آخر الأخبار

مآذن أم صراع قوى؟

لقد كثُر الحديث عن الاستفتاء الذي تناول مسألة حظر المآذن في سويسرا و عزاهُ البعض للاسلاموفوبيا التي اجتاحت العالم الغربي مؤخرا و أنها هجوم سافِرٌ على الاسلام و المسلمين و هضْم لحقوقهم في بلاد هاجروا إليها فرارا من ظلم أكبر باحثين عن الحرية-الحلم و كان الخطاب كالعادة منقسما إلى ثلاثة جوانب:
الاول: جَلدُ الذات و اعطاء الحق للغرب بفعل ما يُريده فينا طالما أنّ حكّامنا فعلوا ذلك من قبل.
الثاني: الاستناد إلى نظرية المؤامرة و استهداف الاسلام و المسلمين و حرمانهم من حقوق المواطنة في الدول الأخرى.
الثالث: القول بأنه لو عرف الغربيون حقيقة الاسلام لأحبّوه كما نُحبّه و اعتنقوه و انطلقوا منه لصياغة كل أحكامهم القانونية.

لقد خلطت مسألة المآذن أوراق الدين و السياسة و الثقافة و بيّنت إلى حدّ بعيد تقلّص مساحة تقبّل الآخر بالنسبة لدُوَل تقدّم النموذج في الحرية و الديمقراطية لأفرادها و هذا يعود من جهة للصورة التي يقدّمها الاعلام الغربي عن هذه البلدان الذي يخلط بين "المسلم" و "الاسلامي" و يعود من جهة أخرى للوزن العالمي للبلدان الاسلامية و هي دول عالم ثالث لا وزن لها على مستوى القرار الداخلي فضلا عن تسيير العالم و هي لا تملك إلا هيبة الولاء للانظمة القوية و لا تربؤ بنفسها عن أن تكون خادما للاطماع الاستعمارية و تابعا مخلصا لِرَكب الاقتصاد و الثقافة في هذه البلدان.

لم تُقِم البلدان الاسلامية طول تاريخها جُسورا مع الآخر في الحزب المغاير و الدول المجاورة التي تشترك معها في نقاط تاريخية وجغرافية و ثقافية عديدة و أقصد البلدان العربية و الناطقة بالعربية بل ظلت مُحتفظة بمركزية سياسية و اقتصادية و ثقافية خانقة بل كانت تعتبر سكان البلدان المفتوحة مواطنين من الدرجة الثانية و هذا ما يدلّ على أن منطق الأقوى هو الذي يغلب في مرحلة تاريخية مُعيّنة فالقوي هو الذي يُملي قوانينه و هو الذي يُكرّس رُموزه الثقافية حتى لو ألغى وجود الآخر و قد كانت لكل الحضارات المتعاقبة مراحل أوْج أحرقت فيها آثار الحضارات السابقة و المتزامنة معها و قد كان للحضارة الاسلامية دوْر مماثل في تحويل بعض الكنائس إلى مساجد أو تحجيم دورها في وظيفة جمالية و ثقافية فحسب و هذا ما يُعبّر عنها ب"الميتا-ستراتيجيا" و تعني ربط الأهداف الحربية بغايات دينية و أخلاقية تُشرّع لها.

إن غياب الحوار العربي-العربي في عصرنا الحالي -و العائد إلى أسباب سوسيولوجية عميقة لعل أهمها رفض الواقع الذي يقوم أساسا على نرجسية مرَضية و عدم وجود إرث نقدي بل فكر رسمي متشدد -هو الذي جعل هذه البلدان لا تحل مشاكلها في التعليم و التنمية و الصحة و الاقتصاد و غيرها من المسائل الحيوية و لا تعطي أهمية لكفاءاتها البشرية بل تستورد مجلوبات نظرية صنعها مُنظِرون من بلدان أخرى تُسقطها على مشاكلها و في النهاية تجد نفسها تدفع الأموال لصنع مشاكل جديدة في دائرة مُفرغة لا تنتهي فكل عملية استقطاب تُؤدي إلى العنف و التصادم لأنها تنفي التبادل و لا تعترف بالآخر كعقل و كحرّية وتُعيد انتاج القمع بشكل أكثر تطوّرا في كل مرّة.

كثير منا لم يُعِر كبير اهتمام للاعلان عن القيام بالاستفتاء و لم يَقم الكثيرون ممّن كانوا في موقع التصويت "مع أو ضدّ" بواجبهم تجاه هذا "الارهاب المُضادّ" -إذا اعتبرنا وقوع ارهاب على شعوب هذه البلدان سواء من الاعلام أو من المدّ الاسلامي المتطرف في اوروبا و في العالم- لمجرّد اقتناعهم بأن الغلبة للاسلام و أنّ نتيجة الاستفتاء لن تكون لمصلحة حظر المآذن و لكن النتيجة كانت على غير ما توقّعوا بل أكثر كارثية إذ أن هولندا و ألمانيا صارتا من الدول المشجعة على طرح هذا الاستفتاء على شعوبها.

و لا يُمكن أن نُغفل أن أفكارا كهذه تنبع من أقليات دينية و سياسية متطرّفة و لكنّها قادرة بما لها من النفود الاعلامي و الاقتصادي أن تصل إلى مواقع القرار و تُحدث فرقا في وجهات النظر كما أنه علينا أيضا أن نتأمل هذه التجارب الديمقراطية و معنى أن تكون مواطنا في هذه البلدان و تُستشار في كل الأمور بقطع النظر عن استهلاك البضاعة الاعلامية التي تُقدّم إليك إذ أنّهم -في غالبيتهم- لا يملكون غيرها و هنا يأتي الشقّ الخاص بالخطاب الذي يتوجّه للعالم الغربي في التعريف بالاسلام و هو خطاب عاطفي ينطلق من عقيدة و إيمان دون الولوج في مسائل فكرية أو قانونية أو علمية تشدّ عقل الآخر و تجعله يهتمّ بالموضوع الذي تطرحه انطلاقا من هذا الدين الذي تؤمن به و تُريد من خلاله أن نوضّح صورتكَ للآخر و هذا يعود إلى أننا لا نناقش ديننا في بُلداننا و لا نعرف مسائله و دقائقَه و أننا نُسكت بِصوت العُرف و الجهل و المصلحة صوت العقل في ديارنا و نقدّم ترخيصا لعقولنا بالهجرة في اتجاه واحد.

ألا يقوم الوزن العالمي للدولة على الوزن الذي تعطيه لأفرادها، هل للفرد العربي قيمة خارج العائلة و القبيلة و العشيرة؟ هل للفرد أن يفكّر و يتخيّل دون أن يكون مرتديا خوذة الشرطي؟ ألا تتقدم هذه الدول الغربية بمفكّريها؟ ألا يقوم اقتصادها على عقليات فردية خلّاقة تلغي من طريقها كل الحسابات لتتقدّم؟ أليست العقلية المجتمعية الفقهية هي ما يشدّنا إلى الوراء؟ لماذا لا نقبل النقد فنسحب حكم الجزء على الكل فإذا قال أحدهم إن مشروعكَ فاشل نسحب الفشل على صاحب المشروع نفسه و كأن الفشل ليس مرحلة في الحياة و إنّما سِمة دائمة؟ لماذا لا نستفيد من هذه الدول المتقدّمة للنهوض بواقعنا؟ أليست الكتلة الاقتصادية الآسيوية الجديدة دليلا دامغا على امكانية التقدم في هذا العصر الجهنّمي؟ أوَليسَ كل انسان ابن عصرهِ و القادر على التعامل معه؟ أليست هذه النرجسية الجماعية هي السبب في تخلّفنا؟ أليس للدول منطقها و للشعوب منطق آخر، لماذا لا نستيقظ من سُباتِنا و نرى الواقع بعين المنطق و العِلم و نُريح الله قليلا من كل ما ينشب بيننا من مشاكل داخلية و خارجية؟ لماذا لا نُحرّر الكتب الأرضية و السماوية من اجحاف التطرف و ليقرأ كل كتابه من الزاوية التي يراها؟ ألا يرى اليهود أنهم خير أمّة، ألا يرى المسيحيون أنهم خير أمة، ألا يرى المسلمون أنهم خير أمة فليكن و لكن السياسة الاقتصادية و العسكرية و الايديولوجية العالمية تتطلب تحالفات من نوع جديد و علينا انطلاقا من هذا الأساس أن نعمل على تعديل الكفّة في كل مرّة من أجل أن تتوازن القوى أما الكلام باُسم المُقدّس فلا يُنتج إلا الاحتقان و الاقصاء.

و إذا كان الحل مقاطعة البنوك السويسرية فإن المتنفذين من العرب لن يفعلوا ذلك و إذا كان الحل عودة الأدمغة العربية و المسلمة إلى ديارها فإلى أي أتون سيعودون؟ و إذا كان الحل هو الحوار فعلينا التفكير في مضامين جديدة للحوار مع الآخر فضلا عن الحوار داخل الطبقة الفكرية ذاتها و البلد ذاته و إذا كان الحل مطلبا جماعيا فعلى الكل أن يربي أبناءه على العمل و التفكير و احترام الرأي المخالف لأن بهذه الأقطاب الثلاثة نغير نظرتنا لأنفسنا و نظرة العالم لنا و نُرسي ميزان قوة لفائدتنا حتى لو تطلب الأمرُ زمنا.

08ديسمبر2009