ،وهو ما يزيدها تنوعاً، وغنًى وخصوبة جمالية، لترقى مصافي الإبداع الفني الحقيقي، الذي يؤكد بقاءها الشعري الأصيل الذي لا يمحي بريقه أو يتلاشى.
________
ثقافات
ترمانيني، خلود، 2004- الإيقاع الّلغويّ في الشعر العربي الحديث،
دكتوراه، مخطوطة، جامعة حلب، ص 334.
( ) عيد، رجاء، 1995- القول الشعري (منظورات معاصرة)؛ منشأة المعارف بالإسكندرية، ط 1، ص 63.
( ) حرب، جوزف، 2009- أجمل ما في الأرض أن أبقى عليها، رياض الريس للكتب، ط 1، ص 440.
( ) المصدر نفسه، 441.
( ) المصدر نفسه، 442.
( ) المصدر نفسه، 243- 245.
( ) المصدر نفسه، 446- 447.
( ) المصدر نفسه، 448- 449.
( ) المصدر نفسه، 450- 451.
( ) المصدر نفسه، 452.
( ) المصدر نفسه، 453- 455.
( ) المصدر نفسه، 460.
( ) المصدر نفسه، 461.
( ) المصدر نفسه، 462- 463.
( ) المصدر نفسه، 464- 466.