آخر الأخبار

حساسية الرموز

كأي مهتم بالسياسة الدولية، كنت أتابع اجتماع رؤساء دول الاتحاد الأوروبي، واختلافاتهم في البداية على انتخاب مرشح ليكون رئيسا للمفوضية الاوروبية، إلى أن تم الاتفاق بعدها على انتخاب رئيس وزراء البرتغال الحالي بعد تحقيقه لشروط الدول الأوروبية، ولكن ما لفت انتباهي هو أنه حقق الشرط الفرنسي بإتقانه اللغة الفرنسية.
عدت بذاكرتي إلى مدى حساسية الفرنسيين للغتهم، وكيف أنهم كانوا يصرون على تكلمها في المحافل وقد تم سؤال ديغول مرة، لماذا يتكلم باللغة الفرنسية عند اجتماعه مع تشرشل ويؤدي ذلك بالضرورة الى وجود مترجم، مع العلم أنه (أي ديغول) يتقن الانكليزية، فما كان من ديغول الا أن قال أن ذلك يعطيه فرصة خلال مرحلة الترجمة من الانكليزية الى الفرنسية ، لاعداد الجواب المناسب، اضافة الى كونه فرنسيا، ولا يجب أن ننسى، انه في احدى المرات عندما سمع النشيد الفرنسي (المارسلييز) وكانت زوجته برفقته، همس في أذنها قائلا "ايفون، انها اغنيتنا المفضلة". ولا ننسى انه في احدى المؤتمرات رفض الدخول الى القاعة لعدم وجود علم فرنسا، مما ادى الى تأخير الاجتماع لحين تأمين علم تمت خياطته على عجل.المنتديات الدولية، ولا ننسى أن الكاتب الفرنسي الكبير فيكتور هوغو - صاحب رواية البؤساء الذائعة الصيت -، كان في فترة الامبراطور الفرنسي نابليون الثالث، قد خرج من فرنسا طواعية، واستقر في قرية انكليزية لمدة تسعة عشر عاما، وكيف أنه عند عودته الى باريس من منفاه الاختياري، قام الفرنسيون باستقباله بمسيرة كبيرة تجاوز عدد المشاركين بها المليون، وبعد فترة انتبه الكثير من الناس أن شاعرهم وكاتبهم الكبير لا يتكلم اللغة الانكليزية، فاستغربوا ذلك وهو الذي عاش في الريف الانكليزي مدة تسعة عشر عاما، فسألوه عن السبب فأجاب، انه لايريد شيئا من انكلترا ولكن اذا كانت انكلترا تريد شيئا منه فقد كان لديها تسعة عشر عاما لتتعلم اللغة الفرنسية.
هكذا يتعامل الفرنسيون باحترام مع رموز وطنهم من لغة وعلم، ولاجل هذا لم استغرب موقف الرئيس الفرنسي جاك شيراك من اصراره على أن يكون رئيس المفوضية الاوروبية متقنا للغة الفرنسية. ولا أكون مبتعدا عن الحقيقة عندما اقول أن الفرنسيين يحاولون الاستفادة من كل رمز لتأكيد وطنيتهم، ففي 28 حزيران 1919 في نهاية الحرب العالمية الاولى والتي انهزمت فيها المانيا، تم التوقيع على معاهدة فرساي في قاعة المرايا في قصر لويس الرابع عشر بضاحية فرساي، علما انها نفس القاعة التي شهدت قبل48 سنة تأسيس الامبراطورية الالمانية على انقاض الهزيمة الفرنسية.
أقول ذلك، بعدما أحرجني أحد الصحافيين الانكليز الذي كان في سورية لاجراء مقابلة مع احد الوزراء بقوله، أنه انتبه لوجود الكثير من الاعلام السورية، ليس فقط في الوزارة بل في في كل مكان زاره، ولكن مما لفت نظره، أن هذه الاعلام كانت بحالة مزرية من عدم النظافة ومن التمزيق. ولا اود أن اخفي خجلي من ذلك، وقد شدتني ملاحظته الى متابعة كل الاعلام السورية المنتشرة في مدينتي حلب (على الرغم من وجود تعميم قديم صادر من محافظ حلب) ، ثم في سورية وأخيرا في سفاراتنا في العواصم التي أسافر اليها، وللاسف فقد كان اغلبها ممزقا واللون الابيض اصبح رماديا فاتحا، وحسب علمي، لم يتغير اللون الابيض في علم البلاد الى الرمادي بعد.
منذ مدة سافرت الى إحدى العواصم المهمة، وكانت لي صدفة مخجلة بين علم السفارة السورية وبين أعلام الدولة التي سافرت اليها، كان العلم السوري خجولا بصغره ، غير نظيف ، واللون الأبيض فيه أصبح رماديا، ومقابله علمين كبيرين نظيفين للبلاد .
ماذا ينقصنا لكي يتم التركيز على نظافة الرمز الوطني الذي نقف أمامه بكل احترام ، والذي يمثل أقل شيء ، صورة عن البلد ، .... صدقوني إنهم لا يهتمون بنظافة سياراتنا ولا بابتسامات سفرائنا ، بقدر ما يهتمون بنظافة رمزنا وسفاراتنا المترامية في بقاع العالم .
اللهم عفوك
اللهم اشهد اني بلغت

*مستشار المفتي العام في سوريا.