في الماضي القريب لم يكن الفضاء السوري مزدحما , كانت إذاعة يتيمة وأضيف لها إذاعة أخرى ومن ثم أحدثت إذاعة صوت الشباب , التي لا يعلم الشباب بالضبط لماذا حشر اسمهم في هذه الإذاعة , ولا يعلمون ماذا تقدم لهم هذه الإذاعة .
وكان خيار الناس (قبل انتشار الفضائيات) هو تقليب التلفزيون على المحطات اللبنانية الأرضية والتي كانت ملتقطة بنوعية جيدة في الساحل السوري وكذلك على المحطات التركية والقبرصية لمشاهدة المباريات الرياضية التي كانت تنقل مباشرة .
أما هواة الراديو فقد كانوا يفضلون التقاط المحطات اللبنانية القوية على موجة FM مثل (جبل لبنان , صوت لبنان , صوت الشعب , لبنان الحر,صوت لبنان العربي, والإذاعة اللبنانية الرسمية ...).
وهذه المحطات وإن كانت تنطق وقتها باسم الميليشيات المتصارعة على الأرض -باستثناء القليل- إلا أنها كانت محترفة ومهنية من الناحية الإعلامية , بغض النظر عن توجهاتها السياسية , فقد كانت تقدم الأغنية والخبر والبرنامج والنشاطات وحتى الدعاية بأسلوب متقدم ومهضوم .
وظل الفضاء السوري خاويا من وجود هذه المحطات حتى الأمس القريب , حين سمح لعشرة أو ثلاثة عشر محطة إذاعية بالبث و(احتلال) هذا الفضاء .
وكنا من الذين استبشروا خيرا , فمن غير المعقول أن يبقى الفضاء السوري مشغولا بمحطات الغير ومصادرا لهم , وحسبنا أن هذا سيشكل تعويضا عن نقص طالما اشتكينا منه, وسيبرز المجتمع السوري ونشاطاته الفنية والإجتماعية وستشكل هذه الإذاعات حواضن لتفريخ المواهب في جميع المجالات وسيقدم الأغنية والموسيقى السورية بشكل يقدم دافعا لها.
ولكن مالذي حصل ؟
انتشرت عشرات الإذاعات بلا هوية أو تحضير جيد أو كوادر محترفة , وأخذت تقلد بعضها بعضا في كل شيء , واقتصرت على بث الأغاني الخفيفة والدعايات , صحيح أن بعض هذه الإذاعات قد حاولت الخروج إلى الشارع ورصد النشاطات والفعاليات ولكن كان خروجها مثل خروج عربة النقل التلفزيونية الشهيرة الخاصة بالتلفزيون السوري , مقابلات ومقابلات وكلام معاد ومتكرر .
قلنا , قد يحتاج الأمر لوقت لكي تكتسب هذه الكوادر الخبرة وتخلص (الوهرة) التي نجمت عن جوع لدى أصحاب وكوادر هذه المحطات , ولكن سرعان ما تبين أن هذا غير حقيقي .
فقد انحدرت هذه المحطات بطريقة سريعة نحو الإبتذال والسرعة وقلة التحضير , حتى تلك التي حاولت أن تقدم برامج متنوعة ومفيدة , تجمدت محاولاتها في إطار واحد لاغير ..استضافة شخص وتركه يرد على المكالمات والأسئلة ..وهذه طريقة عقيمة في تقديم المعلومة والفائدة , فالهاتف لا يتيح عرض جوانب السؤال (مثلا في الحالة الطبية) , ولا يتيح الإجابة عنه بعلمية ودقة , مما يؤدي لنتائج معاكسة .
وأصبح الهم هو من يستطيع (لملمة) أكبر عدد من الإتصالات ومن رسائل (SMS) .
وهذا الأمر على سلبيته قد يكون هينا , إذا وجدنا المستوى الذي انزلقت إليه هذه الإذاعات .
فاليوم جاهدت لكي أستمع لجولة صباحية على معظم هذه المحطات , وذهلت حين وجدت أن هذه الإذاعات قد تحولت لأماكن تبيع وتسوق الخرافات وتستضيف الدجالين الذين يمتهنون الكذب على الناس لتحصيل فلوسهم.
فتلك تتدخل في خيارات العمل والسفر والدراسة وأخرى تنصح امرأة بالعقيق والزبرجد لاستمالة زوجهاأو تطلب منها أن تشعل شمعة في المنزل لطرد الشر وأخرى تحسب لك الرقم الكوني وأخرى تطلب من الأهل أن لا يقفوا في طريق زواج فتاة لأن السعد يبتسم لها هذه السنة وأخرى لا تنصح بالسفر أو بالزواج وقس على ذلك ....
كلام يلقى يمينا ويسارا بدون حساب لأبعاده النفسيةوالإجتماعية (عدا عن كونه كذبا ودجلا) وبدون التبصر بنوعية المتصل وخلفيته الثقافية ووعيه ومدى تأثير هذا الكذب عليه , وتلاعب بعواطف وعقول البسطاء في مقابل ماذا..بضعة دقائق على الموبايل أو رسالة قصيرة .
وقد لا يفاجىء الزائر لهذه الإذاعات أن يجد البخور والطاسات والدفوف وأن يجد نفسه أنه في حضرة ملوك الجان , وفي زمن لا يمت بصلة للقرن الواحد والعشرين , وقد يقول لملوك الجان :
علام هذه التجهيزات والأدوات الإلكترونية , فهل من المعقول أن نحتاج لهذه التقنية لكي يصلنا صوتكم !
...إنهم يتلاعبون بالناس وبعقولهم وبعواطفهم ومخاوفهم.
من سلّط هذه الإذاعات على الناس وجعلها تحتل الفضاء السوري , حتى باتت وسائل لتعميم الخرافات والدجل العلني , هل هذا هو دور الإعلام ؟ هل هكذا تفهمون الإعلام ؟
إن الخطورة لا تتأتى من تعميم الشعوذة فقط , بل من الآثار الإجتماعية الأخرى التي تنجم عن هذه الشعوذة .
لماذا تستنكرون وتستغربون أخبار المشعوذين المنتشرة في هذه الأيام وتتسابقون لنشر أخبار فضائحهم ,هم يحتالون على الناس ويسيطرون عليهم لأغراض جنسية أو مادية (وخاصة النساء) بطرق مختلفة منها التنويم المغناطيسي أو بالمخدر ..
ماذا تفرقون أنتم عنهم , إن ما تمارسوه هو أخطر من فعل هؤلاء بكثير ..
فهؤلاء قد لا يتعدى عدد ضحاياهم العشرات أو المئات , أما أنتم فهل تستطيعون أن تحصوا عدد ضحاياكم .
لا بد من مراجعة لقانون البث الإذاعي وتنظيم هذه الفوضى وهذا التخريب , والعودة بإذاعاتنا المنفلتة إلى شيء من احترام عقول الناس , والعودة بالإعلام لممارسة دوره إن كان بالجانب الفني الترفيهي أو بالإجتماعي ونشر الوعي والمعلومات المفيدة بعيدا عن هذه الشعوذة.