آخر الأخبار

مواويل الفلاحين تغزل قصص الحصاد في الساحل السوري

 

لم يزل الكثير من أهل الساحل السوري ورغم دخول التقنية الحديثة إلى شتى مناحي الحياة اليومية يتبعون الطرق التقليدية في الزراعة والحصاد وتحضير المؤونة السنوية من الحبوب التي تشكل عنصرا أساسيا في النظام الغذائي لأهل الريف الساحلي حيث أن شهر تموز أحد شهور العمل الشاق الذي تتضافر فيه جهود أفراد العائلة بأكملها لإنهاء الأعمال الصعبة التي تعقب انقضاء مواسم الحصاد.

وذكر الباحث التراثي ابراهيم حيدر أن الطقوس التالية لنقل المحاصيل إلى البيادر كالتذرية والتتبين والتسليق وقشر القمح وطحنه وسواها مما يصار إلى إنجازه في هذا الشهر بمثابة محافل اجتماعية يلتئم فيها شمل العائلة لتقاسم العمل وفق طبيعته بين الرجال والنسوة و الأطفال على حد سواء وهو عمل يماثل في صعوبته جهد الفلاح في الحصاد الذي طالما اعتبر أحد الأعمال الأكثر مشقة حتى وصفته العديد من الأغاني الشعبية وتغنى به الموال الساحلي كما في المقطع:

محلا هالعصفور و محلا تغريدو .. ومحلا الحاصود المشمر زنوده

عاجبينو العرقان اللولو والمرجان .. وعاتمو الموال و عالمنجل إيدو

قوم نلم الزرع ونغني بيدرنا .. ونسرح نحو الكرم الحلوي عناقيدو.

وأشار إلى أن الجهد المبذول في الحصاد كان أيام زمان يختلف حسب نوع الحبوب المراد حصدها فقطف عرانيس الذرة هو الأسهل بين هذه الأعمال يليه حصاد القمح الذي يعتبر رغم صعوبته أقل مشقة من حصاد الشعير الذي يقل ارتفاع سوقه عن القمح ما يضطر الفلاح لمزيد من الانحناء و الحرص وخاصة أن لسنابل الشعير أشواكا حادة في نهايتها غالبا ما تعلق بالثياب وتجرح الأيادي التي تتخللها.

وأوضح أن الفلاح كان يضطر للزحف أرضا ليتمكن من اقتلاع العدس والحمص لا للانحناء وحسب وكان هذا العمل يجري في شهري حزيران وتموز حيث أشعة الشمس الحارقة ومعها رطوبة المناخ الساحلي في المناطق السهلية القريبة من البحر.

وتصف أغنية السكابا التالية هذا العناء في العديد من المواويل ومنها:

شوف الزين يمرط بعديسو .. انكسر ضهري و لا خلص عديسو

  يا ريتني كون شي فجة بقميصو بشهور الصيف و العب يا هوايا.

وأضاف أنه عقب انتهاء الحصاد ودراسة القمح يصبح المحصول عبارة عن تلال من القمح و القش المختلطين ببعضهما البعض وهنا تبدأ عملية فصل الحبوب والتي تسمى "التذرية" و هي من صلب أعمال الرجال في القرية وتبدأ هذه العملية لدى هبوب الريح الخفيفة فتملأ المذراة بكمية من المزيج الذي اختلطت فيه الحبوب والقش وتقذف بقوة إلى الأعلى فيتطاير القش بفعل الهواء وتسقط الحبوب إلى الأسفل وتستمر هذه العملية حتى تنتهي الكومة.

وتابع حيدر بأن التذرية هي عمل مرهق و يحتاج إلى عدد كبير من الرجال و لذلك فقد جرت العادة على استئجار عدد من شباب القرية ورجالها للمساعدة على إتمام هذه المهمة ولاسيما في البيادر الكبيرة التي تضم محاصيل وافرة .. و عقب انتهاء التذرية تبدأ عملية تجميع الحبوب في كومة منفصلة تجاورها كومة مماثلة من القش المدروس أو التبن.

وتقول إحدى الأغنيات الشعبية التي كانت تردد أيام التذرية:

كنا ندري بيدرنا .. و بالبيدر ما تأملنا

من حميد قطعنا أملنا..

سافر عاليمن لبعيد دمعي يبكي و دمعي يفيض..عذبوني على حميد.

وأشار إلى أن عملية التتبين التي تلي التذرية تتمثل في تعبئة التبن في أكياس خاصة لتنقل بعد ذلك إلى الأماكن المخصصة لها في المنازل و قد كانت بيوت القرية القديمة والمصنوعة من الحجارة والطين تضم غرفة خاصة لحفظ التبن فيها تسمى المتبن حيث يتم تفريغ الأكياس فيها عبر فتحة في السقف تسمى الروزنة.

أما في البيوت العصرية اليوم و حيث لم يعد من وجود للمتبن وللروزنة فقد بات التبن يخزن في إحدى زوايا الحظيرة المخصصة للدواب.. ويشبه الموال الشعبي الإنسان المتسرع متقلب المزاج والأهواء بذرات التبن المتطايرة لخفة وزنها كما في العتابا التالية:

بعدك يا حبيب القلب تبنا .. عن درب الهوى و الحب تبنا

حسبتك دهب تاري قش تبنا.. خفيف و تطيرك نسمة هوا.

بدورها تقول الباحثة التراثية فريال سليمة إنه و بمجرد دخول الحبوب إلى المنزل يبدأ عمل النسوة في تصويل القمح وسلقه وقشره وطحنه مع التأكيد على أن هذه الأعمال مازالت تمارس حتى اليوم بأدق تفاصيلها في العديد من البيوت الريفية وإن على نطاق ضيق فيعمد إلى تصويل هذه الحبوب وغسلها بالماء لإزالة الشوائب التي تعلق بها أثناء العمليات السابقة ولاسيما التراب والحجارة.

وقد وصفت الأغنية الشعبية هذه المرحلة من العمل كما في العتابا القائلة:

شوفا بتصول حبا.. قلبي من جوا حبا.. ليش خلقنا يا ربا ..كله تعب عاشاني.. و يقول موال آخر:

شوفا عالبير بتصول..عزمتني و قالت حول..يا ربي العشرة تطول..أنا و ريم الغزلاني.

وأضافت سليمة أن السلق يتم بواسطة دست كبير كان فيما مضى يرفع على موقد من الحطب ويستمر السلق ليلة بأكملها يتم فيها إشعال النار كلما خبت و تجديد كميات الحبوب التي يفترض بها أن تكفي لعام كامل .. بعد ذلك توضع الحبوب المسلوقة في سلال كبيرة مصنوعة من أعواد الريحان وتترك حتى تبرد و يصفى ماؤها لتفرش بعد ذلك على مصاطب إسمنتية مفروشة بقماش قطني نظيف في مكان تأتيه الشمس من كل صوب وغالبا ما يختار سطح البيت لهذا الغرض وتقلب الحبوب المفروشة بين الحين و الآخر حتى تجف بشكل كامل.

وذكرت أنه و بعد أن تجف الحبوب تماما تبدأ عملية التقشير باستخدام جرن حجري كبير يوجد عادة في إحدى ساحات القرية ليتمكن كافة أهل الضيعة من استخدامه و تجري هذه العملية برش كمية من الحبوب المسلوقة في الجرن الحجري وتدق بواسطة قطعة خشبية أسطوانية الشكل عادة ما تتواجد في كل منزل في القرية وتسمى "المجنة" وهي عبارة عن هراوة غليظة مصنوعة من خشب السنديان و تزن حوالي الكيلوين.

ولفتت سليمة إلى أن دق الحبوب المسلوقة بشكل متواصل يؤدي إلى انفصال القشر الرطب عن اللب و عندما يحدث هذا تجمع الكمية المقشورة لتستبدل بأخرى وكانت بعض القرى تعمد إلى استخدام الباطوس المستعمل لطحن حبوب الزيتون لقشر القمح في حال توفره في القرية بعد ترطيب الحبوب بقليل من الماء و تدوير الحجر العلوي له بواسطة الإنسان أو أحد الدواب المتوافرة.

وقالت إنه عادة ما كان يشترك أكثر من شخص في عملية قشر الحبوب من العائلة نفسها أو من الجيران و الأقارب نظرا لما يتطلبه هذا العمل من وقت و جهد كبيرين ولو أن النصيب الأكبر من العمل كان يقع على عاتق الرجال و كانت النساء تساعد في هذه العملية كل حسب استطاعتها ويعتمد عدد الأشخاص على مساحة الجرن الحجري الموجود في القرية.

وبعد عملية التقشير تبدأ مرحلة تجفيف البرغل و طحنه كما أوضحت سليمة حيث يعاد نشر الكميات المقشورة من الحبوب و فرشها تحت أشعة الشمس و بعد تمام جفافها من الماء تقوم النساء عادة بإعادة ذريها مرة أخرى للتخلص من القشر العالق بها و الذي يكون قد انفصل تماما عن اللب بعد تجفيفه ثم يعبأ في أكياس وينقل إلى ما كان يسمى في البيت الطيني التقليدي بـ "العنبر" المخصص لحفظ الحبوب سواء من القمح أو البرغل أو الحمص أو الذرة أو العدس.

أما مرحلة طحن البرغل أو ما يسمى بـ الجرش فقد جرت العادة على أن تقوم ربة المنزل بطحن كمية البرغل المعدة للطهي يوما بيوم سواء للحصول على مطحون ناعم أو خشن على حد سواء و ذلك بواسطة الطاحونة المنزلية المسماة بـ الرحية .. و تصف الأغنية الشعبية هذه المرحلة من العمل فتقول.. شوفا تجرش برغل جرش..جرشت لحمي و عظمي جرش .. لمن صاحوا ديوك العرش ..كنت بحدا غفياني.

رنا رفعت