آخر الأخبار

الصياد والعفريت

عبدالفتاح كيليطو

تحليل لحكاية من ألف ليلة وليلة​

في طبعة ألف ليلة وليلة التي اعتمدت عليها، تبدأ حكاية الصياد مع العفريت في الليلة الثالثة وتنتهي في الليلة التاسعة، وكما يحدث كثيراً في هذا الكتاب، فإنّ حكاية الصيّاد ترتبط بحكايات أخرى، أي أنها تتوقف لتفسح المجال لأربع حكايات، ثم تُستأنف بعد ذلك• مبدئياً ينبغي أن آخذ بعين الاعتبار الحكايات الخمس، نظراً للعلاقة الوثيقة والخفية التي يفرضها الجوار، إلاّ أنني سأكتفي بحكاية الصيّاد• صحيح أنني باختياري هذا سأقطع رجليْ النّص، لكن لي بعض العذر• فلا يُعقل أن أقوم بتلخيص الحكايات لأنّ التلخيص يشّتت ذهن القارىء بالإضافة إلى كونه ليس بالعملية البريئة•حكاية الصياد معروفة لدى الجميع ولا داعي للتذكير بمحتواها، ولكن بما أنّ تحليلي سيتركز على تفاصيل وجزئيات دقيقة، أرى لزاماً علي أن أنقل بعض الفقرات وألخّص فقرات أخرى، على الرّغم من شعوري بمساوىء التلخيص•

••• كان رجل صياد وكان طاعناً في السّن وله زوجة وثلاثة أولاد وهو فقير الحال وكان من عادته أنه يرمي شبكته كل يوم أربع مرّات لا غير• ثم إنّه خرج يوماً من الأيام إلى شاطىء البحر ورمى شبكته

• في المرّة الرابعة صبر إلى أن استقرّت وجذبها فلم يُطق جذبها وإذا بها اشتبكت في الأرض••• فتعرى وغطس عليها وصار يعالج فيها إلى أن طلعت على البرّ وفتحها فوجد فيها قمقماً من نحاسٍ أصفر ملآن وفمه مختوم برصاص، عليه طبْع خاتم سيدنا سليمان فلما رآه الصياد فرح وقال هذا أبيعه في سوق النّحاس فإنه يساوي عشرة دنانير ذهباً ثم إنه حرّكه فوجده ثقيلاً فقال لا بد أني أفتحه وأنظر ما فيه••• ثم إنّّه أخرج سكيناً وعالج في الرّصاص إلى أن فكّه من القمقم• وبعد حين خرج من ذلك القمقم دخان صعد إلى عنان السماء ومشى على وجه الأرض ••• ثم انتفض فصار عفريتاً• ويتوهم العفريت أنه واقف أمام سليمان فيقول: يانبي الله لا تقتلني فإنّي لا عدت أخالف لك قولاً ••• فقال له الصياد: أيها المارد ••• سليمان مات من مدّة ألف وثمانمائة سنة ونحن في آخر الزمان فما قصّتك وما حديثك وما سبب دخولك في هذا القمقم؟ فلما سمع المارد كلام الصياد قال: ••• ابشر بقتلك في هذه الساعة أشرّ القتلات• ثم يروي أنّه عصى سليمان فأودعه في القمقم وألقى به في البحر• ومع مرور الزمن احتدم غضب الجنّي فقرّر أن يقتل الشخص الذي يخلّصه• فقال له الصياد:
اعف عنّي إكراماً لما أعتقتك، فقال العفريت: وأنا ما أقتلك إلاّ لأجل ما خلّصتني•فقال الصياد: هذا جني وأنا إنسي وقد أعطاني الله عقلاً كاملاً وها أنا أدبر أمراً في هلاكه بحيلتي ••• ثم قال للعفريت: ••• بالاسم الأعظم المنقوش على خاتم سليمان أسألك عن شيء وتصدقني فيه قال: نعم ••• فقال له: كيف كنت في هذا القمقم والقمقم لا يسع يدك ولا رجلك فكيف يسعك كلّك؟ فقال له العفريت: وهل أنت لا تصدق أنني كنت فيه؟ فقال الصياد: لا أصدقك أبداً حتى أنظرك فيه بعيني•
انطلت الحيلة على الجني فتحول إلى دخان ودخل في القمقم >وإذا بالصياد أسرع وأخذ سدادة الرّصاص المختومة وسدّ بها فم القمقم ونادى العفريت وقال له: ••• إن كنت أقمت في البحر ألفاً وثمانمائة عام فأنا أجعلك تمكث فيه إلى أن تقوم الساعة ••• فقال له العفريت: أطلقني فهذا وقت المروآت وأنا أعاهدك أني •• أنفعك بشيء يغنيك دائماً• فأخذ الصياد عليه العهد أنه إذا أطلقه لا يؤذيه أبداً بل يعمل معه الجميل، فلما استوثق منه بالأيمان والعهود وحلفه باسم الله الأعظم فتح له الصياد فتصاعد الدخان حتى خرج وتكامل فصار عفريتاً مشوه الخلقة ورفس القمقم فرماه في البحر• فلما رأى الصيادُ القمقم مرمياً أيقن بالهلاك<• لكن العفريت يظل وفياً لعهده وبعد أن يدل الصياد على وسيلة ستجعل منه شخصاً غنياً، يقول له: >بالله أقبل عذري فإنني في هذا الوقت لم أعرف طريقاً وأنا في البحر مدّة ألف وثمانمائة عام ما رأيت ظاهر الدّنيا إلا في هذه الساعة ••• ثم دق الأرض بقدميه فانشقت وابتلعته<•كيف سأتناول هذه الحكاية بالتحليل، هذه الحكاية التي لا يعرف أحدّ مؤلفها؟ إن الحديث عمّا قصد إليه هذا الأخير لا يتعدى مستوى الافتراض•فعلى سبيل المثال يمكنني أن أقول إنّ المؤلف قصد أن يثبت أنّ من يفعل الخير يلقى في النهاية أجره وثوابه، رغم ما قد يتعرّض له من نكران الجميل•يمكنني كذلك أن افترض أن المؤلف قصد أن يثبت أن الإنسان، بما منحه الله من عقل، يتفوق لا على الحيوانات المفترسة فحسب، ولكن أيضاً على من يريد به الشّر من الجنّ• بتعبير آخر: قصد أن يثبت أن الصغير الضعيف يستطيع بفضل دهائه وحيلته أن يهزم الكبير القوي، كما هو الشأن في الحكاية التي تتحدث عن قط جابه غُولاً شرساً فتحيّل ليجعله يتحول إلى فأر ثم افترسه• يمكن كذلك أن أفترض أن مؤلف الحكاية سعى إلى إثبات مسألة كلامية، وهي أن الجن لا يعلمون الغيب، إذ لو كانوا يعلمون الغيب لعلم الجني وهو في قمقمه أن سليمان قد مات ••• إلى غير ذلك من الافتراضات•سأتصور الآن قارئاً ساذجاً يطلع على حكاية الصياد بغرض التسلية لا غير• هذا القارىء سيتحول رغم أنفه إلى مُؤوّل؛ ذلك أن في الحكاية عناصر تلزمه أن يطرح على نفسه بعض الأسئلة، عناصر مبهمة، وغامضة، شبيهة بألغاز، وليس في النّص ما يساعد على فكها• مثلاً: لا يتساءل القارىء لماذا للصياد ثلاثة أولاد، لأنه يعتبر هذه المسألة عرضية• ولكنه عندما يقرأ أن الصياد كان من عادته أن يرمي شبكته كل يوم أربع مرات، فإنه يقول لنفسه: لماذا أربع مرّات؟ هذا أمر يبدو بحاجة إلى تفسير• عدد آخر يشعر القارىء أنه غير عرضي، وأعني الألف وثمانمائة سنة التي قضاها الجني داخل القمقم• لماذا ألف وثمانمائة سنة؟ عنصر ثالث يشكل لغزاً: الصياد يخلص العفريت فيجازيه العفريت بأن يريد قتله• هذا شيء يخالف التصورات العادية، وبالتالي يدفع القارىء إلى إيجاد تبرير• إجمالاً فإنّ الحكاية ذاتها تستفزّ القارىء وترغمه على البحث عن تفسير لألغازها•سأطرح الآن على القارىء السؤال التالي: من هو بطل حكايتنا؟ لا شك أنه سيجيب على الفور: الصياد• أما إذا سألته: لماذا؟ فإنه سيردد وسيجد بعض الصعوبة في العثور على الجواب• إننا نستطيع أن نعين بصفة عفوية من هو بطل هذه الحكاية أو تلك، ولكننا نشعر بالحرج عندما نحاول أن نعلل هذا التعيين•ليس غرضي أن أخوض الآن في هذا الموضوع الشيق• إن ما يهمني هو البطل بمعنى الشخص الذي يقوم بأعمال جليلة، أعمال باهرة تبعث على التعجب• مثلاً الشخص الذي يقتل وحشاً رهيباً يعيث في الأرض فساداً ويؤذي الناس ويسفك الدماء• الصورة التي تفرض نفسها في هذا السياق، سواء في الحكايات الأدبية أو في الحكايات المصورة، الصورة التي تتبادر إلى الذهن هي صورة بطل شاب يشهر سيفه على تنين مهول ويهم ّبالإجهاز عليه•هل نجد هذه الصورة في حكايتنا؟ ليس بالضبط• هناك بالفعل وحش مخيف وشرير هو الجني، ولكن الصياد الذي يقف أمامه طاعن في السن وضعيف ترتعد فرائصه من الهلع• وعلاوة على ذلك لا يُشهر سيفاً ولا يبارز الجني ولا يقتله• ومع ذلك فإن ما جرى له مع الجني يمكن أن يوسم بالبطولة، بشرط أن نتحدث عن بطولة من نوعٍ آخر، بطولة مخففة لا تكون نتيجتها قتل التنين، الوحش الرهيب، وإنما ترويضه وتدجينه وتأنيسه• في هذه الحالة يُلاحظ أن سلاح البطل ليس هو السيف، وإنما سلاحاً من نوعٍ آخر: الحبل• فالحبل هو السلاح الذي بفضله يُدجن الوحش، بفضله يُعقل الوحش فتُردع غرائزه الخبيثة المؤذية•ولكن ليس في الحكاية حبل، والصياد لا يقوم بالضبط بربط الجني• هذا صحيح ولكن الحكاية تعرض عدّة عناصر يمكن إرجاعها إلى موضوعة الحبل، موضوعة الرّبط• سبعة عناصر على الأقل•1- الشبكة: الصياد يملك شبكة يصيد بها السمك والعفاريت؛ فهي فخ أو شرك أو حبل يشل حركة الضحيّة فتستسلم مُكرهة ذليلة•2- القمقم: القمقم شبكة أو فخ لأنّه يمنع الجنّي الموجود فيه من الحركة• فالجني لا يستطيع الخروج من القمقم، كما إن السمك لا يستطيع الإفلات من الشبكة•3- الدخان: من الملاحظ أن الجني يتحول أو يُحوّل إلى دخان كلما أفلت الأمر من يده• ماهي العلاقة بين الدخان والشبكة؟ الدّخان عبارة عن عُقد رفيعة ولطيفة، فهو يتحرك بصفة لولبية حلزونية، فيرسم حلقات شبيهة بحلقات السلسلة أو الشبكة• ولمن يعترض بأن الدّخان يرمز إلى حرّية الحركة أقول: مادام العفريت متحولاً إلى دخان، فإنّه مُطوَّع ولا شرَّ يُخشى منه•4- العقل: الصياد يمتاز بالعقل، العقل بمعنى الرّباط أو الأداة التي يتمّ بها الرّبط•5- الحلّ والعقد: من يستطيع أن يربط، أن يعقد، يستطيع أن يحلّ، أن يفكّ• الحل والعقد أمران متلازمان: الصياد أثبت قدرته على الحل في ثلاثة مواقف• فلقد غطس عدّة مرات لتلخيص شبكته التي انعقدت بالأرض• ثم إنّه فتح بسكينه القمقم المختوم بالرصاص• وأخيراً خلّص الجنّي من القمقم لمرتين على التوالي•6- العهد: قبل تخليص العفريت، >أخذ الصياد عليه العهد أنه إذا أطلقه لا يؤذيه أبداً< و >استوثق منه بالأيمان والعهود وحلفه باسم الأعظم<• إنّ فعْل >استوثق< يُحيل على الرّبط، كما يُحيل اليمين الذي أدَّاه العفريت إلى وثاق رادع•7- اللّغز: هناك علاقة بين اللّغز والحلّ والعقد• ألا نقول: فلان فك لُغزاً أو حلّه؟ فموضوعة الرّبط تظهر في اللّغزين، وأعني السؤالين، اللذين طرحهما الصياد على العفريت• السؤال الأول: >ماسبب دخولك في هذا القمقم؟ <• والسؤال الثاني:> كيف كنت في هذا القمقم والقمقم لا يسع يدك ولا رجلك فكيف يسعك كلّك؟ <•في العديد من الأساطير، لا يُعدّ اللّغز (أو الأحجية) لعبة يُتلهى بها، وإنّما لعبة خطرة تكون نتيجتها موت أحد الطرفين: إمّا واضع اللّغز، وإمّا المطالب بحلّه• لذلك يجب على الذي يطرح السؤال أن يجعله من الصعوبة بحيث يستحيل على خصمه العثور على الجواب• وبالمقابل يجب على الذي يُلقي عليه السؤال أن يكون من الفطنة والذكاء بحيث يهتدي إلى الجواب•أشهر مثال على ارتباط اللّغز بالموت قصّة أوديب مع سفانكس• لو لم يجب أوديب عن السؤال الذي وضعته سفانكس لهلك، ولكن بما أنّه فد افلح في الاهتداء إلى الجواب، فإن سفانكس هي التي ماتت• لأن السؤال الذي طرحته معروف: من هو الحيوان الذي يمشي في الصباح على أربع، وفي الظهر على اثنتين، وفي المساء على ثلاث؟ الجواب: الإنسان، الإنسان الذي يمر أثناء حياته من حالة إلى أخرى، من الطفولة إلى الشيخوخة•يبدو لي أنّ هناك علاقة ما بين السؤالين اللذين وضعهما الصياد على العفريت والسؤال الذي وضعته سفانكس على أوديب، علاقة على مستوى المضمون وعلى مستوى الموقف السردي• لن يتّضح المستوى الأول إلا بعد مقدمات، لذا سأرجىء الكلام عنه إلى حين• أمّا فيما يخص المستوى الثاني، فإن وجه الشبه لا يخفى• واحد من الاثنين يجب أن يموت: إمّا الصياد وإمّا الجني، أي إمّا واضع السُؤال وإمّا المُطالب بالجواب•لنتذكر السؤال الأول: >ماسبب دخولك في هذا القمقم ؟<• لم يعجز الجني عن الجواب، فلزم أن يموت الصياد ••• لكن المسألة ليست بهذه البساطة• فالصياد بسؤاله اقترف إثماً يُعبّر عنه بالفضول المحرم، وهو فضول سبق له أن سقط فيه عندما فتح القمقم رغم أنّه >مختوم برصاص عليه طبع سيدنا سليمان<• الختم يدلُّ على التغطية وعلى الصيانة فلا يجوز لأحد أن يفتح الظرف وينظر ما في باطنه، وإلا تعرض للعقاب• هناك أسئلة لا يجوز وضعها وأشياء لا يجوز الاطلاع عليها، وإنّ من يخالف هذا التحريم يُجازف بحياته•الفضول وارد أيضاً في السؤال الثاني: >كيف كنت في هذا القمقم والقمقم لا يسع يدك ولا رجلك فكيف يسعك كلّك ؟<• لم يلق الصياد هذا السؤال إلا بعد أن انتزع موافقة العفريت، قاصداً بذلك توريطه: بالإسم الأعظم المنقوش على خاتم سليمان أسألك عن شيء وتصدقني فيه• قال العفريت: نعم• دخل العفريت في اللعبة مدفوعاً بالفضول، بفضول مُتعلّق بسؤال لم يوضع بعد! السؤال الأول عَرّض حياة الصياد للخطر، أما السؤال الثاني فسيكون سبب خلاصه، ولن يتم هذا الخلاص إلا بهلاك الجني• فهذا الأخير سقط في فخ الفضول ولم يفطن إلى كون السؤال مغلوطاً ومبنياً على مكيدة، فكان جوابه (الدخول في القمقم) جواباً غير مناسبٍ• لقد فشل في الامتحان فوجب أن يموت• صحيح أنه لم يمت، ولكنه دفن حيّاً في القمقم وهدّده الصياد بقذفه في البحر وبتركه هناك إلى يوم القيامة، وهي حالة شبيهة بالموت•لنتأمل السؤالين اللّذين وضعهما الصياد، من حيث المضمون هذا المرّة• لا فرق بينهما سوى أنّ الأول يتعلق بالسبب >ما سبب دخولك في هذا القمقم؟< والثاني يتعلق بالكيفية >كيف كنت في هذا القمقم•••؟<• ما عدا هذا الفرق فإنهما مترادفان ويمكن عدّهما سؤالاً واحداً•ما علاقة هذا السؤال بسؤال سفانكس؟ لا بد هنا من بعض الملاحظات:1- إلى جانب موضوع الحل والعقد هناك في الحكاية موضوع التحول• وسأكتفي بإشارات سريعة له: القمقم يساوي في السوق عشرة دنانير، أي يمكن تحويل نحاسه إلى ذهب (وهذا عنصر يحيل على الكيمياء) ؛ العفريت يمر بعدة أشكال فينتقل من دخان إلى كائن ضخم ثم يتحول إلى دخان من جديد وفي النهاية ينتصب مارداً هائلاً• هذه التحولات في شكله مصحوبة بتحولات في نفسيته، وهكذا فإن الاعتراف بالجميل يتلو الرغبة في القتل• وبصفة عامة فإن الجن مشهورة، كما يقول ابن منظور، بتلونها وابتدالها• ومن جهته فإن الصياد ينتقل من موقع ضعف إلى موقع قوة، ومن وضعية فقير إلى وضعية غني•2- للجني عند خروجه من القمقم شكل دخان، أي أنه شيء تافه، شيء رخو ومائع؛ ثم يصير عملاقاً، كائناً بشرياً سوياً، على الأقل يتشكل بصورة كائن بشري• وتؤكد الحكاية أنّ الدّخان >صعد إلى عنان السماء ومشى على وجه الأرض<• وفي هذا السياق أطرح السؤال التالي على القارىء: ماهو الشيء الذي يكون في البداية لا شيئاً، أو شبه لا شيء، ثم ينمو بالتدرّج وفي يوم من الأيام يستوي ويمشي على الأرض؟ -3يربط بعض الباحثين أسطورة سفانكس بغريزة المعرفة عند الطفل بالسؤال الذي يطرحه الطفل والذي يأبى الكبار عادةً أن يجيبوا عنه، السؤال الذي يمكن أن يكون أَنموذجاً للفضول المحرّم: من أين يأتي الأطفال؟ألم يطرح الصياد السؤال نفسه، بصيغة مختلفة؟ ألم يسأل عن الماضي والأصل والبدء؟ ألم يسأل عن سر الولادة وسر النشأة؟كلمة جني مرتبطة، صوتياً ودلالياً، بكلمات أخرى، بالجنون مثلاً (لأن الشخص المجنون يسكنه جني) وبالجنين• ليس هذا الربط بين الجني والجنين من باب اللعب بالألفاظ، وإنما هو من صميم اللغة• اقرأ في لسان العرب: >جن الشيء يجنه: ستره ••• وبه سُمّي الجن لاستتارهم واختفائهم عن الأبصار<• ثم يضيف ابن منظور: >ومنه سمي الجنين لاستتاره في بطن أمه<•تدل كلمة جنّ أيضاً على البداية، أي بداية شيء أو زمن: >يقال: كان ذلك في جنّ صباه أي في حداثته<•إنّ الصدفة وحدها هي التي جعلتني أتصفح لسان العرب وأنتبه إلى العلاقة بين كلمة جن وكلمة جنين• إذاك أخذت الخطوط العريضة لقراءتي للحكاية ترتسم وتتضح وتتأكد• وبالفعل فهناك بين الجني والجنين تماثل قوي• فكلاهما في البداية ملفوف في ظرف، في وعاء مائي• وداخل هذا الوعاء كلاهما بين الحياة والموت (كلمة جنين تعني فيما تعنيه المقبور:
والجنن بالفتح: هو القبر لستره الميت<• كلاهما يخرج من ظلام دامس (عبارة >جن الليل< مشهورة؛ وفي اللسان: >جنون الليل أي ما ستر من ظلمته<• كلاهما غارق في ماضٍ سحيق وغائب عن الواقع، أي كلاهما مجنون، إذا اتفقنا على أن الجنون هو فقط الصلة بالعالم الخارجي• الجنين لا يعي العالم الذي يُطرح فيه، والجنّي متأخر عن زمانه بألف وثمانمائة سنة•لنحاول الآن أن نفهم لماذا أراد العفريت قتل الصياد• لقد ملّ المكوث في القمقم، فصار يُكنّ العداوة للخلق كله، بدءاً بالشخص الذي سيُخلّصه• وإنّ ما يلفت الانتباه هو قوله للصياد: > ما أقتلك إلا لأجل ما خلصتني<• إذا كان للكلام معنى، فإن الجني يُشير بقوله هذا إلى أنه لم يكن يريد الخلاص، أي لم يكن يرغب في الخروج إلى الوجود• فكأنه أصيب بما يُسمى صدمة الولادة•إن أبياتاً شعرية عديدة، عربية وغير عربية، تصف هذه الصدمة، فتُصوّر الحياة في بطن الأم على أنها حياة استقرار وطمأنينة وسعادة، وتصور الخروج إلى الدنيا على أنه خروج إلى الشقاء والتعاسة• بهذا المعنى يفسّر ابن الرومي بكاء الطفل عند ولادته:لِمَا تُؤذنُ الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولدوإلا فمــا يـبـكـيــه منهـــا وإنهـــا لأرحـب ممّـا كـان فيـه وأرغـدوفي إحدى مقامات الحريري تدور الأحداث حول ولادة عسيرة، حول جنين لا يرغب في الخروج إلى الدنيا ويتشبث بالرحم حيث اللامبالاة واللامسؤولية والنعمة الشاملة• ويخاطبه أبو زيد السروجي قائلاً:أيـهـــذا الجنـيــن إنـي نصيـــــــح لك والنصح من شروط الدينأنـت مستعصــم بـكـنٍ كنـيــنٍ وقــــرارٍ مــن السـكــون مـكـيـــنمـا ترى فيـه مـا يروعك من إلْـ ف مــــــداج ولا عـــــدو مــبــيـنفمتــى مــا بــرزت مـنـه تحـــــــولـ ت إلـى مـنـزل الأذى والـهـونوتـراءى لك الشقـاء الذي تلـ قـي فتبكـي لـه بـدمـــع هـتــــونفاستدم عيشك الرغيد وحاذر أن تبيـــع المحقـــوق بـالمظنـــــــونوالعجيب أن الحديث عن هذه الولادة العسيرة يأتي في المقامة مباشرة بعد وصف للبحر وبعد ذكر للسفر في البحر• ثمة علّة ما تربط بين ذكر العنصر المائي وبين ذكر الولادة في ما لا يحصى من الحكايات• إن من قرأ ابن طفيل يتذكر أن أم حي بن يقظان >وضعته في تابوت أحكمت زمّه ••• ثم قذفت به في اليم<•وحكاية الصياد والعفريت تصف صيداً عسيراً، فالولادة الصعبة تأخذ هنا مظهر الشبكة التي يتعذر استخراجها من قعر البحر فيضطر الصياد إلى الغموض لفك خيوطها، كما يضطر إلى فك الرصاص من فوهة القمقم بسكين ليخرج الجني• ولعل هذا سبب حقد هذا الأخير على الصياد• فالجني تتجاذبه نزعتان متعارضتان: نزعة الخروج إلى الدنيا ونزعة المكوث في القمقم• فهو يعود إلى القمقم -الرحم- بعد الخروج منه، ثم يتطلع إلى الدنيا من جديد فيتخلص من القمقم ويقذفه في البحر•عندما خرج من القمقم وجد نفسه منذ اللحظة الأولى في عالم عدائي، في عالم يريد به الشر، بل الموت• لذلك صرخ متوسلاً: >يانبي الله لاتقتلني فإني لا عدت أخالف لك قولاً ولا أعصى لك أمراً<• لقد التبس عليه الأمر فحسب أنه واقف أمام النبي سليمان وبادر إلى الإعلان عن نفسه• وما إن تبيّنت له الحقيقة حتى سارع إلى إعلان عقوقه؛ أقول العقوق لأن الصياد يمتن عليه بأنه خلصه وأخرجه إلى الدنيا ومنحه الحياة بعبارة أخرى: يمتن عليه بأبوته• إن علاقة الجني بالصياد تشبه إلى حد كبير علاقته بسليمان• لقد عاش التجربة نفسها مرتين، مرة مع سليمان ومرة مع الصياد• وفي كلتا الحالتين تتكرر الأفعال نفسها : التمرد، ثم العقاب، ثم التوبة• فرغم المسافة الشاسعة بين النبي والصياد، فإن لهذا الأخير بعض الخصائص المرتبطة بسليمان• أليست له القدرة على النقض والإبرام، وعلى الحل والعقد، وعلى الفتح والإغلاق؟ إنه يسيطر على الحيوان (السمك) وعلى الجن (العفريت) بل وعلى البشر كما يظهر ذلك في نهاية الحكاية >وأمّا الصياد فإنه قد صار أغنى أهل زمانه<•قلت إن علاقة الجني بالصياد تماثل علاقته بسليمان، ومع ذلك لا ينبغي أن نغفل اختلافاً أساسياً بين الحالتين• إن ما حدث للعفريت مع الصياد جعله يتصالح مع العالم ومع الحياة، فتخلّى عن حقده وضغينته وتوحشه؛ لذلك أطلق الصياد سراحه، لأن المخلوقات المدجنة لا تحتاج إلى وثاق•وهنا بالذات يبرز التماثل القوي بين حكاية الصياد مع العفريت وحكاية شهرزاد مع شهريار• فشهرزاد قد استعملت هي الأخرى حكمتها ودهاءها لاقتلاع جذور البغض والهمجية مع نفس شهريار فتحول في النهاية إلى شخص وديعٍ أليف• فجل حكايات ألف ليلة وليلة تبين أنه مهما اتسعت الهوة بين شخصين، فإن بالإمكان تحويل العلاقة المبنية على العنف والقهر إلى علاقة مبنية على الرّقة والوداعة، بفضل العقل والإقناع• ولعل هذه النظرة المتفائلة من الأسباب التي تُحبّب الكتاب إلى الصغار والكبار•