آخر الأخبار

ذكرياتي-أم علي (6)

مرحلة الألم :
في نفس الفترة الذي كان لبنان يعيش حربا دامية بين الأفرقاء المختلفين بدأت الاغتيالات في سورية وكان أول اغتيال قرب منزلنا هو اغتيال الشهيد ( عبد الكريم رزوق ) الذي كان منزله قرب منزلنا في الشارع المجاور وكان أولادي مع أولاده في صف واحد في المدرسة وتكررت الاغتيالات ( محمد الفاضل ) و ( إبراهيم نعامة ) و ( محمود شحادة خليل ) و ( نايف وزيد شريطي) في مرحلة لاحقة، وغيرهم من عشرات الرجال الأفاضل من محامين وأطباء وضباط وفي هذه الأيام القيت قنبلة على شرفة منزلنا وكنا بحمد الله خارج المنزل وكان ولدي ( علي ) قد غادر إلى موسكو لمتابعة تحصيله العلمي وصار ( محمد ) لا يترك من يده الرشاش البولوني الصغير ويحمله معه كلما أخذ أخوته في أي مكان أو خرج معي وكنت أتألم كثيرا من هذا المشهد فهو شاب يافع لا يزال في الإعدادية ومع ذلك فقد كانت عيناه ترقب المحيط بحذر و تتحفز للحظة تريد فيها الدفاع عمن تحب .
كانت المنشورات التي يكتبها حزب الأخوان المسلمين تصلنا بالطبع وكنا نقرأ فيها حقدا فظيعا لا نرى له أي مبرر إلا المرض
أو التكفير ونحن الذي عشنا وتربينا على عبادة الله العلي القدير وكنا نعلم أولادنا مثلما تعلمنا أن ( الدين هو المعاملة ) وأن من يخالف حدود الله ليس منا .
فكيف يدعي هؤلاء أنهم مع الله ويقتلون أبطال تشرين وأطباء سورية وعلماءها وكيف يستهدفون من لا ينام وهو يجري لكي يبني بلده... لقد كان أبو علي لا ينام في البيت إلا قليلا وكان أولادي يقولون لي صراحة : نتمنى أن نرى بابا يشبه ذلك الأب المرسوم في كتاب الصف الأول يحمل عدة أكياس من الطعام ويدخل إلى المنزل كانت حاجات البيت مقضية والحمد لله فهناك من يحضر الخبز والخضار هذا صحيح ولكن ( الوالد ) لم يكن في البيت . لقد حُمِلَ أبو علي على حسب المثل الدارج عدة بطيخات وكانت الأسرة واحدة من هذه البطيخات وكان عليه أن يوقع بطيخة واحدة منها ...فهل كنا نحن هذه البطيخة ؟
في عام 1979 وبعد مضي عدة أعوام على منوال واحد من الحياة وكان الأولاد يكبرون دعينا إلى عرس ابنة السيد رفعت الأسد وكان في استقبالنا المرحوم الفارس باسل الأسد من على الباب وعندما دخلنا قبلني ولدي باسل حين الاستقبال فصاحت ( أم إياد ) :
- والله يا أم علي لك حظوة ؟!
حيث أذكر هنا أنني كنت أعرف المرحوم باسل عندما كنت أزور صديقتي الحبيبة (أم هايكو) في بلودان وكان باسل يقطن بلودان من وقت لآخر ..
جلسنا مجموعة من السيدات في جمعة واحدة وكانت السيدة الأولى - أم باسل - أمد الله بعمرها بيننا وسلمنا على بعض وما إن جلسنا حتى بادرت زوجة يوسف الأسعد بالقول بصوت عال موجهة الكلام للسيدة الأولى:
- انظري أم علي ما أحلاها ... ومع ذلك فزوجها تزوج عليها ... أجابتها السيدة الأولى
- ( عنا منو كتير هادا )
وكان مساءً صعبا علي بالكاد تحملته ومنذ تلك الليلة تغيرت حياتي..
وهنا لا أريد حول هذا الموضوع أن أذكر أي شيء إلا للذكرى وأقول رحمك الله يا أبو علي ومثلما سامحتك في حياتك أسامحك الآن وأنت في جوار ربك..
جاءت نهاية 1980 وجاء مؤتمر الحزب السابع ليحمل معه تغيرات كبيرة في البلد خرج فيها زوجي من القيادة وكنا قبل ذلك بسنتين قد ابتعنا أرضا صغيرة ( ستة دونموات )في قرب حمص منطقة - مسكنة - وكان أبو علي قد شرع في بناء غرفتين في هذه الأرض تحدث عنها بعض المغرضين بأنها قصر يشبه قصر شاه إيران وكان القصد تلويث سمعتنا بالطبع وكان أن زار الأرض العماد أول مصطفى طلاس ( أبو فراس ) و عبدالله الاحمر (أبوجهاد) وتحدث طلاس في اجتماع القيادة القطرية أمام الرئيس قائلاً للسيد الرئيس :
- والله يا سيادة الرئيس أن الحديث عن أرض أبو علي وأنها تصلح مهبط للطائرات مضحك ولقد رأيتها ووجدت أنها تصلح محرمة يطويها و ( يحطها بجيبتو ) واللي مو مصدق يتفضل ويروح يزورها
و ضحك الجميع لتلميح أبو فراس .

صار لزاما على أبو علي أن يجد عملا ما يعود عليه بالمال و الأولاد يكبرون و لم يكن يرغب ببقائنا في دمشق ربما لأنه يرى أن العودة إلى حمص تبعد الأولاد عن ممارسات كان بعض أبناء المسؤولين يمارسونها و يكرهها هو كثيرا . وكان أبو علي رجلا لديه فكر صناعي عدا عن فكره السياسي وارتأى أن يبني مصنعا للبلاستيك في هذه الأرض ولكن عازه رأس المال ولم يكن لدينا سوى منزلنا في المزة وهو حيلتنا من مال الدنيا ..
فتح (أبو علي ) معي فكرة بيع المنزل في المزة من أجل تأسيس المصنع في حمص ووعدني بشراء شقة بحمص بنفس الوقت وبعد مدة من محاولات الإقناع الماراتونية قبلت على بيع البيت وكأن قلبي يقلع من مكانه ...
لقد كان بيت المزة مكان الذكريات الحلوة و المرة وبالإضافة لذلك كانت الفكرة كلها تقتضي أن نعود إلى حمص عودة نهائية ونترك وراءنا عشرين عاما من العيش في دمشق لم يكبر فيها أولادي فقط بل حتى أنا نفسي ترعرعت فيها لأني جئت دمشق في السادسة عشر أما لطفلي الأول (علي) .
بعنا المنزل سريعاً نسبياً و بسعر قليل هو ثمانمائة ألف ليرة سورية وغادرنا إلى حمص حيث كان العمل في بناء المصنع في أولياته وكان علي أن أعيش حياة جديدة , الى حد ما ً .
أذكر هنا أن (أبو علي) بقي واحدا من رجال الفكر في البلد ورجال الرأي ولقد أرسل له السيد الرئيس غير مرة رسائل وفاء و محبة و سماه رئيساً لتحرير مجلة المناضل الحزبية ومهمات أخرى لست بصدد ذكرها إلا أنها كانت دليلا على مقدار الثقة و الاحترام .
بالنسبة لي صارت قضية حياتي الأولى أولادي لأنهم كبروا وصار لزاما علي التفكير في المستقبل وكانت كل الأمور تهون وتصغر مقابل لمحة حزن في وجه علي أو مجمد أو سلمان أو فوز أو قحطان أو رولا هؤلاء هم أهلي وناسي ولهم كرست الباقي من حياتي برغم أني لم أتجاوز عندها الخامسة والثلاثين من العمر ...و الآن أحمد الله فهم جميعاً تخرجوا من الجامعات و سمعتهم طيبة و الناس تحبهم و هذا من كنت أرجوه .
لكني مرة و اصدق القارئ قرأت عنوانا لكتاب/ الفرح ليس مهنتي / لمحمد الماغوط وصار العنوان يعن علي على الدوام وبرغم من أنني من النوع الذي ينسى بسرعة إلا أنني صرت أستمد الفرح في الحقيقة من ضحكات أولادي وسعادتهم لا بل وصارت محبتي دون حدود لكل أولاد الناس وأطفالهم حتى أنني صرت أضم إلى صدري أولاد زوجي من / امرأته الثانية / كأولادي وأنا اليوم أحبهم كأولادي تماما . وأتمنى لهم أن يصبحوا بأعلى المراتب وهم خالد وحسان و تمرة .

الدين (المعاملة):
تقصدت أن أفرد صفحات خاصة للحديث عن الإيمان و العبادة في ذكرياتي و أنا التي تربيت منذ صغري على حب الله سبحانه و تعالى و علمت أولادي هذا الحب على أساس أن الدين هو المعاملة بين الناس و ليس التظاهر بأي شيء و ترك الفطرة الإنسانية الصحيحة في نزوع الإنسان نحو الخير و التعايش مع بني البشر بصرف النظر عن انتمائهم الديني . هنا أود القول أنني كنت و لازلت و أولادي نشعر أن المنادي للصلاة في المسجد و الكنيسة هما شيء واحد فقلبي يشعر بالغبطة و الفرح من صوت المنادي للصلاة و ناقوس الكنيسة معاً و كم أتمنى أن يناديا دائماً معاًُ.
أذكر أنه تسنى لي مرة في مكتب أبوعلي في القيادة القطرية أن أحاور الشيخ الجليل المرحوم عبدالستار السيد وزير الأوقاف الأسبق في شؤون الحياة و الدين فرأيت فيه عقلاً لايعرف التعصب و يدعو إلى سبيل الله بالحكمة و الموعظة الحسنة تماماً مثلما يأمر القرآن الكريم . كان الرجل متفتحاً يفهم الحياة و يفهم و يؤمن بدور المرأة في الحياة و بأن ظلماً وقع عليها بسبب الفهم الخاطئ للدين من بعض المتعصبين و هذا الأمر أشعرني كإنسانة و مواطنة سورية بالفرح الكبير أن هناك من المتنورين من رجال الدين في بلدي الكثيرين و سوف يكون هؤلاء السوريون منارة وحدة وطنية ابتعاد عن التعصب و أتذكر قوله أمامي ذاكراً الحديث النبوي الشريف :
(الصلاة عادة و الصيام جلادة و انما الدين المعاملة )
و اليوم من هؤلاء الشيخ الجليل المنفتح الذهن أحمد حسون مفتي سورية الآن الذي رآه شعبنا كله و غبطة البطريرك اغناطيوس الرابع هزيم كل يطعم الآخر في شهر رمضان الكريم لكي يقولوا لنا أن الله محبة و ليس عداء و كراهية .
اذكر أيضا الشيخ و الجار الكريم أحمد راجح الذي جاورنا و عائلته الكريمة في مساكن برزة و كانت فيما بيننا زيارات تعرفت خلالها على زوجته الفاضلة و هي من أشقائنا المصريين و كنت ولا أزال أرى فيه رجلاً كريماً متفتح الذهن و خال من أية عصبية و تعصب و مثل هؤلاء يجعل الإسلام جميلاً و يعطون المثل للآخرين .
كانت عاطفتي ولازالت مثلما تربيت على حب آل النبي (ص) فنحن حسينيون نحب علي (ع) و كل ما يمت إلى علي و هذا أمرنا و أنا أذهب مرة في كل عام إلى مقام سيدنا زين العابدين (ع) لكي أصلي هناك و أعطي لروحي حقها في المناجاة و لقد صار خادم المقام يعرفني و يعرف أنني أذهب إلى المقام كل سنة مع أحد من أولادي أو الأقارب في أحد الأعياد .
بفرح و بكل عزة أريد أن أذكر و أنا أكتب الآن بعد أيام من استشهاد الحاج رضوان (عماد مغنية) أن الشهيد عباس الموسوي قدس الله سره و الشهيد مغنية هذا القائد الكبير قد شرفا بيتنا و عدد من رجال المقاومة
من حزب الله . أكتب لأقول أنني أقف عاجزة عن وصف هؤلاء الناس
و لن تستطيع كلماتي إعطائهم أي حق و أنا التي بكيت بكربلائية و أنا أشاهد جهاد عماد مغنية يعاهد القائد سماحة السيد حسن نصرالله بمتابعة
الدرب على نهج الشهيد .

أريد أن أنصح:
أيها الجيل الجديد :
أتوجه إليكم بمودة لأنكم أولادي و بناتي و أولاد بلدي لأقول أن ليس كل ما ينتجه الاجنبي هو خير ! نحن لدينا الكثير مما يحتاج لعمل و جهد
لكي نتطور لكن لا تظنوا أن ثقافة الأجنبي هي الحل . تمسكوا بالقيم المحترمة عندنا و لن أذكرها فالعقل السليم يعرفها و لا تظنوا أن من يتشبه بالأجنبي (سلوكاً ) سوف يعيش سعيداً .
إن في فنهم أشياء جميلة و رائعة و لكن هناك الكثير من السيئ في ما يطرحه من نمط تفكير و حياة.. نحن نخاف عليكم فانتبهوا و نحن لا نطلب أن تتعصبوا لشيء بل أن تعقلوا أي شيء و تدركوا أن الحياة عطاء و موقف و ليست استهلاكاً .
يتبع....

------------------------
[url=http://www.jablah.com/modules/news/article.php?storyid=6137]الحلقة الخامسة[/url]
[url=http://www.jablah.com/modules/news/article.php?storyid=6126]الحلقة الرابعة[/url]
[url=http://www.jablah.com/modules/news/article.php?storyid=6097]الحلقة الثالثة[/url]