في مذكرات أنتوني كوين التي قام بترجمتها إلي العربية حسين عبد الواحد ، وظهر لنا جانباً من شخصيته يتعلق بأسلوبه في الحياة ، ويكشف عن كثير من معتقداته وأفكاره ، كما نتعرف على مواهب أخرى غير التمثيل كان يمارسها أنتوني كوين وأجاد فيها . يقول " إن الله لم يخلقنا لكي نعيش في صناديق ، ولكي نفكر بطرق نمطية أو لكي نصلي له بهذا الشكل الروتيني الممل ، لقد أصبحت الحضارة الحديثة حضارة تعيش على معتقدات عرجاء عاجزة ، ونحن جميعاً مسئولون عن ذلك .. وعندما أنظر إلى نفسي أستطيع أن أرى إحباطات الإنسان وجوانب فشله ولكن رغم ذلك لا أفعل أي شيء للتغلب عليها ، ربما لا يوجد ما يمكن أن أفعله ، ولكن في الحقيقة لم أحاول ، كل ما أعرفه هو أني أتظاهر بأني إنسان متدين طيب بينما الواقع يقول غير ذلك وأهفو لأن أكون أباً وزوجاً جيداً ، ولكن لا أعرف كيف ! " .
لقد لعب أنتوني كوين أدواراً تقدم القدوة والعبر والدروس للآخرين ، وربما كانت المصادفة هي التي وضعت هذه الأدوار في طريقه وجعلت البعض ينظرون إليه باعتباره بطلاً لفكرة معينة أو زعيماً لقضية ما .. يقول " الفضل في ارتباطي بهذه الشخصيات لم يكن أبداً لي وحدي على الأقل .. وعلى سبيل المثال لم تكن لي في أي وقت طموحات سياسية ، بمعنى أني لم أرغب أبداً في أن أكون زعيماً لأي مجموعة من البشر رغم الأدوار العديدة التي أديتها على الشاشة وبرهنت فيها على جدارتي بالزعامة والتي جعلت البعض يفكرون في اختياري زعيماً لهم .. ورغم أني لم أكن أشاركهم هذا الرأي فإنني كنت أصغي إليهم بل وأتساءل في بعض الأحيان .. ولم لا ؟ لماذا لا أصبح زعيماً بحق الجحيم ؟! "
وبالفعل أتى وفد من المكسيك وطلبوا من أنتوني كوين أن يقودهم في الإطاحة بالحكومة المكسيكية يقول " كنت أعرف ما يكفي عن السياسة في المكسيك لكني أدرك أنها دولة يحكمها حزب واحد ولم يكن ذلك يروقني .. لذلك وافقت على الذهاب معهم إلى مدينة تيخوانا لكي أعرف المزيد " . ولكني في نهاية الأمر قررت الابتعاد عن السياسة .
وبعد فيلمي " أحدب نوتردام " و" زوربا اليوناني " أصبح أنتوني كوين من نجوم الصف الأول في السينما العالمية ، وتهافتت عليه استوديوهات السينما الأمريكية والأوروبية ، وبعد أن بلغ سن الستين أدارت الحياة له ظهرها وأوشك على الاعتراف بأنها النهاية لولا تصاريف القدر التي جعلته يولد من جديد بعد هذا السن ، فقد تلقى عرضاً في فيلم " لورانس العرب " وكان دوره هو أداء شخصية عودة أبو طايع إلى جانب الممثل بيتر أوتول وعمر الشريف وإليك جينيس ، يقول " سافرت إلى الشرق الأوسط مع زوجتي الإيطالية إيولاندا التي تفرغت لي تماماً ، كان موقع التصوير وسط الصحراء ، وبعد عمل المكياج الخاص بالشخصية أحاط بي المئات من العرب وهم يصيحون : عودة أبو طايع .
ورأى ديفيد لين ( مخرج الفيلم ) هذا المشهد وسأل عن الشخص الذي يحيط به الجمع الغفير ، فقال له أحد مساعديه : ربما كان أحد العرب . وكان رد لين هو إذن : يجب الاستغناء عن أنتوني كوين والاتفاق مع هذا الشخص على أداء دور عودة ، وخلال العمل في فيلم لورانس العرب توطدت علاقتي مع بيتر أوتول وعمر الشريف ، وكنا نقضي أوقاتاً سعيدة معاً في غير أوقات التصوير " .
ويستطرد كوين في سرد القصة قائلاً " ذات يوم زار الملك حسين موقع التصوير وسألني عن السبب الذي يجعلني لا أحضر إلى قصره مع زملائي الفنانين ، فقلت له : يا صاحب الجلالة إني أعتبر نفسي صديقاً لإسرائيل ولذلك فليس من الملائم أن أحضر هذه الحفلات . وكان رد الملك هو أنه يتفهم ذلك وربت على كتفي وانصرف . والحقيقة أني لم أكن أتصور أن هذه الملحوظة العابرة التي قلتها لملك الأردن سوف تنتشر في جميع الأوساط على نطاق واسع .. فبعد سنوات كنت أقوم بتصوير فيلم " عمر المختار " والتقيت بالزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في مصعد أحد فنادق طرابلس وفوجئت بعرفات يحدثني قائلاً : إنك حقاً رجل مبادئ يا مستر كوين ولا تغير مواقفك أبداً . وفهمت ما يقصده وكان ردي عليه إني أحاول أن أكون رجل مبادئ وبالنسبة للكلمات التي قلتها في الصحراء الأردنية فهي في الواقع لا تعني شيئاً " .
وبدأت الأدوار تنقطع عندما بلغ أنتوني كوين سن الستين واعتقد أن زمنه انقضى كما حدث لغيره من الفنانين ، وكانت سنوات السبعينيات شديدة الصعوبة عليه فقد ازداد وزنه وبدأت التجاعيد تملأ وجهه ولم يكن قادراً على انتزاع دور جيد في فيلم مهم ولا حتى على لقاء امرأة تنظر في وجهه . وإزاء هذه السن المتقدمة وحالة اليأس التي كان يشعر بها ، يقول " لقد احتجت لإيمان 750 مليون مسلم لكي أسترد إيماني بنفسي ، فقد أعادتني منطقة الشرق الأوسط إلى أدواري السينمائية الضخمة ودعت موقفي المالي المتدهور ، وأنا مدين بذلك لمخرج عربي مهووس هو مصطفى العقاد ، فقد دعاني إلى لبنان لألعب بطولة فيلم " محمد رسول الله " ، ولتبدأ علاقة عمل مثمرة ومربحة ، كانت القصة نفسها تتناول حياة نبي الإسلام مع لمسات ملحمية على غرار تلك التي كان يلجأ إليها المخرج سيسيل دي ميل ، وعرض الفيلم في الولايات المتحدة والغرب باسم " الرسالة " وأدى عرض الفيلم في جميع أنحاء العالم إلى أني أصبحت نجماً في العالم العربي .
وقد حقق مصطفى العقاد أرباحاً هائلة من وراء هذا الفيلم لدرجة أننا اتفقنا على التعاون معاً في فيلم آخر .. وفي ذلك الحين كان العقاد يحظى بدعم الرئيس الليبي ، وقد علمت أن القذافي مبهور بشخصية عمر المختار الزعيم الليبي الذي نجح في وقف تقدم موسوليني داخل ليبيا ، وكانت شخصية هذا الزعيم ذات أبعاد تاريخية رائعة فهو مدرس عجوز يقود شعبه ضد الاحتلال ، بالنسبة لي خاصة أنه كان في مثل سني تقريباً ومن أجل إقناع القذافي بتمويل الفيلم تم تصويري بملابس وماكياج عمر المختار ، وأخذ الصور وذهب إلى القذافي ومعه مجموعة من الكتب والخرائط ووضع صوري وسطها ، وعرض العقاد على الرئيس القذافي عدة أفكار و" بالصدفة المرتبة " أسقط مجموعة الكتب لتتناثر صوري وأنا في هيئة عمر المختار على الأرض ، وسأل القذافي ما هذا ورد العقاد : لا شئ إنها مجرد صور لأحد زعماء ليبيا منذ وقت طويل . ونظر القذافي على الصور وقال : نعم إنه عمر المختار أحد أبطال الشعب الليبي ، ولكن من أين حصلت على هذه الصور؟ إن لدي مجموعة لصور عمر المختار من جميع أنحاء العالم وليس بينها هذه الصور . وقال العقاد إنه حصل عليها من إنجلترا وإنه يفكر في عمل فيلم .. وقاطعه الرئيس القذافي في لهفة قائلاً هل تخطط لعمل فيلم عن عمر المختار . ورد العقاد بأن المسألة مجرد فكرة ، ولكن القذافي قال سوف أدعم هذا الفيلم .. فقط اكتب قائمة بما تحتاجه . وهكذا بدأ إنتاج فيلم عمر المختار .
وهكذا مثل أنتوني كوين أروع أفلامه وأهمها بعد سن الستين ، وبعد حالة من اليأس والإحباط وقبول الأدوار الصغيرة بفضل أفلامه العربية والمخرج المهووس ـ على حد تعبير أنتوني كوين ـ مصطفى العقاد .
ولم يكن أنتوني كوين ممثلاً كبيراً فقط بل كان فناناً تشكيلياً مبدعاً ويحاول في مذكراته أن يؤكد على أن مجالي الإبداع المتصارعين بداخله يشكلان معاً الصورة الحقيقية والكاملة لأنتوني كوين الفنان والإنسان ، يقول " إني أرى العالم بأطراف أناملي ، فمن خلالهما تصل الأقلام وفرشاة الرسم وأدواته الأخرى إلى روحي مباشرة ، وهذا الارتباط بين أطراف أناملي وروحي قديم واكتشفته منذ مرحلة صباي المبكرة عندما كنت أقوم برسم اسكتشات لدوجلاس فيربانكس ورامون نافارد وبولا نيجري أو روديلف فالنتينو ، فقط كان لدي ميل غريزي للرسم ولكنه لم ينته بانتهاء الطفولة والصبا ولم يتوقف عند أطراف الأصابع أو الأنامل بل اتسع طاقها لتشمل اللمس والرؤية والشعور أو الإحساس .. ولا أعرف على وجه الدقة المرحلة التي انتقلت فيها إلى الحجر أو الصلصال كوسيلة للتعبير عن روحي .
ويواصل كلامه عن توجهه للرسم فيقول " إن التقدم في السن شيء تعس بالنسبة للممثل على وجه الخصوص ، وربما يعني له ما هو أكبر من التوقف عن العطاء ، لذلك فإن ما فعلته كان بمثابة عملية إحلال مبعثها إصراري على أن السينما لا يمكن أن تسمح بتقدمي في العمر إلى مرحلة الشيخوخة ما دمت قادراً على أن أعطيها وأن أعطي لحياتي شيئاً آخر .. وهكذا بدأت أرسم مرة أخرى ، ووضعت أدوات الرسم في كل مكان أتواجد فيه بما في ذلك مواقع تصوير الأفلام السينمائية .
عرض أنتوني كوين أعماله التشكيلية في جميع أنحاء العالم وأقام معارض فنية في مختلف المدن مثل هونولولو وفيينا وزيوريخ وباريس ونيويورك وبيفرلي هيلز وبوينس آيرس ومكسيكو سيتي . وقد بيعت لوحاته وتماثيله بمبلغ 2 مليون دولار . ويقول " أنا أحياناً أرسم كهندي وفي أحيان أخرى كمكسيكي وكأفريقي ، وأعترف بأني أسرق من الآخرين ؛ من بيكاسو وموديلياني ودافينش ، وجميع هؤلاء سرقوا من أساتذة آخرين ومن حضارات أخرى وأعتقد أنه لا يوجد خطأ أو عيب في ذلك فهناك مثل يقول " إن الموهبة الكبيرة تسرق والموهبة الصغيرة تقترض " .
كما كان كوين مؤلفاً أيضاً فقد بدأ أولى أعماله الكتابية بكتابه " الخطيئة الأصلية " وقد نشر منذ سنوات وترجم إلى 12 لغة وحقق نجاحاً هائلاً ، وكان ثاني كتبه عن الزهور التي يعشقها وخاصة زهر الجورانيوم ، التي زرعها في الحديقة المحيطة بمنزله في إيطاليا ومساحتها 6 فدادين وزرع فيها أيضاً نحو 20 نوعاً من هذه الزهور . أما كتابه الثالث فهو عبارة عن رواية اسمها " ماما بورجيا " ، واعتبر بعض النقاد كتاب "الخطيئة الأصلية" من أهم أعمال الأدب الأمريكي التي صدرت في السنوات الأخيرة .
وهكذا أصبح أنتوني كوين كاتباً له جمهور من القراء ينتظر كتبه ، كما له جمهور ينتظرون بلهفة أفلامه وأدوراه الجديدة التي كان آخرها فيلم " المليونير اليوناني " الذي أثار ضجة كبيرة عند عرضه ، والسبب أن هذا الفيلم يتعرض لحياة المليونير اليوناني الراحل أوناسيس وعلاقته بزوجته جاكلين كيندي التي احتجت على ظهور هذا الفيلم الذي يتعرض لحياتها الخاصة السابقة مع المليونير اليوناني الراحل .
الكتاب: مذكرات أنتوني كوين
ترجمة : حسين عبد الواحد
تاريخ النشر 2009 طبعة أولي
الناشر : مكتبة مدبولي الصغير