آخر الأخبار

الغرب و الاسلام

في الوقت الذي كانت فيه القارة الأوروبية تشهد ذروة التخلف و الانحطاط و الاستبداد و الاستغلال و الحروب و المجاعات كان العالم الإسلامي من دول عربية و ناطقة بالعربية يشهد، بتفاوت، أوج قوّته و ازدهاره بل قد شكّل الإسلام في فترة ازدهاره متحفا انسانيا تتجلى فيه خصوصية الحضارات التي اعتنقت دين التوحيد فكان الفنان المعماري (الفارسي أو المغاربي أوالأوروبي أو الآسيوي) مُخضرما يأخذ من الروح الاسلامية و يضيف إلى العمل من روحه و هكذا كانت العلوم التي ترجمها المسلمون عن اليونان أساسا و طوّروها و أضافوا إليها من علومهم التي ساهم في تطويرها أساسا مبحث القِبلة الذي جعلهم يُطوّرون الجبر و الهندسة و الفيزياء و علم الفلك ليعرفوا اتجاه القِبلة في كل البلدان و يبنوا المساجد و يُحددوا إضاءتها و مسار الصوت فيها إضافة إلى اشتغال العلماء المسلمين بالطب و الموسيقى و الفلسفة و علوم اللغة. هذاالدين الذي ازدهر بسبب الانفتاح على الآخر في إطار التفاعل و الندية لا في إطار الضعف و الخنوع صار يجد مناصرين لقيّمه من الدول القوية سواء تعلق الأمر بالشعوب أو بعض الحكومات فلم يعُد خافيا اعتناق الاسلام من قِبَل نسبة كبيرة من افراد الشعوب المسيحية في أوروبا و أمريكا و آسيا و انكبابهم بعزم كبير على تعلم اللغة العربية و ترجمة بعض آثارها إلى لُغتهم كما لا يَخفى أن بريطانيا قد أدرجت بعض أحكام الاسلام في فصولها القانونية الخاصة بالإرث كما أن بريطانيا و فرنسا قد التجأتا إلى ما يُسمّى بالبنوك الاسلامية لمجابهة الأزمة المالية الحادة التي يمرّ بها العالم. إن الشعوب الغربية بما توفّر لها من التحضر المادي و الفكري التي دفعت ثمنه غاليا من تاريخها و دمائها و مازالت تدفع بسبب عديد المغالطات التي تتخبط فيها بسبب الفراغ القيمي و التي تستفيد منها الشركات العملاقة التي تبيع الوهم في مختلف البضائع الاستهلاكية التي تهتم فيها الشركات ببيع "أسماء" المنتوجات بقطع النظر عن نوعية البضاعة فالاسم يشكل فرقا في وعي المستهلك و لاوعْيِهِ و هو الذي يجعله يُدخل يده في جيبه ليدفع المال أو لا يدفع فارتباط البضائع بأسماء تحيل على معاني الخلود و الحرية و الراحة و البذخ و الرغبة و السيطرة و الأنانية و الجاذبية و الصحي و الطبيعي و اللامحدود تجد في ذائقة المستهلك الغربي وقعا كبيرا بالإضافة إلى الصُور التي يقع تداولها على أغلفة البضائع و الاعلانات الاشهارية التي تضع كل امكاناتها لوضع هذه الأوهام في سياقاتها الثقافية.
و قد وَعَتْ نسبة كبيرة من هذه الشعوب بالمآزق القيمية التي تردّت فيها بسبب هذا الأخطبوط الاقتصادي الذي يُشكّل حياتهم و يقتل فيها روحانيتها و ليس ما أعنيه أن الإسلام ليس إلا رُكنا روحيا مُكمّلا لحياة الغرب التي صارت تتصف بالآلية بل إنّ تعرّف أصحاب هذه التجارب على الإسلام كان من قبيل الشعور بالمعنى في عالم يكون فيه "الآخر هو الجحيم" لأنه لا يَدين بِدِين الواحد و يسمح لنفسه أن يستعبد الآخرين لمجرّد أنه في حدّ ذاته عبد لمنظومة اقتصادية و اجتماعية كاملة لا تعترف بالدين الاسلامي (كظاهرة دينية خاصة في مجموعة الأديان)كمُنظم للعلاقات و المُعاملات فالدين الإسلامي دين دقيق قد نظم فيه الخالق كل وجوه الحياة من خلال القرآن العظيم و سُُنة الرسول الكريم و هذا الدين يُناسب طبع هذه البُلدان القوية في النظام و الدقة و العدالة و حاجتها إلى استعادة علاقاتها الروحية معا و الشعور بانسانيتها الحقيقية و هي أن تكون عبدا لله فقط لا لقوى المُجتمع الداخلية و الخارجية و إذا كان هذا القرنُ قرنَ الصراعات الدينية فإنه ليس قرنَ الدين لأن هذه الصراعات لا تعدو أن تكون صراعات اقتصادية-سياسية تتخفى وراء جُبّة الدين لتكتسب أتباعَ جُدُدا لكن سيأتي يومٌ لن يكون بعيدا يستيقظ فيه المسيحيون بالولادة على سؤال الثالوث المُقدس و يعرفوا ان عيسى عليه السلام عبد من عباد الله و ليس ابنا لله (تعالى عن ذلك عُلُوّا كبيرا)و غير ذلك من الأسئلة الجوهرية التي تطرحُها الأدبيات الدينية المسيحية و سيُساعدهم تراث الحرية و الديمُقراطية الذي اكتسبوه طيلة قرون على جعل مُجتمعاتهم تتعرّف شمس التوحيد و سنجد الشعوب الغربية اكثر دفاعا عن الإسلام من الشعوب المُسلمة بالولادة لأن الذين ينسبون التشدد و الخنوع للإسلام ينكرون خصائص المُجتمع و تقاليده التي تُمارس ضغطها باسم الاسلام في حين أن الدين بَراءٌ من ذلك ألم يكن "الملك النجاشي" واحدا من هؤلاء الأسياد الذين دافعوا عن الاسلام رغم الاختلاف في حين أن الشعوب العربية لا تُدرك قيمة العلم و المعرفة و تضرب عرض الحائط بكل ما أنتجهُ عُلماؤها و مفكروها و فلاسفتها و تستسلم لمغالطات الاعلام و السياسة بحجة اللهاث وراء لقمة العيش، لماذا لا تُدافع الشعوب العربية عن ثقافاتها المحلية؟ لماذا لا تقف في وجه الثقافة الهابطة و تفرض على وسائل الإعلام حجْبها في مقابل تكريس الثقافة البناءة التي تُشبع إنسانيتها و خصوصيتها و تدفعها للإيجابية؟ لماذا لا تقف في وجه الرداءة و الزيف و الانحراف الذي يذهب ضحيتها الشباب من أبنائها؟ لماذا تميل شعوبنا مع من يميل و لا تُسائل نفسها عن البديل لهذه الحالة الفوضوية من الوجود؟
إن الإسلام دين الإنسان و ليس دين العرب فقط و لا ننسى تلك القولة الشهيرة "رأيت إسلاما بلا مسلمين و مسلمين بلا إسلام" ألا تكون الشعوب الغربية في مُقارباتها النقدية لواقعها و واقع العالم أقرب إلى الإسلام منا؟ ألا تكون الشعوب الغربية في حرصها داخل المجتمع الواحد على تكريس الديمقراطية و العدالة و الحرية و في مساندة قضايا التحرر أقرب إلى مبادئ الإسلام منا؟
إن التشدد الذي تتصف به الدول العربية و الذي وصل حدّ العنف المادي فضلا عن الأدبي في التعامل مع اختلافاتها حتى داخل المجتمع الواحد و كبت الحريات الذي يبدأ من القاعدة الاجتماعية الأولى قبل ان يصل إلى المستوى السياسي كفيل بأن يخنق الاسلام داخلها و كل فكرة حقيقية و ممارسة حرّة للفعل و الفكر.

30سبتمبر2009