يعسوبيات: طز فيكم يا شعوب الكلام
استهلال:
كعادته ينأى العربي عما يسميه جلد الذات كي يبقى متقوقعا في قشرته، ويحرم النقد ويغرق متورما في مستنقع الكذب على الذات وتصوير الموت البطيء حياة والخيانة على أنها وجهة نظر والتخلف بالقضاء والقدر، وذلك خوفا من الخروج من الحالة الراهنة لئلا تلفظ كل الواجهة من قراد الخيل الملتصقة بمؤخرات وقوادم الناس. وهذا المقال كسابقاته من اليعسوبيات لن يروق لحاكم ومحكوم لأنه سيشير للتقصير بلا مجاملة ولا تحوير. فإن أردت اقرأ أو توقف عن القراءة أو ابحثْ عن ملهاة "مؤتمرات الميجانا والدلعونا" وامض بربوعها بقية عمرك الفاني وحياتك المزرية بهناء.
توطئة - عفارم عليك وطز فيك:
لنوضح بداية كلمتين أساسيتين يحملهما الخطاب العربي ضمنا ولفظا، وخشية جهل بعض الخاصة والعوام بحيثيات الـ"طز" العربية ونقائضها، وجدنا ضرورة ملحة للتوطئة: "عفارم" لفظة تركية تقابلها "مرحى" بالعربية، أما "طُز" فهي مفردة تركية وتعني ملح الطعام. في عهد الحكم العثماني كانت قوافل التجار تخضع للتفتيش ودفع الضرائب ماعدا حاملي الملح، ما أن يلحظ مراقب الحدود المتعطش للرشوة عما يحمل التاجر حتى يكفهر وجهه وينادي على صحبه: "طز..!" أي ملح، لا فائدة منه ويمر حامله غير مرحبا به عبر الحدود بين الدول بسلام. وكل من يراد صرفه بسرعة يقال له "طز..!" أي غير مهم. وتجدلا الإشارة أن لا علاقة للخبز والملح مجتمعان في هذا المعنى.
طز بهكذا حياة يا عرب:
لا يعتبر الملح غذاء، لكنه زينة المائدة، وسيد البهارات، وتجده حاضرا بكل الطبخات مثل المخبرين وجواسيس الحكام بين السكان. ولولا الملح لما قدمت الوجبات وأطباق الشي بالكهرباء في منتجعات العرب مثل: الشيخ حسن، أبو زعبل، تدمر، شهار وكافة المصحات. وبما أني في بلد عربي يفسر فيه كل منا الأمور على مزاجه وينقلها للأمن المحلي منمقة ومعطرة ولئلا يظن عسس الليل أو زوار النهار أني أتعاطى السياسة – لا سمح الله – بدل الموبقات، لقد أوضحت آنفا للقاصي والداني قصة الـطز" العربية وأصولها العثمانية. إذ لا تمت بصلة للجماهيرية رغم استخداماتها الخضراوية. وعليه، طز بالجوع العربي يوم أشبعنا ضيف الغزال تمويتا، وطز بشخصي الكريم يوم طهيه في الرمضاء، وطز بنا جميعا يوم واروه الثرى وعاش شاويه يأكل الناس مملحين في الشام والحجاز والرافدين أو بلا تمليح. طز بمن قدم ظهره مطية يركبه المركوب، فنمنا وشبعنا وأشبعنا تمويتا وطز بالنائمين الغافين الذين هم على جراحهم صابرون.
الحرام والمباح عند العرب الأقحاح:
ما أكثر ما يفرق العرب واليعاربة من عاربين ومستعربين وشعوبيين ومستشعبين وجيرانهم من كرديين وفارسيين وعثمانيين بمختلف أديانهم وطوائفهم وتشاريعهم السماوية والوضعية، سوى أنهم متفقون على مسلمات تجمعهم في ظلالها دون أن يتفقوا. فالمرآة فاكهة ومتاع، والسياسة حرام، والوالي فوق الخصام والشعب نيام. يجمعون على تحريم المكروه والمحظورات، وتركوا الرسن على البرذعة ونأوا عن تفقد أحوالهم فتنطحها الفاهم والفهيم والفهمان وعافها سادة القوم فصار سفهاء الأمة سادة لها. نسمي خروجا على الوالي نعت الأخطاء، ويُخرج من الجماعة وتنزع كل قمص الطاعة عمن يقول بالعقيدة وأسبابها. فاسمحوا لي أن أقول بحرية وراحة ضمير: طز فيكم يا عرب مع الاحترام والتقدير..!
عربي قح أصيل:
كواحد من الذين غالبهم النعاس أمارس هوايتي المفضلة بالأحلام والتمنيات طالما الواقع استعصى علي وأمثالي من أبناء جلدتي النيام. بالكاد أرى نور الشمس، اتسكع ليلا حاملا نعش عروبتي المتهاوي على كاهلي واقتل النهار بالشخير قرب نعشي المكتظ بالحواري، ألتحف سماء الأرض وافترش رمال صحرائنا العربية، اقضم بنهم القيصوم والشيح والكيوان بوقعات مختلفات وما فوتت السواك بالأراك قبل وبعد الاستنجاء بالنفط العربي النقي، عملا بمقولة تطيبوا به ولا تشربوه.
استكردوني كما لو كنت أرمنيا بدار عثمان، نُقشت مأساتي على سحنتي وأكتب تاريخي العريق على كثبان الرمال المتنقلة وأعيد كتابة التاريخ كلما تحولت الكثبان. ومذ استنوقوا بعيري وأكلت العنزة غداء الراعي وكلبه فتعشياها صار جلدي طبلا يقرع صبحا وأصيلا فلا امتلأت القبور ولا قام نيام القوم. عفارم يا يعرب بن عربوب وطز فيكم يا شعوبا عرفت النوم ولم تسمع بالقيام..!
لكل مقام مقال:
دائما أحاول أن اكتب شيئا مفرحا يثير البسمة ولا يولد البغضاء، يفلح غيري وأفشل.
عزوت أحد أهم الأسباب لتسميتي للأشياء بأسمائها فلا يستساغ مقالي، إذ لكل مقام مقال، فمقال الأمس لا يناسب مقام اليوم لاعتبارات اجهل جلها وأدري بعضها. تبدلت المقالات والمقامات وفقا للحالات، أضف لذلك اعتياد الشارع المعلن والمستور تقبل واقع الأمور بلا تبرير ولتربيتنا "الراقية" جريرة كبيرة لنتطبع بأخلاقيات (الكلام للكنة لتسمع الجارة) .
من هنا أجدني ملمحا غبر مصرح خشية ألا تشد أذن بعيري المستنوق ككل الشعوب العربية والمتعايشين معهم من كورد وترك وفرس وأخص قسمهم الذكوري المسترجل، فالمخالف لنواميسه الوضعية يصير عبرة لمن يعتبر. وفي مثل حالتي يلجأ الكاتب للتستر خلف اسم مستعار كما كنت أفعل ومازلت ولا أراني مقلعا عن هذه العادة. كما لابد من القول أن نصف ما أقوله لا معنى له .. لكنني أقوله ليتمّ معنى النصف الآخر .. !!
تحذير: إن لم يفق الحاكم والمحكوم ويتناطح الصالح والطالح فتصريحي التالي قيد التعميم. وطز فينا جميعا مع التقدير والاحترام.
__________________________________
يعسوب الشامي، كاتب سوري – بوينس آيرس
yaassub@yahoo.com