آخر الأخبار

ما بين بكاء الحسين على أخيه العباس وبكاء جلجامش على انكيدو

ليس هناك شك في أن لواقعة الطف الإسلامية تأثير كبير في الوجدان العراقي ، وهذا نابع كما اعتقد من تأثير الإرث الطقوسي والبكائي لحضارة وادي الرافدين القديمة ، حيث تمثل طقوس التعزية والبكاء جزءا أصيلا من ذلك الإرث المفجوع بتفاهة الحياة وعدمية الموت وهيمنة الفوضى والخراب على الكون ، تماشيا مع النظرة الرافدينية المتشائمة والتي لا تؤمن بمبدأ البقاء بل الزوال ، الأمر الذي لمسناها في الكثير من الملاحم الأسطورية الرافدينية ، التي مثلت التخريج الفكري الأسطوري لتلك النظرة التشائمية ، كملحمة نزول عشتار إلى العالم الأسفل وموت تموز وملحمة جلجامش وغيرها .

ونظرا لان حضارة وادي الرافدين لم تخرج من الوجدان الشعبي بعد ، ومازال لبعض عناصرها هيمنة كبيرة على العقل العراقي ، لذلك حصل تماهي بين واقعة الطف الإسلامية وبعض عناصر ذلك الموروث ، لان الواقعة قد ايقضت بمأساويتها ارث الفجيعة القديم وغدت الممثل الحي له ، ولذلك لا غرابة أن نجد تشابها كبيرا بين أحداث النسخة الشعبية من واقعة الطف وبعض عناصر الموروث القديم ، كما هو الحال بالتقليد الذي يجعل أمد الواقعة عشرة أيام ، الذي يشبه احتفال العراقيين القدماء بعيد الاكيتو ، الذي يبدأ مع بداية السنة ويستمر مابين عشرة إلى احد عشر يوما ، أو لاحتفال بعرس القاسم الذي يشابه الاحتفال بطقس الزواج المقدس لدى العراقيين القدماء ، وحتى تلاوة مصرع الحسين يوم العاشر يشابه إلى حد ما التقليد القديم بتلاوة قصة الخليقة والصراع بين قوى الخير والشر يوم العاشر من عيد الاكيتو ، واستذكار فرحة الزهرة الذي هو استعادة لفرحة عشتار ( الزهرة ) بعودة تموز من العالم الأسفل ، ونضيف إلى ذلك أيضا بكاء الحسين الشديد على أخيه العباس ، الذي هو استعادة لبكاء جلجامش على أخيه بالتبني انكيدو ، إذ نلاحظ اهتماما خاصا بموضوع حزن الحسين على أخيه العباس ، مع أن الحسين آنذاك كان مشرفا على اللحاق به ، فهذا الحزن هو قرين لألم الفقد الذي تمثله الصورة الرافدينية التي يمثلها حزن جلجامش .. هذا الحزن الذي كان مغروسا في الوجدان الرافديني ، وكانت نسخته الرافدينية ماثلة آنذاك ، إلى أنها طمست بعد أن تقمصتها الملحمة الجديدة ونزعت منها ردائها القديم .

فالي حد ما ربط العقل الشعبي بين فداء انكيدو لجلجامش وفداء العباس لأخيه الحسين ، فهناك أكثر من سبب لهذا الربط ، أولا رباط الأخوة ، لان انكيدو قد غدى أخا لجلجامش بالتبني بعد إعلان ننسون أم جلجامش أمومتها له " يا انكيدو القوي الذي ليس من رحمي : قد اتخذتك منذ الآن ولدا ، ثم قلدت عنقه بقلادة من الجواهر لتكون موثقا منه وقالت له : ها أنا أتمنك على ولدي فأرجعه إلي سالما " ( ملحمة جلجامش . طه باقر . طبعة بغداد .ص 104 ) ثم موقف كل من انكيدو والعباس اللذان اظهرا ولاء شديدا واحتراما كبيرا لرابطة الأخوة ، العباس عندما رفض أمان العدو له ، ورفض التخلي عن الحسين وقت الشدة ، بل وفدى الحسين بنفسه بعد أن تقدم أمامه إلى المعركة ، وهو شبيه بما فعله انكيدو ، الذي أشارت الملحمة إلى انه كان يتقدم جلجامش ويدرا عنه المخاطر أثناء سفرهما إلى غابة الأرز الخطرة . وأخيرا حالة الحزن التي أراد الراوي الشعبي أن ينطلق بها إلى تلك الواقعة القديمة ، فيجعل منهما نسقا واحدا ، فجلجامش كان يبكي انكيدو بحرقة "من اجل انكيدو خلي وصاحبي أنوح نواح الثكلى انه الفأس الذي في جنبي وقوة ساعدي والخنجر الذي في حزامي والمجن الذي يدرا عني وفرحتي وبهجتي وكسوة عيدي " ( المصدر السابق . ص 126) وكذا فعل الحسين عندما بكى أخيه العباس حسب الرواية المتداولة ، حيث كان يردد " الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي وشمت بي عدوي ... الخ "

وبالتالي قد لا نغالي إذا قلنا : أن هناك تشابها كبيرا بين الصورتين ، ولعل الراوي الشعبي قد ربط بينهما بعد أن لمس هذا التشابه ، وأدرك قيمته بالنسبة لموضوع روايته ، فواقعة الطف ليست محض حادثة تاريخية ، وليست مرتبطة بأحداث تلك الواقعة المأساوية فقط ، بل هي استحضار لإرث قديم كان لابد أن يعبر عن نفسه من خلال موضوع ما ، الأمر الذي أنتج هذا التخليد الذي امتازت به الواقعة ، والذي نبع كما قلنا من ذلك العمق الوجداني القديم وليس من مجرد التعاطف مع الواقعة ، الأمر الذي يجعلنا نؤكد أن هذه الواقعة ما كان لها أن تبرز بهذا الشكل وتتخلد على هذا النحو ، لولا وقوعها في هذه الأرض القديمة وتناغمها مع ذلك الموروث الموغل في القدم ، وإلا فان فواجع كثيرة حصلت لم تحض بما حضت به واقعة الطف من تخليد ، كما هو الحال مع مصرع عبد الله بن الزبير وواقعة فخ وقتل الأسرة الأموية على يد العباسيين .

وأخيرا لابد أن نشير إلى أن نمط الحزن المرافق لواقعة الطف ، هو النمط الرافديني المتشائم من الحياة والمؤمن بعدمية الموت ، وليس ذلك النمط الذي يرى في الشهادة تخليدا جسديا وحياة أخرى ، وهذا الأخير ليس مختفيا بالتأكيد عند استذكار هذه الحادثة ، بل هو المعبر عن قالبها الإسلامي ، إلا انه ليس غالبا كما في ذلك النمط المترسب في أعماق أعماق الوجدان للشخصية العراقية .