آخر الأخبار

المسيح السيد وتجسّد الإله في الميثولوجيا

 المسيح السيّد / الفادي و تجسُّد الإله بجسم إنسان في الميثولوجيا الرّافدينية الكنعانية، أصل عبارة "قام حقاً قام"

* د. سام مايكلز Dr. Sam Michaels و د. هيثم طيّون Dr. Hitham Tayoun و مُشاركة: ماريا جيراي كير

مقدمة:

لا أحدَ يعلمُ ماذا حدثَ منذُ سبعة 7 آلاف عام، هل حدث فيضانٌ أغرقَ التّجمّعاتِ البشريةِ الأولى أو وقعت حربٌ ضروس بين حضاراتٍ وصلت بالعلمِ إلى ما يفوقَهُ عقلنا على تصوُّرِهِ و أعادت البشرية إلى نقطة الصفر، أو قليلٌ من هذا و شيءٌ من ذاك؟!! مهما يكُن الأمر فمن هذا الصفر ظهرت الحضارة و الأساطير الأولى في التاريخ المكتوب في سومر على ضفافِ نهري دجلة و الفرات، التي أُنتجت الديانة الأولى الّتي تطوّرت و انتشرت إلى باقي أجزاء الهلال الخصيب و اتّخذت عدّة أشكال لم تختلف بالمضمون. و أحد أشكال هذه الديانة القديمة كانت البولوثنيّة الكنعانية الفينيقيّة التي تتشابه مع المسيحيّة بالفكرة و العِبرة و الشّخصيّة، بين الإله (أدون) و يسوع المسيح, بين صِراع الإله في جبالِ لُبنان و تجلّي المسيح على جبال حرمون, سنتبع هذا التشابه بهذه الرّسالة من خلال تحليل الشّخصيات الإلهية للإله (أدون)

من أين أتى إسم المسيح "السيّد The Lord" في الديانة المسيحية؟! كيرولس (كيرلُّس) و الإله زوس / زيوس:

ارتبط إسم كيرولس بالإله زوس / زيوس Zeus لأن زيوس عند الإغريق هو رب الأرباب و ملك الملوك و ملك الشعب، فإسم كيرولس مُشتق من κυριος بمعنى (سيّد) أو (قائد) و في بعض الأحيان تأتي بمعنى (نبيل)، مثلاً Μεταγενέστερο κύριο όνομα προερχόμενο από τη λέξη κύριος، و أيضاً رافق إسم كيرولس بعض القادة العسكريين و حُكّام عصر الطُّغاة في اليونان القديمة. في اليونانية العامية و اليونانية الحديثة إسم كيرولس مُشتق من Κύριε بمعنى سيّد (سيّدي). لكن بعد انتشار المسيحية أصبح الوضع مُختلفاً تماماً، فقد رفض المسيحيون إطلاق إسم كيرلُّس أو صفة ملك الشّعب أو السّيّد على الإله زيوس لكنهم أطلقوها على المسيح: From the Greek name Κυριλλος (Kyrillos) which was derived from Greek κυριος (kyrios), meaning "Lord", a word used frequently in the Greek Bible to refer to God or Jesus

و الإسم في اللغة اليونانية و اللاتينية هو Κυριλλος Kyrillos

و عند تقسيم الإسم إلى مقاطع:
Κ, Κυ, Ku, Κυρ, Kyr, Κυρι, Kyri, Κυριλ, Kyril, Κυριλλ, Kyrill, Κυριλλο, Kyrillo, Κυριλλος, Kyrillos, Μεταγενέστερο κύριο όνομα προερχόμενο από τη λέξη κύριος

و هناك تصريفات عديدة لإسم كيرولُّس سيّد الشّعب أو النّبيل للمذكر و المؤنث في اللغة اليونانية: Κύριλλος (mas), Κυρίλλου

و الإسم في اللغات المختلفة Related Names:

VARIANT: Cyrille (French), DIMINUTIVE: Cy (English), FEMININE FORM: Cyrilla (English), OTHER LANGUAGES/CULTURES: Cyrillus, Kyriakos, Kyrillos (Ancient Greek), Kiril (Bulgarian), Kyriakos (Greek), Ciriaco, Cirillo (Italian), Cyriacus (Late Roman), Kirils (Latvian), Kiril, Kire, Kiro (Macedonian), Cyryl (Polish), Ciríaco (Portuguese), Kirill (Russian), Ciril (Slovene), Ciriaco, Ciríaco (Spanish), Kyrylo (Ukrainian)

"كريوس" باليونانية هو لقب بمعنى السّيّد النّبيل يُطلَق على الرجل للإحترام، مثل كلمة "مستر" بالإنكليزية و تُلفظ "كيري يوس" و تُجمع الكلمتين فتخرج "كيريووس" و لأن اللغة اليونانية هي اللغة التي كانت سائدة في جميع مناطق الأراضي المقدونية و المدن الألبانية التي كانت واقعة تحت الحُكم البيزنطي لهذه الإمبراطورية الكبيرة و امتدادها مع الإمبراطورية الرومانية، فقد دُمجت التّسمية و تمّ تخريج الأسفار من الإناجيل بهذه اللغة. و بحسب المُعتقد المُتوارث بقدسية الآلهة القديمة لآلهة الإغريق فإنّ زيوس كان سيّد أو كبير الآلهة في ذلك الزمن فبقيت بعدها عالقة بأذهان و بوعي الشعوب بأنّ لكل مقام هناك سيّد المقام الأكبر، و لهذا فإنّ جميع المُعتقدات قد تأثّرت بالموروث الإجتماعي لتلك الحقبة الزمنية، ثمّ توارثتها الأجيال بكون الإله يستطيع أن ينزل على الأرض و أن يتزوَّج من البشر و من ثمّ ينتج نتيجة هذا الزواج إبن يحمل صفة الإله مثل هرقل كما في الأسطورة الإغريقية. ثم انعكست هذه العملية الأسطورية على الديانة المسيحية بجعل صفة إبن الله / زيوس هي صفة اللاهوت و النّاسوت، أي أنه كان يحمل صفة البشر و الآلهة معاً، و كما جاءت كلمة "خريستوس إينستي" في اللغة اليونانية أيضاً و ترجمتها كما يلي: "خريستوس" هو إسم معناه إله و كثير من الأسماء الدّارجة في اليونان هو إسم "خريستو" مثل إسمي "محمد" و "علي" في العالم العربي و الإسلامي، و هو مُختصر لكلمة "خريستوس" و تُطلق على الأشخاص العاديين كأي إسم عادي، و كإسم "مخيليوس" الذي يُختصر ب "مخيلي" أو "مكيلي" و معناه ميخائيل (أو ميكائيل / مايكل باللغة الإنكليزية لكونها لا تملك حرف الخاء)، و كلمة "إينستي" و تعني (قام)، أي (نهض من الموت) أو (الذي ينهض من الموت وقت القيامة)، فأصبح معناها: "اليوم الذي نهض من الموت أو قام من الموت في يوم القيامة" و تنطق هذه العبارة باليونانية "إليثيا إينستي" بمعنى: "حقيقة أنه قام" أو " قام حقاً قام" و هي ذات العبارة التي يردّدها جموع المؤمنون المسيحيون حول العالم إلى اليوم مُعتقدين بأنّها حقيقة ثابتة لا تقبل الشّك أو النّقاش و الجدل!!

أسطورة الفادي و تجسُّد الإله بجسم إنسان:

شُغِفَت شعوب حضارات ما بين النهرين و وادي النيل القديمة بمسائل الموت و البعث و الخلود و أهم ثلاثة أفكار أو أساطير أتت بها كانت فكرة نزول الإلهة إنانا / عشتار (في الهلال الخصيب) و إيزيس (في وادي النّيل) و من ثمّ إبنها أو زوجها / بعلها من بعدها الإله دو مو سين أو دوموزي أو تمّوز (في الهلال الخصيب) / بعل - أدد أو هدد أو حدد / أدون أو أدوناي أو أدونيس (في كنعان - فينيقيا) / أوزوريس و حورس-رَع (في وادي النّيل) من علياء السماء العلية العالية إلى الأرض و تجسّدها أو تجسّد إبنها الإله بجسم إنسان و بفكرة ضرورة موتها أو موته لفداء البشرية من الخطايا و تخليص الجنس البشري (الإله الفادي / المُخَلِّص) و نزولها أو نزوله إلى العالم السفلي (عالم الأموات) و فكرة بعثها حيّةً أو بعثه حياً بقدرة تجدّدها أو تجدّده الحياتي الذّاتي و رجوعها أو صعودها / رجوعه أو صعوده إلى ظاهر الأرض أو إلى علياء سمائها أو سمائه مع عودة الأشجار و الحقول الخضراء و الزهور إلى الحياة في الربيع من كل سنة

كنا قد تحدّثنا في فصول سابقة عن نزول الإلهة أو الإله الدرجات السبع 7 و سبع 7 (أي 14) درجة إلى عالم الأموات (كان مفهوم جهنّم عند القُدماء بالأصل في باطن الأرض قبل أن تجعلها الأديان الذكّورية الشرق أوسطيّة في مكانٍ ما من السماء السابعة و لكن حافظت على درجاتها و منها جاء تعبير الدّرك الأسفل من النّار) و من ثم صعودها أو صعوده الدرجات ذاتها (ال 14) درجة من عالم الأموات لتتبوأ أو يتبوأ موقعها أو موقعه في السماء في تطابُق كلّي مع أطوار القمر و تحوله من بدر لنصف قمر ثمّ إلى هلال و من ثمّ عودته لنصف هلال و من ثم إلى بدر كامل في دورته الشهرية القمرية التي تستغرق 28 يوماً، و سنرى في الفصول القادمة كيف استقت منها الديانات الباطنية كالمسيحية و الدرزية و العلوية و غيرها أفكار تجسّد الإله أو حلول الرّوح الإلهية بجسم إنسان (يسوع الجليلي الناصري و الخضر و الإمام علي) و موت المسيح على الصليب فداءً للبشر و غفراناَ لذنوبهم، أما في الأساطير المصرية فنرى أن من يلعب هذا الدّور هي الإلهة إيزيس و زوجها الإله الأخضر أوزيريس/ أوزوريس إله البعث و الحساب و رئيس محكمة الموتى

الأسطورة الآرامية و الكنعانية التي نعرفها تقول أن الإله السّوري أدونيس قتل الخنزير البرّي دفاعاً عن عشتروت، و قد توفيّ الحبيب متأثراً بجراحه، صابغاً مياه الأنهار بالأحمر القاني، و هو لون يتجدّد ظهوره في الأنهار مع تفتّح زهور شقائق النُّعمان في كلّ ربيع، في إشارة إلى الإله الفادي الذي بموته تحيا الطبيعة، لكن الأسطورة الحقيقية هذه قد تمّ عكسها في إشارة إلى موت الأنثى و غيابها التام عن الفكر و الحياة الروحية في منطقتنا لآلاف الأعوام التي خلت حيث كان نص الأسطورة الآرامية / الفينيقية-الكنعانية الأصلي كالتالي: "في ظلّ نسمات معتدلة من صباح أحد أيام جبال لبنان، قدمت عشتروت إلى معبد الشمس قرب نبع أفقا، و بانتظار حبيبها أدونيس، تنقّلت كفراشة الحقل، تقطف الزهور و تردّد تراتيل الآلهة الفرحة في ولادتها الربيعيّة. طال الإنتظار، و الوحش المُختبىء في المغاور المجاورة يتأمّل فريسته بشراهة (تشبه إلى حد كبير أسطورة نوفا الأمازيغية)، و عندما خفق قلب عشتروت بشدّة، كان الخنزير البرّي الذي ظهر فجأة يمزّقها أشلاء" قبل أن يجفّ الندى عن باقتها" .. هذه هي أصل الأسطورة الآرامية / الفينيقية-الكنعانية القديمة ! فمنذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، الخنزير البرّي لم يقتل أدونيس، بل قتل أمه أو زوجته عشتروت!! ماتت عشتروت، و من بقي حيّاً كان أدونيس و … الخنزير البرّي ! كانت هذه الأسطورة الآرامية الفينيقية-الكنعانية حول قتل الخنزير لعشتار و بقاء أدونيس على قيد الحياة ترمُز إلى عملية إنتقال الألوهية من الأنثى إلى الذكر في تلك الفترة من التاريخ الغابِر. و يرى البعض أنّ العبرانيين قاموا بتحريم أكل لحم الخنزير إحتراماً و تقديساً لهذا الحيوان لقتله أدونيس، إله أعدائهم التقليديين هؤلاء، و من ثمّ ورث عنهم هذا التّحريم و تقليد ختان الذكور و الرّجم بالحجارة و غيرها من طقوس التحريم اليهودية (الكوشر) الدّين النصراني الإسلامي الذي أبقى على و عزّز معظم إن لم نقل كل المعتقدات و التقاليد اليهوديّة ذلك لأن المُسلمين الأوائل كانوا يهو-مسيحيين موَحِّدين (نُصرانيّين) و كانوا يتبعون تعاليم و مُعتقدات طائفة اليهود (الإبيونيين - الأريوسيين - النسطوريين) كما سنتطرق إلى هذا الموضوع بالتفصيل في عدة فصول قادمة

معنى الكأس المُقَدَّسِة (الرّحم / رحم مريم):

إن كانت ثنائية أدون و عشتروت، ترمز إلى ديانة تقدّس عُنصري الحياة و تعبّر عن نظام إجتماعي و إقتصادي و فكري تشاركي بين الذكر و الأنثى في المجتمعات القديمة، فإنّ رمزيّة موتها في قصّتنا تحاكي الغياب المُباغِت للأنثى من الدِّين و الفِكر و مسرح العمل الإقتصادي و الإجتماعي و السياسي من حياتنا، و الذي توضّحت معالمه بشكل خاص مع ترسّخ هيمنة هذه الأديان "السماوية" الجديدة. و في الواقع، إن اندثار الديانات الأنثوية القديمة بهذا الشكل يقدّم توضيحاً أكبر للمُنعطَف الذي اتّخذه النّظام الإجتماعي و الفِكري في مرحلة ما في زمن ما قبل الميلاد. تقول الباحثة الإجتماعية (ريان إيسلر) في كتابها [الكأس و النّصل، تاريخنا و مُستقبلنا] أنه: "حدث هنالك تحوّل مُزلزِل في نقطة ما في صُلب الحضارة الإنسانية ما قبل الميلاد، حيث تمّ اعتراض التّطور الحضاري للمُجتمعات التي كانت تعبد القوى الكونية التي أوجدت الحياة و حفظتها على وجه الأرض، و التي ما زال يرمز إليها في وقتنا الحاضر ب"الكأس المُقَدَّسِة" The Holy Grail و هو ذو دلالة أنثوية و يعني بالضّبط (الرّحم)، و يستعمل اليوم كرمز مريمي، إذ حدث الإنقلاب الذكوري، فجاء الذكور و أدخلوا معهم شكلاً مُختلفاً جداً من النّظام الإجتماعي الرّائع الذي كان سائداً حتّى ذلك الوقت" [1]. و توضّح عالمة الآثار في جامعة كاليفورنيا (ماريا غيمبوتاس) في كتابها [الموجة الأولى من رعاة السُّهوب الأوروبيين في عصر النحاس في أوروبا]: أنّ "هؤلاء الذكور كانوا غالباً يبجّلون القوة المُميتة لحدّ السيف و هي قوّة تأخذ الحياة و لا تُعطيها و تعمل في نهاية الأمر على إيجاد الهيمنة (المُستَبِدِّة) و فرضها بالقوة على المُجتمع" [2] (تماماً كما نرى اليوم في حركة طالبان في أفغانستان و الباكستان و مقاتلي الإبغور و الطّاجيك و القوقاز و الشيشان التركستان و القرغيزيستان و تنظيمات القاعدة و جبهة النُّصرة و الإخوان المُسلمين و داعش و غيرها من التنظيمات الجهادية الإرهابيّة التي تحاول الإطاحة ب و السيطرة على أنظمة الحُكم و المُجتمعات في البلدان العربية و الإسلامية الموبوءة بها كأفغانستان و الباكستان و العراق و سوريا و لبنان و فلسطين و مصر و ليبيا و تونس و اليمن و الصومال و غيرها من البلدان ...

بينما تُظهِر الدراسات الأثرية الحديثة وجود حقبة طويلة من السلام و الإزدهار و وجود نظام إجتماعي تشاركي كان سائداً بين الرجل و المرأة في العصور التاريخية التي امتدت إلى ما بين الألفية الرابعة و الثالثة قبل الميلاد، أي التاريخ الذي حدّدتاه الباحثتان (إيسلر و غيمبوتاس) للتحوّل المذكور، و تطوّر المفاهيم الدينية يعبّر بشكل دقيق عن هذا التّحوّل، إذ إنّ الآلهة الأولى في الأديان القديمة حتى الألفية الرابعة قبل الميلاد كانت جميعها أنثى، و هذا أمر منطقي جداً، ففي خلال بحثهم عن أصل الوجود، توصّل الأقدمون إلى أن (الله) كان أنثى، لأن الأنثى تُعطي الحياة، و نظروا إلى الكون كلّه على أنه أمّ معطاءة، و الآثار القديمة تحفل بتماثيل الآلهة الحامل المُتعدِّدة الأثداء التي كانت ترمز إلى الكون الالهي الخصب العامر بالحياة، و من أهمّ الأفكار الدينية الأنثوية التي لا تزال حيّة في عصرنا هذا هي الميثولوجيا الهندوسية (أصل الديانة المسيحية)، حيث يعتبر الهندوس أنّ الأرض نفسها التي نعيش عليها هي (آدّيتي) الآلهة الأم. و في حقبات لاحقة تشارك الذكر و الأنثى الألوهية مع ثنائيات إنانا - دوموسين أو دوموزي، عشتار–تمّوز، عشتروت–أدون، أفروديت-أدونيس، إيزيس–أوزيريس أو أوزير، و ما يُحاكي ذلك من ثنائيات في مُختلف الأديان الهندية و الصينية و الأمريكية الأصيلة (حضارات الهنود الحُمر)، وصولاً للثنائية الأخيرة المتمثلة بمريم أو العذراء-يسوع مسيح الميلاد الجليلي الناصري. ثمّ، و بحكم الغزوات و الحروب و تطوّرات إجتماعية و إقتصادية و فِكرية، تحوّلت الأنثى فجأة مع بدايات التدوين التوراتي إلى المجرم المسؤول عن طرد الإنسان من الجنّة بعدما نُسِبَت إليها جريمة إغراء آدم بالتفاحة الممنوعة في رمزٍ إلى الغواية ب و القيام بالفعل الجنسي

كان هذا التّحوُّل فجر الأديان التّحريمية القمعية "السماوية" الذكوريّة الثلاثة، حيث نَحَت هذه الأديان الثلاثة نحو سيطرة كلّية للذكر، و أضحت الأنثى رمزاً للإغراء أو الإغواء الجنسي الشيطاني، فيما اقتصرت السلطة و سلك رجال الدين في الأديان الثلاثة على الذكور فقط دون الإناث. عندما أضحى (الله) ذكراً، انكفأت عشتار أو حوّاء أو مريم العذراء إلى زاوية بسيطة على هامش المشهد، فقد جعلوها مصنوعة من ضلع رجل و حملّوها وِزر خطيئة إخراج الإنسان من جنّة الإله. فأضحت عندما تجتمع مع رجل، لا يحضر الحبّ معها بل يحضر الشيطان! لم تعد المرأة إنساناً مُستقلاً بل أصبحت تابعاً و مُلحقاً، فهي الآن تُعرَف بزوجة فلان، و أم ذاك الصبي أو بنت فلان و صار الرّجل هو وحدة القياس البشرية بعدما كانت المرأة في العهود الغابرة، و أصبحت المرأة تساوي نصفه فقط و هي أيضاً إن كانت من دون رجل، فهي من دون رأس! باتت المرأة مركز الظُّلمة و جوهر كل الشرور ثمّ جرى تحجيبها و تنقيبها و برقعتها بالكامل و سجنها داخل كيس أسود يلفّها و يُغطّيها بالكامل! ... هكذا ماتت أو قُتِلت أمنا عشتروت!!!

في الميثولوجيا القديمة، كان نجم الشمس رمز الرجل، و القمر (القمرة) رمز المرأة، و كانت الظلمة و النور (الشمس و القمر / الليل و النهار) أقنومان مُتكاملان ضروريان لتوازن الحياة في إشارة أيضاً لتكامُل الرجل و المرأة، أما في اللاهوت المسيحي الحديث فنرى أنّ الأنثى مرتبطة بالشرّ المحتوم و هي منبع الخطايا و في الإسلام نقرأ في حديث نبوي (محمّدي): “ما اجتمع رجلٌ و امرأة إلّا و كان الشيطان ثالثهما” !! كما أنّ المرأة هي الإغواء الشيطاني الأكثر حضوراً في الكتابات اللاهوتيّة المسيحيّة: ”و كما المسيح هو رأس الكنيسة، الرجل هو رأس المرأة” و هذا مذكور في رسائل الرُّسُل بطرس و بولس و هما من أهم الآباء المؤسسين للكنيسة و للفِكر و المُعتَقد المسيحي المُعاصِر. و صارت المرأة فيما بعد في الشريعة الإسلاميّة نصف رجل فشهادتها تساوي شهادة نصف رجل و ترث نصف ما يرثه الرجل و هي إحدى مُبطلات الوضوء و الصّلاة الثلاثة إضافةً للحمار و للكلب الأسود!!!

عشتار و رمز الحيّة أو الأفعى:

هل سأل أحدنا لماذا الأفعى هي الرمز المُعاصِر للشر؟ و لماذا تُصوّر دوماً بصُحبة أنثى؟ و هل يعود أصل وجوها في الأديان الشرق أوسطية إلى آدم و حواء و قصة التّفاحة و عصى موسى السّحريّة التي تنقلب إلى أفعى برغبته؟! طبعاً الجواب هو لا! فهي تعود إلى أساطير الآلهة عشتار التي سبقتها بعدة آلاف من السّنين: فبفطرتهم الإنسانية الأولى، لاحظ القدماء أن الحياة مُتجدّدة باستمرار، الورقة التي تسقط في الخريف الأول تعود لتولد من جديد مع الربيع، كما يموت الإنسان ليولد من رحم أنثى. و بما أن الأفعى تخلع جلدها القديم و تتجدّد عند نهاية كل صيف، كأنها تموت و تنبثق من نفسها، أضحت كما الأنثى، رمزاً لتجدّد الحياة و عندها وُلد أحد أقدم الرموز في وعينا البشري: رمز الأفعى التي تأكل ذنبها .. تكاد لا تخلو أيّة كنيسة أرثوذوكسيّة أو دار مسيحيّة عندنا في الشرق الأوسط من أيقونة المار جيورجِس أو القدّيس جورج و هي تٌظهر فارساً يغمد رمحه بجسد حيّة أو تنّينة خضراء و هي ملقاة على ظهرها و خاضعة و مواجهة له و هي تموت في ترميز واضح لهذا الإنقلاب الذكوري و هذه الأفعى المسكينة ما هي إلّا أمنّا و إلآهتنا الأولى عشتروت نفسها و هي آتية من أسطورة قتل الإله آن / آنو / بعل للإلهة تعامة أو تيامات في الأسطورة السومرية البابلية و صرع الإله بعل للإله (يم) إله المياه البدئية أو الأولى / البحر (كلمة يم في العربية تعني بحر) و صرع الإله حوروس متقمِّصاً نتر (روح) عمّه الإله سيت للأفعوان أبيب أو أبوفيس في الأسطورة المصرية و هي قصةّ صرع النبي إلياهو للثعبان لويثان / لواياتان في التوراة ...

قصيدة عودة عشتار:

"فلتزهر كل ورود الدنيا

و لنثمل بأساور صُنعت من موج البحر

عشتار و البعل عادوا

ها هي ألوانهم في كل حقل ترقُص

فليأتي النور من نارها

و لتُبارِك مياهها كل طوفان ...

جذور السماء تتدلّى اليوم من علىً

تغنّي أريج البخور

الهارب من قلوب الأشجار العتيقة

تنصُر الحبّ على الفناء

و تعلن الحياة هديّة

تضع كل نبضات الكون في قلوبنا الصغيرة

ترفع للأرض صلاة أزلية

ترنّم بعشق

“الإنسان أكثر من تراب”

أكثر من تراب!

حين تعود عشتار، يكتَمِل العالم" [3]

تطور الوعي الديني عند شعوب حضارات العالم القديم:

Animism الأرواحية أو عبادة الأرواح ---> Shamanism السّحر و الشّعوذة ---> Polytheism التّعدُّد ---> Monotheism التّوحيد

قبل الخوض في غمار التّاريخ القريب و رواياته الملحميّة، دعونا نقوم برحلة إلى ما قبل مئة 100,000 ألف عام, لمحاولة فهمِ صورةٍ موجزةٍ عمّا مارسه أسلافنا البشر من ديانات في ذلك الوقت: كانت البدايّة في العصر الحجري القديم، عِبرَ ظاهرة دينيّة سُمّيت ب"الأرواحيّة" أو "الأحيائيّة" و هي الإعتقاد بأنّ لكل شيء روح تسكنه، حتى الحجارة و الأشجار و حتى الكلمات، فهي جميعها صور حيّة عن الطبيعية يُعرِّفُها عالم الأنثروبولوجيا الإنكليزي [إدوارد تايلر" 1,832 - 1,917 م) في كتابه الثقافة البدائيّة] على أنها: "المذهب العام للأرواح و الكائنات الرّوحيّة الأخرى" و بأنها "فكرة إنتشار الحياة و الإرادة في الطبيعة" [4]. بعدها بعشراتِ آلاف السّنين، في آواخر العصر الحجري القديم العلوي و دخول البشريّة بالعصر الحجري الحديث أي قبل 12 ألف عام تقريباً، بدأت مرحلة الديانة الشّامانيّة، و هي ديانات لا تزال تُمارس إلى الآن في شرق آسيا و سيبيريا و في أماكن مُختلفة من العالم تحت مُسَمَّيات مُختلفة، حيث يقوم متعبدها "الشّامان"، و هو ساحر و حكيم، بإحياءِ طقوسِها و ذلك بالسّفرِ إلى عالمِ الأسلافِ و الشياطين لمُعالجة المرضى أو لنقل أرواح الموتى إلى عالمهم الجديد عن طريق غناء أناشيد خاصة و التّطبيل و الرّقص إلى أن يفقد وعيه تماماً, و عندها تغادر روحه جسدهِ إلى العالم السُّفلي في اعتقادهم ...

إلّأ أنَّ كوكب الأرض دخل في مرحلة جديدة في تلك الفترة حيث كانت بدايّة نهايّة العصر الجليدي، و خلالِ عشرةِ 10 آلاف عام انحسر الجليد و أخذ شكله و تموضعهِ الحالي تقريباً، و ارتفع منسوب مياه البحار و المحيطات فحدثت فياضانات عظيمة كانت مُدمّرة و مُهلِكة لكل من كان يعيش قُرَب سواحل البحار و المُحيطات. نحن نتكلم هنا عن عصرٍ جليدي مستمر منذ ملايين السّنين، و هذه الحوادث الطبيعيّة لم يتسنّى للإنسان القديم أن يراها من قبل أو يفسّرها، إلّا أنَّ ما حدث كان باعتقاده "هو قوّة إلهيّة"! هذه الفياضانات كُتب عنها فيما بعد بعدّة أشكال في الميثيولوجيا السّومريّة و الإغريقيّة كروايّة غرق مدينة أتلانتس و قصة طوفان أتنوبشتيم، و كما هو واضح فقصّة طوفان نوح في التُّراث الدّيني الشرق أوسطي (المسيحي ثمّ اليهودي الإسلامي) لم تأتي من العدم!

مع دخول الإنسان العصر الحجري الحديث قام بإعادة تموضعهِ و بتأسيس بدايّة استقرارهِ, فطوّر السّومريون الفكّر الديني، و بدأت عندها ديانة تعدد الآلهة "البولوثنيّة" بشكلها المكتوب و المنقول في اللّقى الأثريّة. و كانت الشخصيّة الأكثر تأثيراً من بين جميع الآلهة القديمة هو الإله (دو مو سين أو دوموزي) عند السّومريين و المعروف بالإله (تمّوز) عند البالبليين و (شمش أو آشور الآشوريين) و الإله (ديونيسيوس / باخوس) عند الإغريق و الرّومان و (أدون أو أدوناي) بمعنى "سيّدي" عند الكنعانيين و العبرانيين (أدونيس عند الإغريق)، و هو إله كان يُعبد من قِبَل الكنعانيين الفينيقيين و العبرانيين و اليونانيين معاً، و عُرف عنه بأنهُ إله الخصب و الثِّمار و النبيذ و القمح (طقوس تناول الخبز و النّبيذ في الديانة المسيحية) و دورة الحياة الزّراعية أو النباتية الفصلية السنوية

ولادة أدونيس:

كتبَ [أنطوان خوري حرب في كتابه جذور المسيحيّة في لبنان]: "بالنسبة إلى ولادة (أدون) تقول الأسطورة أنّهُ كانَ يعيش في لبنان-فينيقيا ملك إسمهُ (ثياس)، يدعوه بعضهم تارةً (فينيكس) و يدعوه البعض تارةً أخرى (أجنور), و كان ل (ثياس) هذا إبنة رائعة الجمال تُدعى (ميّرها) أو (سميرنة / سميرنا)، كانت (ميّرها) تتفاخر مُتباهيّة بجمالها، مما أثار غيرة و نقمة إلهة الجمال (عشتاروت) مما دفعها إلى استصدار حكم من الإله (القَدَر) يقضي بأن يُسيطر عليها حبّ لوالدها شائنً أثيم و جارف، دفعه لأن يُضاجع الأب ابنتهُ من غير أن يعرف هويّتها، لأنها كانت تدخل عليه في الظلام و هو في حالة سكر شديد (من هنا نتعرّف على الأصول الأسطورية لقصة سدوم و عمورة التوراتية حين قامت فتاتين عبرانيتين بإغواء و مُضاجعة أبيهما و هو في حالة سُكر شديد مما أثار غضب الإله يهوه)، و دفع الفضول الملك لمعرفة هذه المرأة الغريبة فأضاء مِصباحاً كان قد أخفاه بجانبه و إذ أدرك هويّة الأميرة اعتراه غضبٌ شديد و همَّ يقتل (ميّرها) التي هربت مُستنجدة بالإله"

و تُكمل الأسطورة أنَّه بعد هروب الأميرة (ميّرها) من فينيقيا ذهبت إلى (زيوس) كبير الآلهة الإغريقيّة مُستنجدةً بهِ و تلت عليهِ قصتها فأشفق عليها و حوّلها إلى شجرة المرّ و دموعها إلى حُبيبات بخور, لكن كانت (ميّرها) حاملاً من أبيها و عندما حانت الولادة انشقَّ جذع شجرة المرّ و خرج من لحائها من وصفوه بأنه أجمل مخلوق عرفتهُ الآلهة و البشر، كان (أدون) النُعمان، إله جميع الحظائر، و الجمال و الخصوبة و الذكورة

انبهرت (عشتاروت) من شدّة جمال الطفل فأخذتهٌ و وضعتهٌ في صندوق و ذهبت به إلى (بيرسيفوني) إلهة العالم السّفلي عند الإغريق، و أوصتها بأن تخفيه عندها، لكن (بيرسيفوني) لم تستطع المُقاومة و قامت بفتح الصندوق, فوقعت بحب (أدون) من نظرتها الأولى عليه، و أخذت على نفسها تربيته. لكن عندما عادت (عشتاروت) مُطالبةً إياه رفضت (بيرسيفوني) إعطائها الإله، فغضبت منها (عشتاروت) و هدّدتها إذا لم تعطها (أدون) ستبقى عندها في العالم السّفلي, فرفعت القضيّة إلى الإله (زيوس) لحل المشكلة، الذي أمر بأن يقضي (أدون) أربعة 4 أشهر من السنة عند (بيرسيفوني) هي نهاية الخريف و الشتاء، و أربعة 4 أشهر عند (عشتاروت) عي الربيع و بداية الصيف، أما الأربعة 4 الأشهر الأخيرة فيقضيها (أدون) حيثما شاء فاختار أن يقضيها عند (عشتاروت) لشدّة حُبهِ لها و اختياره هذا يُعبّر عن تعاقب فصول السّنة التي كانت ثلاثة فصول فقط عند القُدَماء" [5]

و قد انتشرت عبادة الإلهة (أدون) تحت عدّة مُسميات في سوريا و الأناضول و اليونان, فالأنباط الّذين أقاموا مملكة لهم جنوبي سوريا قابلوا (أدون) ب (ذو الشّرى), و أقاموا لهُ معبداً في عاصمتهم (البتراء) و آخر في مدينة (بُصرى الشام) و كانت تقام له احتفالات مرتين في السّنة، الأولى في عيد رأس السّنة السّوريّة عند الإنقلاب الربيعي كانت تتخللها احتفالات بألعاب رياضية سُميت بألعاب (ذو الشّرى)، بينما كانت فترة الإحتفالات الثانية تتم بعد قطف و جني الثمار، و خصوصاً (العنب) الذي كانوا يُعتّقونه ليجعلوا منه خمراً ليشربوه. و قد صُوِّرَ (ذو الشّرى) على العُملات النّقديّة و هو يُمسك بعنقود عنب بيد و كأس خمر باليد الأُخرى، و ذَكَرَ أسقف مدينة سالاميس القبرصيّة إيبفانيوس السّلاميسي (310 - 403 م) المولود قرب مدينة بيت مين في فلسطين, بأنَّ: "(ذو الشّرى) هو إبن الإلهة العذراء (اللّات)، و كان الأنباط يحجِّون إلى معبدهِ في البتراء للإحتفال بعيد مولده في 25 من كانون الأول / ديسمبر من كل سنة"، و عُرّف عندهم أيضًا باسم (ديونيسيوس) و هو الإسم القديم لمدينة (السّويداء) في العصر الهيلينستي الإغريقي - الرّوماني، و (ديونيسيوس) من الأسماء الإغريقية المُشتَقّة من (أدونيس) الذي كان إله الخمر عندهم، و والده هو كبير الآلهة (زوس أو زيوس) و أسطورته أيضًا تقول بأنّهُ مولود من عذراء في 25 من كانون الأول / ديسمبر (في تطابق تام مع مُعتقد أنّ يسوع المسيح والده الله الإله الآب و رب مملكة السماء في الديانة المسيحية)

في نفس السّياق و في الوسط الغربي من الأناضول ظهرت مملكة فريجيا (1,200 - 700 قبل الميلاد) الإغريقية (اليونانية) الّتي قامت بعبادة الإله (أتيِّس Attis) بمعنى "الصّبي الجميل"، و والدته الإلهة (نانا) حوريّة النّهر العذراء الّتي تحوّلت إلى شجرة لوز قبل أن تلده، و بموته تقول الأسطورة بأنّ الإله (أتيس) صُلب و بعد ثلاثة 3 أيام تغلّب على الموت و عادَ إلى الحياة. يذكر الدكتور [عيد مرعي في دراستهِ عبادة آلهة الخصوبة]: بأنّ "الإمبراطور الرّوماني كلاوديوس (10 ق.م. ل 54 م) اكسبَ عبادة (أتيِّس) صفة رسميّة حيث كان يتم الإحتفال بموته و بعثه سنوياً في زمن الإنقلاب الربيعي في 25 من آذار / مارس بعد ثلاثةِ 3 أيام من موته، و عُدَّ كذلكَ 25 من كانون الأول / ديسمبر عيداً لميلادهِ، و قد عرفه الأتروسكيّون أسلاف الرّومان ب(أتونيس) و صوّروا نعشه مع (بيرسيفوني) و (أفرودايتي) الّتي تقابلها (عشتروت / عشتاروت) الفينيقيّة" [6]

موت أدونيس:

كانت (بيرسيفوني) النّاقمة على (عشتاروت), تُريد قتل الإله (أدونيس) ليعود إليها إلى العالمِ السُّفلي، فذهبت إلى (آريس) إله الحرب عند الإغريق، و كان هو كذلك يشعر بالغيرة من (أدونيس) كونه كان يُعاشر (عشتاروت) عشيقتهِ القديمة، و اتفقوا على قتلِ الإله الشّاب من دونِ أن يُعلمَ (عشتاروت). ذهبَ (أدونيس) برفقةِ كلابهِ إلى الصّيدِ في جُبيل قُربَ مغارة أفقا الّتي تَدَفقُ منها مياه نهر "أدون" أو "إبراهيم"، و تُعتبر المغارة مقراً للإله (ئل / إيل / إله القمر الفينيقي)، رب الأرباب كبير الآلهة، إلهُ البشرِ و كُلِّ المخلوقات (الله معبودنا الحالي)، فأرسلَ (آريس) خنزيرٌ برّي إلى المنطقة، لكن كلابُ (أدونيس) اشتمّت رائحةِ الخنزير، و لمّا ظَهَرَ من بينِ الشُّجيرات استلَّ (أدونيس) رُمحهُ و رمى به الخنزير فأصابهُ في مَكّمنٍ لكنه لَمْ يَقتُلُهُ، فاهتاجَ الخنزير و هَجَمَ على الإله و انقضَّ عليهِ و جرحهُ جُرحاً بليغاً و أوقعَ (أدونيس) أرضاً مُضرجاً بدمائهِ الّتي سالت على التُّراب و هو يِلفظُ أنفساهُ مُتألِّماً. هَبّت الرّياحُ، فوصلَ أنينهُ إلى مسامعِ (عشتاروت) التي قدِمَتْ إليه مُسرعةً فوجدتهُ يحتضر، اقتربت منهُ و ضمَّتهُ، مُحاولَةً منحهُ الحياة، و قبّلتهُ، لكن (أدون) مات من دون أن يشعُرَ بِقُبلةِ حبيبته. و مع موتِ (أدونيس) توقّفت الثمار عن النُّمو، و الحيوانات عن الإخصاب، و ذَرَفَ الجميع الدموع لموتهِ و خيّم الحزن أرجاء سوريا و اليونان، حَمَلّتْ بهِ (عشتاروت) إلى مغارة أفقا، و بدأ السُّكان بالحجِّ إليها، الرجال يضربون أنفسهم و النساءُ تنوح، و هم يُنشِدون الأغاني الحزينة. دمائَهُ الّتي سَقت التُّربة نَبَتَت عليها زهراتٌ حمراءِ اللّون أُسموها بشقائقِ النُعمان، و تغيَّرَ لون النهرِ إلى الأحمر، و بُني بجانب المغارة، معبداً ضخماً لعشتاروت يعود إلى الألفية الرابعة قبل الميلاد ما تزالُ آثاره حاضرة إلى اليوم

من أين أتت عبارة "قام حقاً قام"؟!

تقول تَتِمة الأسطورة أنَّه و بعد نزولِ (عشتاروت) إلى العالمِ السُّفلي لإرجاع (أدون)، رفضت الإلهة (بيرسيفوني) إعادتهِ إلى الحياة، فرفضت (عشتاروت) المُغادرة من عندها إلى أن تدخّل كبير الآلهة (زيوس) من جديد لحل المُشكلة و أحيا الإله الجميل القتيل من الموت، و عندما عاد (أدونيس) إلى الحياة عادت معهُ الفرحة إلى الكائنات، و نزل السُّكان إلى الشّوارع مُحتفلين بانبعاثِ إلهِهم، فحضّروا الأضاحي و زُرعت البذور و أقاموا الزّيجات و شربوا الخمور، و بعض النِّساء مِمَن سُمِيوا ب"بغايا المعبد" كانوا يختارون رجلاً واحداً ليطارحونهُ الغرام تعبيراً منهم عن الحُب و الخصب بينما راح آخرون يقيمون حفلات جنسيّة جماعيّة و هم يهتفون: "أدون قام حقاً قام!"

عن هذه الإحتفالات ذكرَ الهجائي السّوري [لوقيان السّمساطي (125 - 180 م) في كتابه عن الآلهة السّوريّة] عن رجلٌ من جُبيل (بيبلوس) كان قد التقى به مُستهزئاً بأسطورة الإله (أدونيس) قائلاً: "هذا النّهر يا صديقي و ضيفي، يجتاز لبنان و أرضُ لبنان تكسوها تربة حمراء، في مثل هذهِ الأوقات من السّنة الّتي مات فيها (أدون)، تَهًب على جبال لبنان رياحٌ هوجاء تحملُ معها التُربة الّتي لونها شبيهة بالزنفجر "القرميدي أو الأرجواني الأحمر"، و تقع هذه التُربة على النّهر فتُغير من لونه، و هكذا يعود تَغيُّر لون النهر إلى التّربة و ليس إلى دماء الإله كما يدّعون" (و هكذا يكون ذلك الرجل الذي ذكره لوقيان أوّل لا ديني أو مُلحد في التّاريخ!!)، و يُضيف لوقيان مُتتبعاً: "هذا هو التّفسير الّذي قدّمهُ لي الجُبيلي، إن كانَ كلامهُ صحيحاً، فإنَّ تلك المُصادفة لا تبدو لي أقلَّ قداسة" [7]

كان المُتعبدون يزرعون في أواني صغيرة زهرة النُعمان أو بذور قمح تعبيراً منهم على قُصرِ حياة (أدونيس) و تجسيداً لدورة الحياة نظراً لموت تِلك النباتات بسرعة، و كانوا يضعونها في معبد أفقا و في معابده المُنتشرة في كامل سوريا، و كانوا ينشرون الشرائط الخضراء على الأشجار (الخلعة أو العصبة الخضراء التي يلبسها العلويين في معاصم أيديهم اليوم) و يُزيِّنوها بالحُلي تقديساً منهم للشجرة الّتي أنجبت إلهِهم. و قد استمرَ معبد أفقا كقُبلة للحج إلى أن أمرَ الإمبراطور قسطنطين الأوّل (272 - 337 م) بهدمهِ، و في القرن الرّابع 4 الميلادي أمرَ رئيس أساقفة القسطنطنيّة القديس يوحنا فم الذهب أو يوحنا الذهبي الفم (347 - 407 م) المولود في أنطاكيا ببناء كنيسة فوق رُكام المعبد تكون مُكرّسة للسيدة مريم العذراء، و في القرن الخامس 5 الميلادي استُبدِلَ إسم نهر "أدون" بنهر "إبراهيم"، تكريماً للقدّيس "إبراهيم القوشري" أحد تلامذة النّاسك "مار مارون" مؤسّس الطائفة المارونيّة من القرن الرّابع الميلادي (توفي عام 410 م و كلمة مارون في اللغة السريانية هي تصغير للفظة "مار" و التي تعني السيّد، و هي بدورها تصغير عن لفظة "موران" و التي تعني "سيّد السّادة أو السّيّد الأكبر" و تُستخدم في اللغة السريانية كإحدى ألقاب الله)، و استُبدل معه إسم السّمك الّذي يعيش عند مصب النّهر إلى سمك "سيدي إبراهيم" أو سمك "السُّلطان إبراهيم"

بعد موت الملك أشوكا الكبير (الإسكندر الأكبر 356 - 323 ق.م.) انهارت إمبراطوريتهِ و تقاسم قادتهُ الإمبراطورية، و أُنشأ أحد قادة جيوشه المدعو سلوقس المُنتصر الأول (358 - 281 ق.م.) الإمبراطوريّة السُّلوقيّة في القرن الثالث 3 قبل الميلاد على سوريا، التي استمرت قُرابة القرنين و نصف القرن (250 سنة) و قام ببناء مدينة أنطاكيا و اتخذها عاصمةً لهُ، و بدأت حينها فترة العصر الهيلينستي أو الهيليني (الإغريقي / اليوناني) و هي الحُقبة التاريخيّة الأهم في تاريخ سوريا بنظرنا لأنّها الفترة الأكثر تغييباً و التي من خلالها انتشرت عشرات المدراس الفلسفيّة الّتي أثارت موجات ثقافيّة اجتاحت العالم الهيليني المُكتظ بالطوائف الفلسفيّة و الديانات المتعددة، و أهم هذه المدارس كانت المدرسة الرُّواقيّة الّتي اهتمت بالإنسان و بسلوكهِ و حضَّرت شخصيّة الفرد السّوري بتشعُباتهِ للديانة المسيحيّة. و هنا يحدونا التّطرّق إلى تأثير الفلسفة الرُّواقيّة بالبولوثنيّة الفينيقيّة الّتي أسّسها الفيلسوف زينون الرُّواقي (334 - 262 ق.م.) الذي كان فينيقياً من كوتيوم في جزيرة قبرص، و قد انتشرت فلسفته في العصر الهيلينستي و كانت تدعو إلى الفضيلة و كبح جِماح رغبات النّفس و الحِفاظ على الأخلاق، و هي فلسفة اعتقد روّادها بالحلوليّة و الإيمان بوجود الإله في كل جزء من الكون، و دعوا إلى وحدة شعوب العالم، و استمرت قُرابة 829 سنة منذ تأسسيها حوالي العام 300 ق. م. في أثينا حتّى إغلاق مدارسها على زمن الإمبراطور جستينيان الأول (482 - 565 م)، و تأثرَ بها صفوة المُثقّفين حول العالم الهيليني القديم، و كان من أبرز روّادها السّوريين: خريسبيوس (280 - 206 ق. م.) من صولي في كيليكيا و ديوجانس البابلي (240 - 150 ق.م.)، و بوسيدونيوس الأفامي (135 - 51 ق. م.)، و أنتربيتار الصّوري (95 - 46 ق.م.)، و أبولونيوس الصّوري المتوفى سنة 50 ق.م.، و أنتربيتار من مدينة طرسوس في كيليكا المتوفى سنة 130 ق.م.، و الشّاعر ملياغر (140 - 70 ق. م.) المولود في قرية غادرا (أُم قيس) شمال الأُردن تعلَّم في صور و مات في جزيرة كوسْ Koss اليونانيّة، و غيرهم من الرُّواقيين الّذين وضعوا أساسات سلوكيات المُجتمع الهيليني على مرِّ عصورهِ و غيّروا العديد من المفاهيم الأخلاقيّة الّتي كانت سائدة بين شعوب العالم القديم آنذاك

عِبرَ هذا السّرد المُختصر نكون قد تعرّفنا على بعض الصّفات و المُرادفات الأُلهيّة للإله (أدون), الشخصيّة المحورية الأساسية في الثقافة السّوراقيّة فرأينا كيف تناقلها أسلافُنا بعدةِ صور مُختلفة و تحوّلت إلى أشكال عديدة كيفما اقتضت الحاجة السّياسة و الثقافيّة لذلك، إلى أن اُستُبدِلَت في آخر المطاف بشخصية يسوع المسيح إبن مريم العذراء، و يُعبر عن تجذّره في سوريا بثقافتها و بعاداتِ شعبها مُنذُ قِدمِ تاريخنا كشخصيّة إقناعيّة عَقَدَ -و لا يزال يعقُد- السوريون عليها الآمال، و عليهِ فالأديان بشكل عام و المسيحيّة بشكل خاص باختصار هي تطوّر في الثقافة الإنسانيّة و أبطالِ الملاحِم الميثيولوجية قد يكونوا آلهة أو بشرٌ خارقين، فُنِيَت أجسادهم لكن تخلّدت أفكارهم، من غيرِ أن يُدرِكوا بأنّهم أسّسوا على تراكُمِ السّنين ثقافتنا المحليّة، ثقافة التأليه و التّفرُّدِ بِعبادة الشخضيّة الّتي ما زلنا نعاصرها و نمارس طقوسها حتّى يومنا هذا!!!

للمزيد، مصادر و مراجع:

1. The Chalice And The blade: our history, our future, Riane Eisler, New York 1,995, P 23

2. Marija Gimbutas, “The First Wave of Eurasian Steppe Pastoralists Into Copper age Europe”

3. تناول الباحث السّوري فراس السوّاح استمرار فلسفة الأنثى المقدّسة من الأديان الوثنية حتى الأديان المسيحية و الإسلامية في مرجعه المهمّ و المميّز (لغز عشتار) و لعلّه من أهم المراجع العربية و الأجنبية التي بحثت في هذه المسألة

4. إدوارد تايلر، الثقافة البدائيّة

5. أنطوان خوري حرب، جذور المسيحيّة في لبنان

6. د. عيد مرعي، عبادة آلهة الخصوبة

7. لوقيان السّمساطي، الآلهة السّوريّة