لقد عمل الإعلام العربي منذ تأسيسه على وظيفة توحيد الأفكار و إذا كان وقت ظهوره قد لاءم مرحلة سيطرة الإيديولوجيات و هموم إرساء الهوية بعد استقلال العديد من الدول العربية فإنه خلال العشريتين الأخيرتين قد صار يدعو لاستنساخ نماذج تزداد ضحالة و خواء يوما عن يوم و تقطع الطريق أمام كل مشروع تحديثي ثقافي مُجتمعي يمسّ كافة المجالات فضلا عن مجال الثقافة فالخطاب العربي السائد عاجز عن تجاوز مَقولاته و شبكة المفاهيم التي يرى من خلالها نفسَه و العالم كما أن غياب الخطاب النقدي عموما في مجال الثقافة و غيره من المجالات الأخرى ما فتئ يُكرّس المُعيقات نفسها التي كنا نتحدث عنها منذ عقود و لم يتغير شيء رغم كل الحبر الذي يَسيل و كل الكلام الذي قيل ممّا دعا الكثيرين إلى القول بِمَوت المثقف و ليس ذلك إلا لأنّ المثقف قد نصّب نفسه منذ عقود جنديا يذود عن مقومات المجتمع بكل ما أوتي من فصل المقال و هو ما يذكّرُنا بِدَور الشاعر في القبيلة كما أنّ المثقف الذي نَسَبَ لنفسه وظيفة التنوير لم يفتأ يجد نفسه فريسة مآزق تسببها التحولات المفاجئة للواقع الذي جعل السياسة و الاقتصاد يقودان القاطرة و هكذا نجد الشخصيات السياسية و الفنية و الرياضية في الواجهة في حين يتأخر طابور الثقافة و قد يستغني المجتمع العربي عن عربة الثقافة في هذا القطار المجنون الذي بدأت عرباته في الانفصال الواحدة تلو الأخرى حتى صار المال الذي لم يكن يوما قيمة في حدّ ذاته هو المحدد لقيمة الأشياء و العلاقات في عصرنا.
و إذا كنا نتحدث عن النخبة المثقفة و دورها في قيادة المجتمع أو تنويره أو حتى حراسة قيَمِه فعن أيّة نخبة نتحدث، هل نتحدث عن النخبة الجامعية التي صارت القلة النادرة منها تتمسك بالمباحث الخاصة بهوية مجتمعنا و أساليب تطويرها و تجدها من جهة أخرى تنكبّ على دراسة آثار الأمم الأخرى و تنتج الآثار تلو الآثار في مدح خصالها و الاضافة إلى آدابها و أفكارها في حين تعزف عزوفا تاما عن دراسة تراثها من خلال تلك اللغات الأجنبية التي تتقنها و إذا تناولته فهي لا تسلط عليه النقد الكافي لأن المواضيع الشائكة تتقاطع حتما مع الدين و السياسة و لا تملك هذه النخب الجرأة على طرحها إما بسبب القمع السياسي أو بسبب التطلع إلى المناصب السياسية أو ربّما لأن هموم الهوية في حد ذاتها لم تعد من المباحث الضرورية في عصرنا. أما النخبة المثقفة التي تتكون من مثقفين تهمّشهم الدولة أو تكرّسهم كأبواق دعاية لمشاريعها (إن وُجدت) فإنها إما لا تملك القنوات الاعلامية و المنابر الثقافية لإيصال أفكارها أو أنّ لا أفكار لها غير ما يُطلب إليها ترويجه و كِلا النوعين لا يمارس الديمقراطية داخل النخبة ذاتها و بين المثقفين من نُخب مختلفة رغم مطالبتهم الآخرين بها و هذا ما يُثبت عدم جدوى حصر الأفكار في نخبة معينة تملك الحقيقة و بِيدها الحل و العقد.
لقد شغل المثقف اليديولوجي نفسه بالحل دون أن يهتمّ أوّلا بِرصد التحولات التي تحدث للمجتمع و تُغيّر من ملامحه في فترات وجيزة و تجعله ينتقل من مرحلة إلى مرحلة قفزا و دون حساب للخطوة القادمة أو تمحيص للخطوات السابقة كما أنه لم يهتم بنقد مساره في ضوء التغيرات الثقافية التي تحدث في العالم بأسْرِه و التي جعلت المثقفين في كل العالم يُراجعون موقعهم التاريخي و الجغرافي في العالم و يُحرزوا على العالمية من خلال آثارهم التي تعكس رؤية متقدمة لأنفسهم و للعالم.
من المؤسف أنّ المجتمع العربي و رغم تاريخه الذي يزيد عن 15 قرنا إلا أنه لم يصل مرحلة النضج الفردي و لم يُخرج لاشعورَه من بوتقة المحظور و التأثيم فسيطرة الأنا الجماعي ما تزال عظيمة و قد شهد القرن الفارط إجهاض أجيال بأكملها كانت تحاول التعبير عن فكر مختلف و وجه مختلف للثقافة العربية و الفكر العربي و قد جعلها ذلك تدفع أثمانا باهظة من الجوع و الإقصاء و السجن. و إذا كان الخطاب العربي قد انشغل و مازال منشغلا بالآخر الغربي فإن هذه المسألة قد طرحت نفسها بقوّة على حساب مسائل أخرى جوهرية كان من الضروري أن توضع على طاولة النقاش تختص بفهم ذواتنا قبل مقارنتها بالآخر و السعي إلى فهمه و القطه في خصوصه بالمدح التام أو القدح التام: إننا نقدم أنفسنا للآخر بما نحن مَاضٍ أما الآخر فيأبى أن ينظر إلينا إلا كما نحن عليه الآن.
و إذا تساءلنا هل الفرد العربي غائب أم مُغيّب؟ نقول الاثنان معا. و إذا تساءلنا هل اللاشعور العربي قائم على الشعور بالإثم أم على التأثيم المتبادل؟ نقول الاثنان معا. و إذا تساءلنا هل على النضج الثقافي أن يكون فرديا أو جماعيا؟ نقول الاثنان معا. إن المجتمع العربي مجتمع أبوي بصفة عالية جدا، أرضيته النفسية ملائمة لتوثين الأشخاص و الأفكار و الزمن الماضي و لهذا تجده لا يحتفي بفرد من أفراده إلا إذا احتفى به "الآخر" (و وفق الشروط السياسية أحيانا) و لا يحتفي إلا بمن وصل مرحلة الشيخوخة أو صار في عداد الأموات (إلا إذا حصل على البوكر أو غيرها و صارت كتُبه تحقق أرقاما أو صارت قابلة للتحويل إلى بضاعة سينمائية) أما أن يحتفي بِمُبدع مازال في طور الانجاز و التأثير فذلك لا يدخل في إطار التقاليد الثقافية للمجتمع أو المؤسسة. إن انشغال المثقف العربي بالحل الشامل مَشغَل زائف يتعداه لأنه لا يُمكن أن يٌُلِمّ بكل الميادين و حتى و إن وُجد "الحل" فإنه يظل متخارجا عن المُجتمع ما لم يقتنع به كما أن الرؤية الثقافية ليست المُحدد الوحيد لسيرورة المجتمع بل الاقتصاد و السياسة و الدين و الموضة العالمية في الأكل و اللباس و الموسيقى و السلوك الاجتماعي التي تشكل نوعا من الثقافة "البديلة" المستوردة التي تهدف إلى تنميط عالمي للانسان يجعل من الهوية مجموعة من ردود الأفعال الآلية تجاه الهاتف المحمول و أكشاك السندويتشات و العلاقة مع الجنس الآخر و الأبناء و حاجاتنا الأكثر خُصوصية أحيانا فالاعلام المرئي يحشو ذاكرتنا البصرية بكل ما من شأنه أن يتحول في لاشعورنا إلى سلوك يجد محلّه كلما سنحت الفرصة لذلك، اضافة إلى أن الرؤية الثقافية إذا لم تكن تأخذ الواقع بعين الاعتبار و اُكتَفتْ بالُمُثل و الأفكار فإنها لن تجد تطبيقا لها في المُجتمع و إذا تكلمنا عن النُخَب في مجال الثقافة فإن علينا الحديث عن النُخَبة السياسية و الاقتصادية التي تشكّل كُتَلا للضغط و التي تتجاذب التأثير مع النخبة الثقافية التي يقع تكريسها و التي تتألّف من بعض رجال (و نساء) الثقافة و الفن و الإعلام البارزين في اطار التآمر على موارد الشعب و إضفاء كل منهم المشروعية على الآخر.
إن الصحوة الجماعية في هذا المستوى موجودة و لكنها تتطلب وقتا طويلا لتتبلور، وقتا قد لا نُسعَف معه بالقدرة على "هضم" الجديد المُتلاحق و الذي يضع كل يوم ثوابتنا و مقوماتنا على المحكّ و يدعونا إلى مساءلتها كما قد لا يُسعفنا برؤية مشاريعنا تتحقق فترانا نغمض عيْنا و نفتح أخرى لنعيش يومنا متجاهلين غدًا نجهله و لا نتوقع أن يكون أفضل و ماضِيًا صار أكثرنا لا يعلم شيئا عنه فالحضارة الأقوى قد تكفلت بِرَدم كل ما عَداها مُرسِلة في كل يوم بضائع فكرية متخارجة عنا جعلتنا في موقع مأزقيّ بين نُكران الذات و رفض "الآخر".
29 سبتمبر 2009