آخر الأخبار

نصر أبو زيد: للإعلام العربي دور مدمّر

"النقد التقليدي للأنظمة ينطلق من الحقوق الإلهية و ليس من حقوق البشر"

بالنسبة لخبير الدراسات الإسلامية، نصر حامد أبو زيد، لا يصح تفسير القرآن إلا في ضوء الأحداث التي واكبت انتشار الإسلام في فترة حياة النبي. و هو يؤكد أن الإسلام كعقيدة دينية يحمل آثار الحقبة التي تأسس فيها و شهدت عمل الفقهاء. و لقد أثار دفاع أبو زيد عن هذه الأطروحة في كتاباته أن أستقبل منذ عام 1993 بعداء المتشددين دينياً داخل المؤسسة الأكاديمية بالقاهرة.و لقد استتبع ذلك العداء حرمانه من الحصول على درجة الأستاذية. ثم ما لبث أن امتد ذلك العداء خارج أسوار الجامعة، عبر دعوى قضائية للتفريق بينه و بين زوجه، تحت ذريعة إعلانه الردة، وعدم جواز اقتران المرأة المسلمة- بمقتضى القانون المصري- برجل غير مسلم. و لقد انتهت هذا الدعوى إلى الحكم القضائي بحلِّ زواج الرجل بزوجه، الدكتورة ابتهال يونس. و في عام 1995، إزاء ذلك القدر المتزيد من العداء، اضطر نصر حامد أبو زيد إلى الرحيل عن مصر، ليشغل وظيفة أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة "لايدن" بهولندا، التي تركها مؤخراً ليعمل بجامعة " أوترخت". و هو مؤلف العديد من الكتب باللغتين العربية و الانجليزية. و قد ظهرت الترجمة الفرنسية لكتابه "نقد الخطاب الديني"، لدى منشورات "سندباد" بدار "أكت سود"، و ذلك عام 1999.

أنت تناصر تفسيراً غير حرفي للقرآن، و تدعو إلى الاقتصار في الأخذ منه على القيم الأساسية. و لكن لو طبقنا ما تدعو إليه فما الذي سيتبقى من خصوصية مميِزة للإسلام دون سواه من الأديان أو النظم الأخلاقية؟
ثمة مفكرون يميزون داخل القرآن ما بين جوانب أساسية و أخرى ثانوية أو هامشية. أنا لست من هؤلاء. فما أدعو إليه هو تأويل هذا النص- و سائر النصوص الدينية التأسيسية- مع الأخذ بالسياق التاريخي في الاعتبار.
و تستند تلك العملية إلى مفهوم محدد لماهية الوحي. فالوحي يعد بالأساس عملية اتصال، و هو اتصال يتم غالباً بصورة غير شفهية. و هذا هو المعنى العام للوحي كما جاء في القرآن. و بذلك يكون للعنصر البشري أهميته اللازمة لتمام تلك العملية. و في تاريخ الدين الإسلامي، تم إيلاء كل الأهمية للجانب الإلهي في هذا الاتصال، و ذلك على حساب البعد الإنساني.
لذا، فالأمر لا يتعلق بالتمييز بين تفسير حرفي و آخر أقل التزاما بالحرف، و إنما هو مرتبط بإدراج مجمل الظاهرة (القرآنية، المحرر) داخل سياقها التاريخي. و ذلك هو ما يتيح لنا إدراك طبيعة الاتصال بين الله و البشر المقصودين بالخطاب.إذ علينا ألا نغفل أن القرآن لا يقتصر على مخاطبة النبي وحده، بل هو أيضاً يخاطب مشركي قريش، و المسلمين، و النصارى، و اليهود، الخ...
و إن لذلك التعدد في الأطراف المتلقية، إلى جانب عناصر أخرى، الأثر في كون النص القرآني نصاً موفور الثراء، و متعدد الأبعاد، و من التعقيد بمكان، مما يجعل التفسير الحرفي و غير الحرفي على حد سواء يبدوان لنا على درجة كبيرة من التبسيط و السذاجة.
هذا وإن إدراج الخطاب الذي يتضمنه هذا النص داخل سياقه التاريخي لا يعني استبعاد هذا الجزء منه أو ذاك. و تلك مطية الدعاية التي يعتمدها خصوم هذا المنهج. إذ يجدر الامتناع عن الخلط بين الإسلام و القرآن. فالإسلام غير القرآن. فهو عنوان حقبة تاريخية تلت نزول الوحي. وبطبيعة الحال، بمثل ما للإلمام بعصر ما قبل الإسلام من أهمية لفهم القرآن، تجدر أيضاً معرفة كيف كانت الأجيال القديمة تفهمه و تفسره. و لكن الأجدر بالأهمية هنا هو أن يتم إبصار النص عبر منظار تاريخي.
فالإسلام الذي حمله العرب عند خروجهم من الجزيرة العربية ( إبان الفتوحات الإسلامية)كان أشبه ما يكون بالجنين الذي تخلَّق منه الدين، فكان يضم الإيمان بوحدانية الإله، و بعضاً من المبادئ الأخلاقية الأساسية، الخ. لكن الإسلام ما انتهى إلى الشكل الذي هو عليه اليوم إلا نتيجةً للتفاعل الذي تم بين ذلك الجنين و حضارات البلدان التي انتشر بها.

أنت تؤكد أنه بعد الفيلسوف العربي الأندلسي ابن رشد(1126-1198)، أصيب الفكر الإسلامي بالتصلب. فهل يعني ذلك أن حركات الإصلاح الديني التي ظهرت في العالم الإسلامي منذ نهاية القرن التاسع عشر، مثل تلك التي قادها محمد عبده في مصر، لم تفلح في إحياء هذا الفكر؟
بل كانت بالفعل تيارات إحياء. و كان الإحياء وقتئذ تياراً شاملاً، إذ لحق بمجالات أخرى، مثل الأدب، على سبيل المثال. فكل من محمد عبده و جمال الدين الأفغاني كانا مهتميْن بقضايا أعم و أشمل من المسائل الدينية البحتة، مثل قضايا التحرر الوطني، و مكافحة الاستبداد...ومن هذا المنطلق، يسعنا أن نطلق على ذلك العصر اسم "عصر النهضة".
وحين أتكلم عن "تصلب الفكر الإسلامي" فأنا أعني أن ذلك الفكر قد فقد حيويته. و كانت تلك الحيوية تتبدى عبر تعدد كبير في المدارس الفقهية و الشرعية، الخ. وثمة مجالات فكرية و روحانية قد شهدت تلك الحيوية المتدفقة ذاتها، كالفلسفة، بمدارسها المتعددة (الأفلاطونية الجديدة، الخ)، و الصوفية بمختلف طقوسها، الخ. فذلك العصر، الذي درج على وصفه بالحضارة العربية الإسلامية، قد بدأ في الأفول بعد ابن رشد.
و أنا لا أقول إن تلك التيارات الإصلاحية التي ولدت مع نهاية القرن التاسع عشر لم تضف شيئاً (إلى الفكر الإسلامي)، فالعطاء الذي قدمه محمد عبده ، مثلاً، كان عطاءً جليلاً .لكن السؤال الذي يفرض نفسه ههنا هو: لماذا لم يترجم فكر هؤلاء المفكرين الإصلاحيين إلى أفعال ووقائع؟ و الإجابة تكمن في طبيعة الأنظمة السياسية، و في علاقة النخب الفكرية بهذه الأنظمة، و في الحقبة الاستعمارية و إرثها، الخ، باختصار، في الوضع الكلي الذي ساد في البلدان الإسلامية خلال تلك الحقبة. بسبب ذلك الوضع لم يتمكن الفكر الإصلاحي الذي تتحدث عنه من أن يجد تربة خصبة و أن يحدث تغييراً اجتماعياً.

فما هي نقطة ضعف ذلك الفكر الإصلاحي؟
إن أوروبا، التي كانت بلا جدال قارة متقدمة، و التي جاء تقدمها نتيجة لحركة إصلاح ديني، و حركة فلسفية كتيار التنوير، و ثورة علمية كبرى، الخ، أوروبا تلك هي نفسها التي كانت تحتل أرضنا وتحرمنا من حريتنا. و هنا مفارقة أساسية لم يستطع ذلك الفكر الإصلاحي حل التباسها. و يرجع ذلك إلى أن ذلك الفكر كان ينظر إلى أوروبا ككيان ثابت لا كثمرة لحركة التاريخ. فقد أسهمت فلسفة التنوير أيضاً، على سبيل المثال، في المد الاستعماري؛ فبالنسبة لكثير من فلاسفة ذلك التيار كان العقل الذي يستندون إليه هو "عقل الرجل الأبيض"، المنوط به مهمة قيادة الشعوب المتأخرة!
هذا و كان الفكر الإصلاحي الذي تتحدث عنه معرضاً لضغوط أخرى. فلقد كان عليه أن يجد للحداثة مبررا يستند إليه من داخل التراث الديني! و من هنا نشأت ثنائية التجديد من جهة، و التراث من جهة أخرى. فكان المفكرون التقدميون، مثل محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، يسعون إلى تحديث التراث. و التراث، كما نرى، ظل هو المرجعية الأولى و كان الإصلاح مقتصراً على تحديثه فقط.
ثم كانت أسلمة الحداثة بدلا من تحديث التراث الإسلامي: و كان ذلك هو المقترح الذي تقدم به الجيل التالي من المفكرين. و قد تخلَّق ذلك المقترح في ظروف مختلفة، منها على وجه الخصوص، اختفاء الخلافة العثمانية، الذي يعد حدثاً تاريخياً جللاً. و يمكن أن نذكر ضمن مفكري ذلك الجيل الثاني الإخوان المسلمين الأوائل فضلاً عن سلفهم المصري رشيد رضا(1865-1935). و لقد تحولت معهم ثنائية الأصالة و التجديد إلى قضية مرتبطة بالهوية.

أنت و جمال البنا و مفكرون آخرون غيركما تبذلون جهداً كبيراً لإصلاح الفكر الديني. و لكن مازلتم بعد أقلية...
كانت جامعة أكسفورد، في الأصل، جزءا من المؤسسة الكنسية. و إنما ينبئنا ذلك بأنه، في أوروبا، بدأ التحديث من داخل المؤسسات التقليدية لا غيرها.أما عندنا، فهو يتم من خلال بناء مؤسسات، كالجامعات، ذات وجود موازٍ للمؤسسات التقليدية. فهنا لم تحل الحداثة محل التقليد، و إنما هي تتعايش معه.
المشكلة تكمن أيضا في الحالة المؤسفة التي تردت فيها وسائل الإعلام و نظام التعليم كما تعلم. فوسائل الإعلام، التي تقع تحت سيطرة مموليها، تلعب دورا لا يوصف بأنه سلبي فحسب، بل هو مدمر، سواء فيما يتعلق بالبرامج الترفيهية، أو بتلك المخصصة للمسائل الفكرية. و ثمة محاولات لتحديث التعليم، لكن الإفراط في عدد الكليات الخاصة بالاتصال، و التسويق، الخ ، يتعذر معه إخفاء حقيقة أن ذلك التحديث إنما هو تحديث للواجهة فحسب.

إن حركة الإصلاح التي تذكرها في سؤالك، حركة تعتمد على أفراد لا على مؤسسات. و هي مع ذلك حركة ذات أثر. فما هو أثرها؟
بلى، هي تحظى بشيء من المصداقية، فما من فكرة تخبو تماما عندما يتم رفضها بصورة مؤقتة.فهي تتسرب لتصل حتى إلى لاوعي التقليديين. فقد تمت إدانتي بسبب عبارات مقتطعة من سياقاتها، مثل عبارة "القرآن نص تاريخي"، على سبيل المثال.فبعد وصول الإخوان المسلمين (المصريين)إلى مجلس الشعب، سئل مرشدهم العام عن وضع المسيحيين المصريين داخل دولة إسلامية مفترضة، فأجاب مردداً الخطاب التقليدي المعروف عن جماعته و القائل بالمساواة في الحقوق و الواجبات بين الطرفين، الخ. ثم أردف مفسراً أنه، لتجنب تعريض الأقباط إلى الحرج في حالة الحرب مع دولة نصرانية- و لتلحظوا جيدا استخدام كلمة "نصرانية"-، فسيتم إعفاؤهم من الخدمة العسكرية. و بما أنهم سيتم إعفاؤهم فعليهم دفع تعويض للدولة! و بالطبع، امتنع المرشد عن تسمية ذلك التعويض ب"الجزية".
و لقد أدى ذلك التصريح إلى إثارة المشاعر في مصر بصورة كبيرة، سواء بين الأقباط أو بين المسلمين. فماذا قال شيخ الأزهر؟ قال إن "الجزية" ما هي إلا "ممارسة تاريخية". وهو بذلك يناقض منطقه المعتاد، لأنه، وفقا لذلك المنطق، لا يصح أن تكون "الجزية ممارسة تاريخية"، نظرا لكونها مذكورة في القرآن! و كان بوسعي أن أهاجمه أمام المحاكم و أن أطالب بالتفريق بينه و بين زوجه! فاستخدام كلمة "تاريخي"يدل، في رأيي الشخصي، على أن أفكار الإصلاحيين قد امتدت بأثرها إليه.

في رأيك، يظل الفكر التقليدي و التفسير الحرفي للقرآن هما السائدان في العالم الإسلامي. لماذا؟
لأن الأنظمة تقف في صفهما. فالدولة تؤكد أن ديانتها هي الإسلام و أن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع. فكيف بك لا تريد أن يشعر المفكر التقليدي بأنه قوي و مؤيَّد بفضل كل تلك التصريحات؟ الحرية مصدر خطر كبير على الأنظمة. فلو وُجدت الحرية، ستختفي تلك الأنظمة. كما أن كراهية الحرية تعد من مكونات ذلك الفكر التقليدي، الذي يرى أن الإيمان مسألة منع و تحريم، لا مسألة حرية احتكام و اختيار...
لكن هناك من التيارات التقليدية ما يعمد إلى معارضة تلك الأنظمة...
إن هو إلا صراع على السلطة، من أجل السيطرة على العقول، لا لتحريرها. إذ يتم رفض تلك الأنظمة لأنها"أنظمة كافرة"، "لا تطبق الشريعة"، الخ. فهي لا تنبعث انطلاقا من حقوق البشر بل من حقوق الإله.
وبحسب ما يقول المثل الشعبي المصري، لا يمكن لقردين اللعب على حبل واحد.و هو ما يمثل وصفاً جيدا للصراع بين هذين القردين المتمثلين في الأنظمة و الحركات التقليدية. و يفسر هذا الصراع تحول الدين- كما يتبدى في تجلياته الشعبية - إلى مسخ كريه.لقد كان للدين دوما بعداً روحانيا و أخلاقيا غاية في القوة و الجمال. لكن ها هو يتحول إلى مجموعة من الطقوس، و يتحول بالأخص، إلى كراهية شرسة للآخر. وهذا الآخر لم يعد فقط "القبطي"و المغاير في الدين، فاليوم، صار الآخر أيضاً هو المسلم الذي لا يقوم بواجباته الدينية!

هل تنتقد إذن الدساتير التي تجعل من الإسلام الديانة الرسمية للدولة؟فالمنتهى المنطقي الذي يبلغه هذا النقد أليس هو المطالبة بفصل الدين عن الدولة في البلدان الإسلامية؟
بلى، هذا ما أطالب به بوضوح تام.فالدولة عبارة عن مجموعة من المؤسسات التي تنظم الحياة الاجتماعية. لذا فالدولة الدينية هي محض هراء. و هي أيضاً مصيبة!

يستخدم اليمين المتطرف بعض آيات القرآن لإثبات ما يسميه ب"الطبيعة العنيفة المتأصلة في الدين الإسلامي". فما الذي ترد به على هذا الادعاء؟
ثمة اختيار بين إجابتين. إما أن نذكر-بصورة جدلية- بأن القرآن يتضمن أيضاً آيات تدعو إلى التسامح و السلام، مع تجاهل أن بعض الفقهاء يرون أن تلك الآيات تجبها الآية التي سميت بآية "السيف"، و هي الآية الخامسة في سورة" التوبة". و إما أن نجيب بأنه يوجد منهج لتفسير القرآن يفسر هذا و ذاك، و أن نذكّر بأن الفقه هو الذي قام بالتأسيس لفكرة الجهاد، في فترة محددة من التاريخ، هي فترة الحروب الحدودية ما بين الإمبراطورية الإسلامية و الإمبراطورية البيزنطية.
ينبغي النظر إلى القرآن في مجمله. و يجب عدم الاقتصار على أجزاء منه دون الأخرى، و إنما يجدر تفسيره بوصفه كيان كلي، و في ضوء التاريخ. و عليه، أذكّر بأن مصطلح "الجهاد" يعني في القرآن: " بذل أقصى الجهد" في كافة المجالات، و ليس في مجال محاربة الأعداء فحسب.

تعريف "الجهاد" النازع للحرب ذاك هل يلقى رواجاً لكون بعض الدول الإسلامية واقعة ًتحت احتلال قوى أجنبية؟
هذا مؤكد. فلقد أسهمت أوروبا العلمانية في خلق دولتين دينيتين، الأولى مسلمة، و هي باكستان، و الثانية يهودية، و هي إسرائيل. لكن الاحتلال أمر سياسي. فالدولة العبرية لا تحارب الفلسطينيين باستخدام التوراة و إنما باستخدام جيشها و تكنولوجيتها.

(باب المتوسط)