آخر الأخبار

استعمار جديد

استعمار جديد

أليس علينا طرح الأسئلة التاريخية و إعادة طرحها من جديد؟ أسئلة الهوية التي صار الأقوياء في العالم يروّجون لها كقضية مغلوطة و مفتعلة ليغيّبوا كل لون غير لونهم و كل فكر غير فكرهم حتى يقدموا هوية كونية ليست سوى خصوصيتهم التي وقع ضبط مقاسات الشعوب وفقها حتى صارت ترتديها كحذاء ضيق.

إن ما ينطبق على ما يُسمّى "الآخر الغربي" ينطبق أيضا على الإسلام الاستعماري الذي بدأ يمدّ جذوره على خارطة الشعوب الأخرى لا كَدين و إنما كمسوّغ لاستعمار جديد اُبتُليت به دول المغرب و مازال يمدّ خيوطه العنكبوتية في شكل إعلامي تتكفل به الخطابات الدينية التي تروج لها القنوات الفضائية و تؤثر على عقل المشاهد في الدول الناطقة بالعربية و تفرض عليه مع مختلف أساليب الترديد و الترغيب و الترهيب فكرا مريضا لا علاقة له بالعقل الحر و الاختيار الشخصي للميولات الفكرية أو التصور الخاص للعالم و للذات.

و لا شك أن هذه السموم الثقافية قد وجدت قاعدة لها في الخلل الفكري الذي ينجم لدى الشعب من عدم اطلاعه على المنتوجات الجادة من فكر و إبداع قديمه و حديثه، إبداعا محليا كان أو عالميا مما يجعله فريسة المعلومة السريعة التي تقدمها الفضائيات الدينية و كما أنه يروّج على أن أغلبية المجتمع المسلم لا تجتمع على ضلالة فإن هذا ليس صحيحا في كل الأحوال، ألا يجتمع المسلمون على كرة القدم و يُعادون بعضهم من أجلها و ينقسمون بسببها في حين أن تلك الكرة ليست سوى أموالهم يلهو بها اللاعبون و من يقف وراءهم من أصحاب النفوذ الاقتصادي و السياسي حتى ينفعلوا و يبتهجوا و يثوروا و ينسوا حياة تخلو من الانفعال و البهجة و الثورة، تخلو من الفردية و الحياة.

أليست الكرة "أفيون الشعوب"؟ و هؤلاء الفقهاء الذين يملؤون آذان و أبصار الشعوب بخطاباتهم المُطنِبَة في وصف الجنة و النار و هم يستعملون وسائل رخيصة في التأثير كالبكاء تارة و الضحك تارة و التعبير عن الإعجاب الشديد بأشياء لا تثير الإعجاب أصلا و كل ذلك و المُشاهد تحت تأثير غامر دون أن يكون له الوعي الكافي لنقد هذا الخطاب التجاري الذي هو أبعد ما يكون عن أحكام الفقه و فلسفة هذا الدين التوحيدي العظيم الذي هو الإسلام و إذا نظرنا إلى الشرائح الاجتماعية الأكثر تهديدا من هذا الزخم الاعلامي نجد أنها الشباب من جهة و النساء من جهة أخرى و علينا أن نتخيل مبلغ الضرر الذي يحصل للمجتمع من تأثر هاتين الفئتين بهذه الخطابات التي تصب في خانة استعمار فكري يذكرنا بالاستعمار القديم و محاربة الشعوب الأمازيغية لهذا الإخطبوط الذي يمدّ أذرعه في جبال الأطلس.

و نتيجة لأن الفكر العربي محدود فيما يتعلق بالإسلام فإنه يروّج لأفكار متخلفة كثيرة يعتنقها حتى أهل الثقافة و الإبداع من قبيل أن الكتابة باللغة الفرنسية كُفر و عَمَالة. ألا ينطبق ذلك إن كان صحيحا على الكتابة باللغة الانجليزية؟ و التي تُعتبر لدى الشعوب المشرقية لغة ثانية مقابل الفرنسية في بلاد المغرب أم أن الكفر مغاربي فقط؟

و هم يعتبرون أيضا أن الاستفادة من التراث الجمالي و القيمي الأمازيغي رِدّة و عودة إلى الكفر في حين أنه خصوصية بلاد المغرب الثقافية التي لا يمكن إنكارها و ليس من حقهم إبادتها و لو كان ذلك باسم الدين الإسلامي ألم يكن في التراث الفارسي إضافة عظيمة للإسلام من علماء و مفكرين و مبدعين، ألم تُضِف الحضارة الآسيوية للإسلام؟ فلماذا ينكرون ذلك على بلاد المغرب، ألأن لها تراثا نقديا يستطيع أن يقلب الموازين و ينقي الحقيقة التاريخية من شوائب الاستبداد و استدرار العواطف؟

إن على كل واحد منا إعادة النظر في موروثاته و مسلماته و سيجد أن الكثير من المغالطات تتم باسم الدين و يقع استغلال الدين كدرع واقية لحراسة المسلّمات التي تستفيد منها الأطراف الأقوى في المجتمع أو على المستوى العربي و العالمي.
إن النساء اللواتي يتأثرن بالقنوات الدينية لن يكنّ مشروع فاضلات بل مشروع مجتمع جاهل منغلق تابع منفصم و الشباب الذين يرددون هذه الشعارات الدينية دون امتلاك قاعدة فكرية تمكنهم من فهم تاريخهم و فهم الآخر سيكونون قنابل موقوتة قابلة للتفجير متى زاد الاحتقان عن حدّه. و أنا إذ أذكر الفقهاء لا أذكر العلماء منهم و لا أصحاب الأفكار المستنيرة بل أولئك التجار الذين يرتزقون من الدين و يتبعون خطة تجهيل للمجتمع و ارتداد فكري يمحو كل ما توصلت إليه الشعوب حتى عصرنا ليجعلها تغرق في أوهام الجنة و النار اللتان لم يرهما الفقهاء أنفسهم و لم يتخذوا عند الله عهدا و من نتائج التطرف في هذا الخطاب أيضا ارتداء النساء (و هي الفئة الأكثر قابلية للتأثر بسبب التأثيم الذي تختص به المجتمعات المتشددة) للنقاب الذي ليس سوى إلغاء لشخصيتهن و إنسانيتهن و تشجيع على الانغلاق و العدائية و عدم الفهم الصحيح للدين فالحجاب ليس رمزا إخوانيا بل هو أمر إلاهي و إنما يقصد البعض وضع الحجاب و النقاب في نفس السلة لمنعهما معا .

و من مظاهر الانفصام لدى الشباب القيام بسلوكات متناقضة و الإدلاء بأفكار متناقضة لأنهم يعانون صراعا بين طاقتهم الجسدية و الفكرية المتوقدة و الحبلى بإمكانيات كبيرة في مواجهة سجن فكري باسم الدين يفرض عليهم منع الاختلاط و رفض الفكر المغاير (هذا لا يعني أنني مع الاختلاط المجاني بل مع الاختلاط المقنن الذي يكون فيه مظهر المرأة و سلوكها لا يتقصد إثارة الرجل) فترى في كلام العديد منهم صورة مخالفة للواقع الذي يعيشه كأن يقول إنه يصلي و لا يزني و الحقيقة غير ذلك أو أن يفرض على قرينته النقاب فيحجبها في البيت و يقطع علاقتها بالعالم الخارجي في حين يمارس هو ما يحلو له من تحرر جنسي و غيره أو أن يشارك في تنظيمات سياسية دينية هدفها افتكاك السلطة المدنية و تكريس حكم عسكري يلبس جبة الدين و يبرر ذلك بالدعوة أإلى الإسلام و إخراج الناس من الظلمات إلى النور.

إن المجتمع المغاربي اليوم يعيش صراعا هائلا بين تديّن متشدد تغذيه الفضائيات الدينية و بين تسيّب أخلاقي يمثل ردة فعل على الاحتقان الديني و الفكري السياسي في المنطقة في حين أن الأصوات المعتدلة قليلة و خافتة لأن المجتمعات تتطلب وقتا طويلا لإعادة إنتاج أفكارها و صراعاتها و تكوين طابع معتدل نسبيا يقع فيه تقبل الآخر في سياق المواطنة التي لم تتحقق بعد في مجتمعاتنا.

أوَليس التطرف يمينا أو يسارا نتيجة حتمية للإقصاء و عدم قدرة المجتمع كأفراد و مشارب على التعبير عن نفسه؟ متى يتوقف هؤلاء الهاربون إلى الأمام ليتساءلوا ممّ يهربون و كيف يستطيعون إثبات ذواتهم في واقعهم في اطار التعايش الذي لا يفرض الذوبان أو العنف بل التعايش في إطار المواطنة المحضة التي تكون في دولة تستثمر اختلافات أفرادها لتربيتهم على الاحترام و توقف نزيف الاهدارات التي يتسبب فيها التطرف و العنف و الكبت لنبني مستشفيات و مسارح و كليات عوض السجون و البارات.

07فيفري2010